ضجّ الإعلام العالمي البارحة بخبر وفاة عالم الفيزياء النظرية ستيفِن هوكينغ عن عمر 76 عاماً. حظي هوكينغ بشهرة كبيرة منذ بداية السبعينات نتيجة عمله على نظرياتٍ حول الثقوب السوداء، ولكن ليس بسبب ذلك فقط يتذكره الجميع اليوم، بل أيضاً نتيجة محاولاته الكبيرة لتقديم العلوم النظرية المعقدة للجمهور الأوسع. كتابه تاريخٌ موجزٌ للزمن، الذي حظي بانتشار واسعٍ جداً، كان واحدةً من المحاولات القليلة التي قدّمها علماء الفيزياء النظرية لشرح قوانين الكون للناس.
مسيرة الرجل حافلةٌ بعمل طويل وأصيل للإجابة على واحد من أكثر الأسئلة إشكاليةً في التاريخ البشري: «من أين أتينا؟»، وقد قدَّمَ لنا هوكينغ إجابات نظرية مهمة حول الأمر، فمنذ عام 1971 بدأ بنشر عدة نظريات حول الثقوب السوداء التي تضمنت افتراضه لوجود إشعاع صادر عنها على عكس الاعتقاد السائد وقتها بأنها لا تُصدِرُ أي نوع من الطاقة، وقد سُمِّيَ هذا الإشعاع عند إثبات وجوده على اسم هوكينغ تكريماً له.
وكانت نظرية التفرد التي نشرها بالتعاون مع روجر بينروز أحدَ أسباب شهرته السريعة، فالنظرية تُقدِّمُ افتراضات اعتُبِرَت ثورية في ذلك الوقت، إذ استطاعت إظهار أن النسبية العامة تدلُّ على وجود حدود متفردة للفضاء والزمان في الماضي.
شَغَلَ هوكينغ كُرسيَّ لوكاس للرياضيات في جامعة كامبردج منذ عام 1979، وهو المنصب الذي شغله إسحق نيوتن قبل ثلاثة قرون، وقدَّمَ خلال هذه السنوات عدة إنجازات اعتُبِرَت ثورية في الفيزياء النظرية، وعلم الكون. ففي الثمانينات نشر بالتعاون مع جيمس هارتل نموذجَ «حالة هارتِل-هوكينغ»
في العام 2006 اقترح بالاشتراك مع توماس هيرتوغ نظرية top-down cosmology، التي تفترض أن الكون لا يمتلك حالة فريدة من الشروط الأولية التي أدت إلى نشوئه، بل هو ناشئٌ من تراكب عدد كبير ومعقد من الاحتمالات الأولية الممكنة، وأنه بذلك لا يمكننا معرفة الكون بالنظر إليه من أسفل إلى أعلى، بل العكس، ذلك بما أننا نمتلك القدرة على معرفة الحالة الآنية للكون.
لكن أعمال هوكينغ لم تكن خارج دائرة النقاش، فاقتراحه بأن معلومات المادة تُدّمَّرُ في الثقوب السوداء تعرضَ لانتقادات واسعة، وخاصة من علماء فيزياء الكمّ، ليعود ويعترف بأنه على خطأ في وقت لاحق. ودخل هوكينغ في رهان خاسر آخر أيضاً عندما قال إنه لا يمكن أبداً اكتشاف «جسيم هيجز»، الذي اقترح العالم بيتر هيجز وجوده نظرياً عام 1964، إلا أن اكتشاف الجسيم خلال مشروع للفريق العلمي في مُسَرِّع سيرن الذري عام 2012 حَمَلَ هوكينغ على الاعتراف بخطئه، وأحقيّة هيجز بجائزة نوبل للفيزياء التي حصل عليها في العام التالي.
كانت كُتُبُ هوكينغ التي حاولت تقديم العلوم الفيزيائية المتقدمة لجمهور واسع سبباً آخر في شهرته، كتابه تاريخٌ موجزٌ للزمن الذي نُشِرَ في الثمانينات باع أكثر من عشرة ملايين نسخة، ليصبح عالمَ الفيزياء الأكثر شهرة عالمياً، وهي الشهرة التي لعبت دوراً بارزاً في تشكيل صورة الفيزيائي-الفيلسوف، التي دفعت بعلماء الفيزياء النظرية إلى أن يكونوا اليوم «أنبياء العصر»، إذا ما أردنا استخدام صيغة تهكمية كالتي كان يفضلها ستيفن هوكينغ.
منذ صدور كتاب المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية عام 1683 لإسحق نيوتن، بدا أن العلوم الحديثة قادرة على فهم العالم والكون، وعلى الرغم من الخيبات الكثيرة التي أصابت هذا المفهوم، إلا أن تفسير العالم أصبحَ بيد العلوم، بعد أن كان هذا السؤال ملحقاً بالإجابة على سؤال آخر: «كيف نعيش بشكل أفضل؟» منذ جمهورية أفلاطون. كان واضحاً منذ قرنين من الزمن أن محاولة فهم الكون هي وظيفة العلم، وبدا أن اعتماد علماء الاجتماع والفلاسفة لاحقاً على مخرجات العلوم النظرية الأخرى كالفيزياء والبيولوجيا هو تسليمٌ بأن هذه العلوم ستُقاسمها في الإجابة عن أحد أبرز الأسئلة في تاريخ البشرية: «من نحن ومن أين أتينا؟». يقول هوكينغ في إحدى مقابلاته إن قوانين النسبية وفيزياء الكمّ تصفُ الحدوث التلقائي للكون الذي نعيش فيه، من دون تدخل أحد.
ويبدو أن هوكينغ وجد نفسه في العصر الذهبي لهذا التحوّل، ليصبح ضمنياً أحد أهم الفلاسفة في جيله، فاقتراحاته التي وصفت الثقب الأسود قدَّمت أيضاً تفسيرات هامة حول الكون ونشوءه ونهايته، وعلى الرغم من أحقيّة الفيزياء النظرية بهذا الموقع إلا أن النظر إلى الأمر من زاوية أخرى قد يدفع للريبة، ففلسفة العصر التي تُقدِّمُ إجابات حول التعقيدات الكبيرة للكون/السماء لا تملك حسّاً مماثلاً حول ما يجري على الأرض، فعدا عن المواقف المناهضة للحروب، التي من الممكن النظرُ إليها على أنها حياد أخلاقي، لا يمكن لهذا المجتمع (مجتمع علماء الفيزياء) أن يقوم بدور واسع وفعّال في مواجهة تعقيدات الحياة والاجتماع الإنساني.
قبل عدة سنوات، وخلال محاضرة لهوكينغ في جامعة استوكهولم، اقترحَ وجودَ أكوان أخرى كحلٍّ لفرضيته عن ضياع معلومات المادة في الثقوب السوداء، وبغضّ النظر عن قدرتنا على إثبات هذه الفرضية، فإن تثوير المعرفة والنظر إلى أبعد من الحدود المفترضة لها كانت الإنجاز الأبرز للعالم البريطاني ستيفن هوكينغ، والتي بدونها لن نكون قادرين، ليس على فهم الكون فقط، بل على فهم حياتنا ومحاولة مواجهة مشكلاتها.