ربما رأى حافظ الأسد في العام 1970 أن حجم سكان سورية، ستة ملايين نسمة، قليلٌ عليه عشيّة استيلائه على السلطة، وربما حَسبَ وهو القادم من المؤسسة العسكرية، التي كان على رأسها عندما هُزمت أمام إسرائيل في حرب حزيران، أن يحقق من خلال سكانٍ أكثر لبلدٍ أصبح للتّوِ رئيساً له توازناً «استراتيجياً» مع قوة إسرائيل المطلقة والمكفولة دولياً، عندما أَصدر مرسوماً تشريعياً يشجّع زيادة النَّسل العام 1971.
تضمّنَ المرسوم إعفاءَ العائلة التي لديها خمسة أولاد فأكثر، من أجور النقل الداخلي، وتخفيضاً في أجور الانتقال بوسائل المواصلات العامة، وكذلك تخصيص مقعد مجاني معفىً من الرسوم الجامعية للعائلات كثيرة الأولاد، بالإضافة إلى تخصيص راتب شهري قدره 25 ليرة سورية لكل فردٍ من أفراد العائلة.
خلال مسيرة عشر سنوات تلت استيلائه على السلطة، استطاعَ حافظ الأسد أن يحتوي ويؤطّر كل فئات المجتمع ضمن هياكل وتنظيمات مراقبة أمنياً، أمّا القادمون الجُدَد، المولودون حديثاً، فقد أَعدّ لهم منظمات تتلقفهم من عمر ست سنوات، وتسير بهم حتى سن الرجولة، ومسيرتهم في تلك المنظمات حددّت إلى حدٍ كبيرٍ فُرص عملهم، بل وحياتهم بحدّ ذاتها.
تدريجياً لم يعد يرى الأسد ونظامه في السوريون سوى «جماهير»، حناجرها تهتف باسمهِ واسم حزب البعث، أو تُحَزَّ أعناقها. جماهيرٌ رُسِمَت لها تخوم ولاءٍ متنوعة، عبر صيغةٍ ديموقراطيةٍ عجزت عنها البلدان المتقدمة!
«هذه صيغتنا الديموقراطية، أقول إنه في ظل مسارنا الديموقراطي، نحن أقرب إلى الديموقراطية، ويمارس المواطن في بلادنا دوراً أكثر اتساعاً وعمقاً من الدور الذي يمارس في الكثير الكثير من بلدان العالم، بما فيها البلدان المتقدمة التي ترفع لواء الديموقراطية…»
خطاب القسم الدستوري الرابع 12/3/1992
والصيغة الديموقراطية الفريدة، ماهي إلا أُطُرُ وتخومُ المنظمات الشعبيّة والنقابات المهنيّة والاتحادات، والحزب القائد الذي يقود جبهة من ستة أحزاب، جميعها مَلَكيةٌ أكثر من الملك، بالإضافة إلى الجيش وستة عشر جهازاً أمنياً، وبالكاد بقي سوريٌ، إلا ما ندرَ، خارج هذه التخوم؛ ورغم صيغتنا الديموقراطية، فقد ظلت تلك «الجماهير» بصفه محددة: «كلهم بعثيّون، نحن السوريون كلنا بعثيّون…».
في كلمته الموجهة لمؤتمر اتحاد الطلبة بتاريخ 17/3/1980، والتي يتباهى فيها بكثرة الأعداد، يقول: «الله أكبر ماذا أرى… الله أكبر ماذا أرى… بحراً أرى… أرى هديراً… أرى ثورة على الظلم وعلى الاستبداد والرجعية أرى…». هذا الافتتان الأسدي بالجماهير، وعديدها، والمُساقة بلقمة عيشها وبالهاجس الأمني، أنقلبَ بعد أقل من سنتين، إلى حرب إبادة وتدمير لمدينة كاملة راح ضحيتها 20 ألف قتيل و15 ألف مفقود وألوف المعتقلين والرهائن في السجون لآمادٍ ماراثونية.
بعد حرب الإبادة تلك، وبعد سلسلة من المجازر، يتقدّمُ الأسد في تفسير واضح لنوعية «الجماهير» التي يريدها:
«… الشباب أمل الحاضر في المستقبل، وأمل المستقبل في الحاضر… من يريد امتلاك المستقبل عليه امتلاك الحاضر، والشباب… عيوننا، جهودنا، عزائمنا، نريدها دائماً باتجاه هذا المستقبل، لكي نبنيه سليماً قوياً، ومعافى، لا ظلم فيه، لا تفرقة، لا تمييز… ولهذا أيها الرفاق والرفيقات، لهذا أنتم مسؤولون في المدارس، أنتم بالتعاون مع إدارات المدارس، وبالتعاون مع المعلمين، وبالتعاون مع المنظمات الحزبية في المدرسة، أنتم مسؤولون عن القسط الأساسي من عملية بناء هذا الجيل».
من خطاب مؤتمر الشبيبة عام 1982
وفعلاً انبنى الجيل كما أراد حافظ الأسد، يخرج في مسيرات ولاء تُوصَفُ دائماً بالمليونية، ليصبح السوريون كلهم أبناء حافظ الأسد، وهو الأب القائد. وأُطلِقَت على الجيل الذي لم يرَ لسورية رئيساً غيره، تسمية جيل الشهيد المظلي باسل الأسد، ونُسِبَت سورية كلها، بناسها وشوارعها وحدائقها وغاباتها ومعاملها ومدارسها وحجارتها وثرواتها وتاريخها للأسد، واختُصِرَت في إعلام النظام وإعلام الممانعة باسم «سورية الأسد».
