يضغط براحتي يديه على جفنيه المغمضين ليستعيد متعة لعبة قديمة، عمرها أربعة عقود. حلقات صفراء وخضراء فوسفورية تظهر وكأنها حدود الحدقتين، يفتح بعدها عينيه فجأة، لتظهر الأشياء بعيدة وصغيرة. يستبعد الأجسام كلها ليبقى في نوّارته، حيل استنباذ النفس من الدنيا لم تعد ناجعة بعد أربعة عقود. كبسولة صباحاً قد تساعد على الإقلاع، كبسولة غير فضائية. هناك نوعان: نوعٌ للانتشاء لا يُنصح به أصحاب الميول الانتحارية. تملك معه زمام العالم وتقدر على خلق الفرق، عبارة أميركية بامتياز: قادر على خلق الفرق. تتمكن من قراءة كتاب كل يوم وانجاز كتاب خلال شهر قبل أن تسقط سقوطاً حراً من نافذتك، يرافقه غالباً وساوس اتقان واستكمال وإزالة الغبار وضبط حجم الأشياء على مكتبك بالترتيب. ونوع آخر مثبط  تصبح معه حرباء ترابية تتأقلم بحزن لئيم، حزن المحارب الصدئ، مع كل عناصر الطبيعة، مع الحائط ومع الشرّ والحرب والاقتلاع وموت الأحبة بعيداً وغلاء الأسعار والبطالة والخيانات والخِسّة والوضاعة والنظام الرأسمالي المتوحش وبلاهة الناس وشعورهم المتدني، وتتأقلم مع أنك غير شرعي في أي نقطة من لسانك، تماماً مثل حرباء على حائط أملس، غير شرعي في حياتك في مجتمعك في العالم واعتمالاته التي لا تنتهي وغير المفهومة، غير شرعي في المستقبل وفي الماضي. وستتأقلم مع أنك هامستر عجوز، ظللت تجري على عجلة صدئة بتفانٍ لأنك تعلمت يوماً ما أن الجري أكثر شرفاً من الإقلاع والعزوف. لن يتمكن أن يفعل ما فعلته «سارة كين» في ذهانها، الذهان مدى. الكبسولات تحجبه. اليوم الأول: لا شيء. اليوم الثاني: لا شيء. الأسبوع الأول لا شيء. الأسبوع الثاني: الحكمة الحربائية تتهادى هبوطاً، يبدأ بتفهم أن البكاء هو تأسف باذخ على النفس، فيبكي في داخله منتشياً بفهمه قوانين الاعتباط التي تحكم المجرّة. الفرنسيون يميزون بين المرارة و«التخليل». عندماً تكون «مخللاً حامضاً» تحقد وتحسد وتغضب من اللاعدل، المرارة شفيفة مستوية دون صواعد ونوازل. الكبسولة المثبطة تتركك في المرارة. المرارة أنيقة تهوى التقشف، تكره استهلاك الحساسية والمشاعر مثل السيكارات المحترقة، مثل العلكة التي يلفظها الطفل بعد نفاد سكرّها. قالت له المرأة الفيلسوفة أن الشعر هو لغة المستقبل وليست السياسة، لأنه أكثر دقة. هل من دقة وشعر أكثر من الرجال متوسطي العمر بالبزّات البرتقالية الفوسفورية في محطة «القديس أليعازر» في شمال باريس؟ يرفعون أيديهم ويهبطونها عند اقتراب المترو، بتناغم، لمنع الناس من التهافت وربما من الانتحار أمام السائق الكئيب المقترب، في الخلفية ثلاث عائلات تنادي «ساعدوا إخوانكم من سوريا»، يتساءل السوريون إن كان منشدو الجوقة حقاً سوريين.. رغم الدقة والشعر. القديس أليعازر في محطته الباريسية، شفيع القيامة والمرضى والمجذومين يستمع صامتاً للشعر والرقص الدقيق، لحركات رجال البزّات البرتقالية ممن علكتهم مكاتب التشغيل وبصقتهم بين الناس وبين القطار، ولمانترات «ساعدوا إخوانكم من الشام». يراقب شفيع المرضى استمناء المشرد، البائس والسريع فوق أوساخه وكرتوناته قرب جرذان زوايا المحطة ، يراقب بلا كلمة واحدة. القبول. يصعد الشاب