تتابعُ قوافلُ المهجرين قسراً من الغوطة الشرقية التجمّعَ أمام المدن والبلدات المدمرة للخروج نحو الشمال. الوجوهُ الشاحبةُ للأهالي، الذين قضوا الشهور الأخيرة في الأقبية، لم تغيّرها شمس النهار الأخير قبل الخروج من ديارهم، وربما تجولُ مشاعر مختلطة في بالهم اليوم، بعد أشهر من قصف عنيف ومستمر حول ما تبقى من مدنهم إلى ركام. إذ أن بعضهم سيلتقي رفاقه وجزءاً من عائلته، الذين سبق وهُجِّروا من حي القابون العام الماضي، وهم جميعاً يشاهدون دمشق وباقي سوريا للمرة الأولى منذ خمس سنوات.
عددٌ كبيرٌ من الأهالي اختارَ الرحيل إلى الشمال مع قوافل التهجير، ويبدو أن هذه الأعداد قد ازدادت بعد أنباء متواترة نقلها ناشطون من الغوطة عن انتهاكات واعتقالات في سقبا وحمورية، وعن تحديد النظام لقائمة من المطلوبين في الغوطة، تضمُّ ناشطين في العمل المدني مثل مجالس البلدات والدفاع المدني بالإضافة إلى الناشطين في المجال الإغاثي والإعلامي، وهو ما دفعَ أعداداً متزايدةً إلى الخروج ضمن قوافل التهجير من القطاع الأوسط، الذي يشمل بلدات جوبر وزملكا وعربين وعين ترما التي بقيت في يد قوات المعارضة إلى وقت توقيع الاتفاق مع قوات النظام بوساطة روسية. وتحدَّثَ ناشطونَ أن أعداد الأشخاص الذين سَجَّلوا أسماءهم للخروج نحو الشمال قد يصل إلى عشرين ألفاً، يضافون إلى الدفعات التي وصلت إلى محافظة إدلب.
وانطلقت الدفعة الثالثة من مهجري القطاع الأوسط من أمام حي القابون صباح اليوم، لتلتحقَ بدفعتين وصلتا خلال الأيام الثلاثة الماضية إلى معبر قلعة المضيق في ريف حماة، الذي يفصل بين مناطق سيطرة النظام والمعارضة في الشمال السوري، وضمّتا أكثر من عشرة آلاف من الأهالي ومقاتلي فصائل المعارضة.
وكانت دفعتان من مهجري حرستا تضمّان نحو خمسة آلاف مُهجَّر قد سبق أن وصلتا إلى قلعة المضيق، ليتم توزيع المهجرين على مراكز ساعد وميزناز في كل من بلدتي الأتارب ومعرة مصرين، حسب ما نشر مجلس مدينة حرستا على صفحته في موقع فيس بوك.
وفي ظل الظروف الحالية والفوضى المنتشرة، يبدو أن تحديد رقم ثابت للمهجرين غير ممكن، إلا أن مصدراً من مجلس محافظة ريف دمشق الحرة قال للجمهورية إن «العدد من الممكن أن يصل إلى مئة ألف مهجر نحو الشمال في حال تعرضت دوما لاتفاق مماثل، الأمر الذي سيعني كارثةً على المستوى الإنساني، خاصةً أن المنظمات والهيئات المدنية في الشمال غير قادرة على استيعاب هذه الأعداد الكبيرة في ظل غياب أي دعم من الجهات الدولية». وعلى الرغم من أن عدداً من المنظمات قد سارعت إلى استنفار كامل طاقاتها في الشمال لاستيعاب ما أمكن، إلا أن تزايدَ أعداد المهجرين قد يعني عجزاً شبه كاملٍ عن تقديم المساعدة للخارجين من الحصار.
وكانت بلدات ومدن الغوطة تعرضت منذ بداية العام إلى حملة قصف مكثفة استخدمت فيها قوات النظام والطائرات الروسيّة أسلحة مضادة للتحصينات، استهدفت الملاجئ التي تحمي المدنيين والمنشآت الحيوية التي بُنيَت في الأقبية، كما تم تسجيل استخدام قنابل الفوسفور وغاز الكلور في القصف على مناطق مكتظة بالمدنيين. وبعد حملة القصف هذه تمّ فتح محاور للقتال على عدة جبهات في الغوطة، شملت القطاع الجنوبي في النشابية، التي سقطت بيد النظام بعد نزوح معظم أهلها إِثرَ استخدام غاز الكلور في القصف. كما حشد النظام بقوة على جبهة المشافي في مدينة حرستا لتحقيق الفصل بينها وبين مدينة دوما، من خلال السيطرة على المزارع المتوسطة بين المدينتين.