أما عشية الثورة السورية؛ فقد نفى بشار الأسد أي إمكانية لحدوث شيء مشابه لما جرى في تونس ومصر: «نحن لسنا تونسيين ولسنا مصريين…». واستهجنَ إعلام النظام ومثقفوه وأركان سلطته الظاهرة، أي فعل يمكن أن يقوم به السوريون ضد حكم عائلة الأسد؛ فالسوري هو من يهتف «بالروح بالدم نفديك يا بشار» فقط، وليس الذي يحتجّ على إهانة شرطي سير، والسوريون هم الذين تربوا في منظمتي طلائع البعث والشبيبة والحزب، وانتظموا في النقابات والاتحادات والغرف الاقتصادية، وليسوا هم من يتضامن مع مَنْ وجِّهَت له الإهانة في سوق الحريقة.
والوزير في السلطة الظاهرة هو الذي يعيب على عشرات المحتشدين تجمعهم: «عيب يا شباب… هذه شكلها مظاهرة!»، بينما السلطة الفعلية، «السلطة الباطنة» ونواتها الصلبة من الأجهزة الأمنية، حسمت أمرها عند اندلاع المظاهرات بإعادة سكان سورية، أربعة وعشرون مليوناً، إلى ما كانوا عليه عشية تولي حافظ الأسد عام 1970 حسب ما نُقِل عن أحد قادة الأجهزة الأمنية، وأنه سيتحمل المسؤولية عن ذلك شخصياً.
إذن تمّ تبييت الأمر بشكل مدروس، مزيدٌ من المظاهرات أي مزيدٌ من القتل، وضبطُ السكان يتم من خلال تقليل عددهم، فقد ولّى زمن الضبط بالشعارات وشراء الذمم والتخويف، والعملُ على التخلص من الحمولات السكانية الزائدة عبر القتل والتهجير والحصار والتجويع هو الخيار الوحيد الذي تمَّ العمل به. وقد حدّد بشار الأسد السكان الفائضين عن حاجة نظامه، وعليه التخلص منهم، بالملايين:
«… إذا انطلقنا من حقيقة واحدة بأننا أمام عشرات الآلاف من الإرهابيين السوريين، أنا لا أتحدث عن إرهابيين أتوا من الخارج، وعندما نتحدث عن عشرات آلاف الإرهابيين فهذا يعني أنه خلف هؤلاء حاضنة اجتماعية. هناك عائلة، هناك قريب وجار وصديق وأشخاص آخرون. يعني نحن نتحدث عن مئات الآلاف، وربما الملايين من السوريين».
من لقاء بشار الأسد مع العلماء ورجال الدين وأئمة المساجد والداعيات بتاريخ 23/4/2014
الملايين غير المرغوب فيهم، من قبل رأس الدولة، ويجب إبادتهم أو طردهم، يشكّلون بالصدفة أكثر بقليل من نصف سكان سورية، وهو رقم يكاد يقترب من الرقم الذي توّعد ضابط الأمن السوريينَ بإعادتهم اليه؛ فهناك ستة ملايين تمَّ تهجيرهم إلى خارج البلاد، وهناك أكثر من نصف مليون ضحية، ومثلهم مفقود ومعتقل، وهناك مليونان شوَّهتهم البراميل المتفجرة وطائرات حليفه بوتين، وطائرات الذين عليهم التنسيق معنا عندما يريدون الاعتداء علينا، وهناك قوائم بمليون ونصف اسم مطلوب أمنياً، هذا عدا المهجّرين داخلياً، وعددهم ستة ملايين، عليهم إثبات أنفسهم وملكية خرائب بيوتهم أمام لجان تشكلت عبر المرسوم التشريعي الأخير، وإلا سيذهب الاسم والعقار والمُلك «للسوري» الذي دافع عنها: «… الوطن ليس لمن يسكن فيه أو يحمل جواز سفره وجنسيته، الوطن هو لمن يدافع عنه ويحميه…».
لاحقاً يرتقي الأسد في خطابه إلى مصاف العنصرية، عنصريةٌ تقتصر على الأهل والأزلام والمحاسيب والحبايب، ليصبح التخلُّصُ من ملايين البشر المختلفين، عبر المجازر والحصار والتجويع والتهجير وتدمير البيئات الأهلية، مكسباً خالصاً للوصول إلى مجتمع نقي:
«خسرنا خيرة شبابنا وبنية تحتية كلفتنا الكثير من المال والعرق لأجيال، صحيح، لكننا بالمقابل ربحنا مجتمعاً أكثر صحةً وأكثر تجانساً».
من خطاب في مؤتمر الخارجية والمغتربين 20/8/2017
وإلى جانب رغبة الأسد وأجهزته الأمنية، ومعها، ومع أفعال جيشه والمليشيات الإيرانية الحليفة والطيران الروسي، واكبَ جمعٌ من الصحافيين ودكاترة الجامعات والفنانين وضيوف تلفزة الممانعة، خطابَ بشار الأسد وسلوك أجهزته الأمنية في التخلص من جزءٍ من السكان، ليحظوا هم بعضوية المجتمع المتجانس. ولا أدلَّ على ذلك من أَسَفِ دكتور جامعي في كلية العلوم السياسية، بسام أبو عبدالله، وهو يسخر من الخارجين من تحت الحصار: «هل الطيران الذي كان يقصفهم كما يدّعون، يرمي عليهم حبوب فياغرا؟ حتى يخرجَ معهم (أي أهل الغوطة) عشرون ألف طفل دون السبع سنوات!»، وكأنه يلوم حكومته و«مؤسساتها» التي لم تقم بواجبها كما يجب.
معادلةٌ بسيطةٌ وواضحةٌ من الأستاذ الجامعي، لنقتل الجميع بمن فيهم الأطفال، لأنهم قد يثورون عندما يكبرون.