العشريني الغاضب إلى القاطرة، يحذرّ شعراً من الأزمنة ومن النيوليبرالية ومن التوحش ومن الفردانية ومن استلابنا والتغير المناخي والسكة البليدة التي تبعد الناس المتهافتين عن أطفالهم ليعملوا بتفاهة كفاف يومهم. القبول والبكاء انتشاء بموت الله. هي دموع الفرح. الخسارة المحررة من كل شيء، لم يبق إلا عبء واحد: الأهل بعد الله، يموتون وتستكمل أطراف الحرية، الأصدقاء ماتوا. يلقي الباحث المخضرم كلمته عن موت المجتمع السوري وتفككه إلى غير رجعة، ثم يخرج من حقيبته زجاجة بشكل «بطحة عرق» أو فودكا. يستغرق الكل في القبول، كان العلم ومقولات الخرائب كافية ليسكروا دون عرق. في القبول لا يهم تذكر الحكاية وتدوينها، يصبح حلواً تحت اللسان الاندثار وحلواً التسبيح بالسؤال نفسه «كيف أمكننا عيش العنف كله ذاك؟» دون انتظار اجابة، يصبح سحر الحكاية الانسحاب دون الاستذكار.. ودون اجابات. يقترب في الكابوس بسيارة تكسي من بيته الدمشقي في أعالي المدينة دون أن يصل، تنقضّ كتل اسمنتية على صدره، أبنية دون شبابيك بأحجام السفن في تلك المانغا اليابانية التي أرّقت طفولته، الطلعة البسيطة لا تنتهي، يستيقظ في شقته الباريسية مرتاحاً أنه غير محتجز في بلده ومتكدراً بكدر القبول الأخرس. أمنيته الوحيدة أن يدفن أمه بيديه إن توفيت، لا يصرح بذلك، لا وقت لهكذا تصريحات، إعلانها قتل للذة الاندثار غير الصاخب، لا يعلنها فلا مكان لها في حمام الدم الدائر. يُطفئ رجال الشرطة النيران التي يوقدها لاجئون في الجو المثلج، يتشاجر الإريتريون مع الأفغان في وحشة «كاليه». يخرج وزير الخارجية الفرنسي ليقول أن مستوى العنف لم يعد مقبولاً، يحاول أن يترجم كلمة «غير مقبول»، ربما ستكون «مقبولة» أكثر في لغته الأم، تمر في ذهنه سريعاً صورة الرضيعة «عدن»، الطفله السودانية التي ولدت على الطريق بين دارفور وباريس. فوق القيء والبول تحت جسر محطة «ستالينغراد» يسأل الأم الشامخة بعيون قاسية لا ترحم، متحاملاً على ظهره المكسور ومحاولاً كسر الجو المثقل بالبول والقيء: ما اسم الطفلة ؟ «عدن». الموظف جزائري الأصل في مركز الأزمة لاستقبال أول الواصلين من اللاجئين والذي تستخدمه دائرة الهجرة للترجمة إلى العربية وتفسير الإجراءات الأولية للاجئين يصرّ على استخدام كلمة «ترحيل» بدل «انتقال». لا بد أنه ينتقم من العربية ومن الرجل البغدادي الأنيق رغم عفونة الجو في تلك الخيمة الصفراء الكبيرة التي تسمى «فقاعة باريس». كلمات الموظف الجزائري الأصل ليست «مبغددة» بما يكفي. دون رحمة يبصقها. مستوى العنف بين المهاجرين لم يعد مقبولاً، يقول وزير الداخلية الفرنسية. العالم يلوك صور الأطفال المدمّين المدنفين مثل العلكة ما أن ينتهي سكّرها يبصقها. العالم الملول الذي لم يفطم كما ينبغي يلوك يتسلى يبصق ثم ينسى. الظهر مكسور وعليه أن يوازن قواه فيما يذهب إليه، تظاهرات السوريين المنددين حيث السوريون الأوائل لا يريدون سوى صورة الثائر التي لا يعكسها. الظهر مكسور ولكن مرارة الكبسولات تأخذ بيده إلى القبول، قبول أن عمره ليس إلا لعبة فيديو يحاول فيها النجاة لاهثاً إلى الأمام ممن يتسلون به، يعلكونه يبصقونه ثم ينسونه.