وكان لتقدم قوات النظام على جبهات الشيفونية والأشعري، أن مَكَّنَها من الضغط لوصل مناطق سيطرتها في مزارع حرستا بقواتها الآتية من المحور الشرقي بعد معارك عنيفة في مسرابا ومديرا، البلدتان الصغيرتان بالقرب من حرستا ودوما.
انهيارُ الجبهات في حمورية جرى تداركُهُ في معركة أخيرة لفيلق الرحمن، إلا أن انهيار الجبهات من جديد نتيجة وضع المدنيين في عين مدافع قوات النظام وتحت وابل نيرانها، أدى إلى تراجع فيلق الرحمن إلى مراكزه في بلدات عربين وزملكا وعين ترما، لتشهد الأخيرة على فصول التفاوض بين وفدٍ ضمَّ ممثلين عن الفيلق والأهالي ووفدٍ روسي، للتوقيع على اتفاق جرى الإعلان عنه في الثالث والعشرين من الشهر الجاري من قبل الناطق باسم الفيلق، وائل علوان.
بالنسبة لجبهات مدينة حرستا، فعلى الرغم من عدم قدرة قوات النظام على تحقيق خرق في عمق المدينة، إلا أن عزلها لمقاتلي المعارضة في حرستا عن باقي بلدات الغوطة من خلال الخرق الذي حققته، والقصف الذي أدى إلى تدمير ما تبقى من أحياء وبنية تحتية في المدينة، أدى إلى قبول قيادة حركة أحرار الشام (الفصيل الأكبر في حرستا) باتفاقٍ يقضي بخروج المقاتلين بسلاحهم الفردي ومن أراد من المدنيين نحو الشمال.
وتشير أنباءٌ متضاربة إلى بقاء أعداد من سكان القرى والبلدات التي سيطر عليها النظام بين ركام بيوتهم، ولا معلومات مؤكدة حول أوضاعهم وأعدادهم، فيما أجبرت المعارك أعداداً كبيرةً من أهالي الغوطة، وخاصة في القطاع الأوسط وحرستا، على الخروج من بيوتهم نحو معابر قال النظام إنها آمنة لخروج المدنيين، منها نقطة الخدمات الفنية في حرستا، إلا أن انتهاكاتٍ سُجِّلَت أثناء عبور المدنيين، فيما أُسكِنَ الواصلون إلى مناطق النظام في «مراكز إيواء» مكتظة تفتقر للخدمات الأساسية. وقال إعلام النظام الرسمي أن قرابة المئة ألف من أهالي الغوطة قد خرجوا من تلك المعابر، إلا أنه ليس هناك أي إحصاءات من المنظمات الدولية لأعداد وأوضاع المهجرين هناك، في ظل انتشار أنباء عن حملة اعتقالات طالت شُبّاناً بينهم.
أما على جبهات مدينة دوما، فقد تراجع مقاتلو جيش الإسلام إلى محيط المدينة بعد خسارتهم للشيفونية والمزارع المجاورة لحرستا، ما أدى إلى حصار ما يقارب مئةً وخمسين ألف مدني في أحيائها. وعلى الرغم من انطلاق مفاوضات بين وفد من مدينة دوما والجانب الروسي، إلا أن القصف لم يتوقف على المدينة، وكان آخر لقاء عُقِدَ يوم الأحد الماضي بين الجانبين قد أكَّدَ على استمرار الهدنة خلال التفاوض، وهو الأمر الذي لم تلتزم به روسيا أو قوات النظام. وبالمقابل، فإن تصريحات نائب رئيس غرفة العمليات في هيئة الأركان الروسية، ستانيسلاف حاجيمحمدوف، قد ألمحَت إلى أن الاتفاق في دوما سيكون مماثلاً لما جرى في حرستا والقطاع الأوسط.
تبدو الصور التي تناقلتها وسائل إعلامية وناشطون لسيارات تابعة لقوات النظام وهي تسرق «تُعَفِّشُ» ما تبقى من بيوت مدينة حرستا هي صورة سوريا اليوم، بلدٌ «يُعَفِّشه» محتلون محليون وأجانب، أما الغوطة الشرقية التي تعرضت لمجازر تلو أخرى طوال خمس سنين، فهي ستبقى تحت ركام أبنيتها، فيما سينتظرُ كثيرون من أبنائها وأهلها على الجانب الآخر من خط التماس في الشمال السوري.