في الشتاء كان يعمل في صيد السمك من نهر الفرات، وفي الصيف نادلاً في خمارة بائسة، غير أنه أضاف لنفسه بطولات عبر القول إنه شارك في الحرب الأهلية اللبنانية ضمن إحدى المليشيات منذ كان في عمر المراهقة، وهذه ميزة إضافية يحسبها لنفسه وتُضاف إلى علومه العسكرية، فضلاً عن كونه مُفكِّكَ ألغام وخبير متفجرات في الوقت الحالي.

عندما وقفَ أبو عناد أمام المنزل يتأمله من كافة جوانبه، يبحثُ عن مداخله ومخارجه، نفثَ النَفَسَ الأخير من سيجارته، ثم رماها بعيداً وقال: «المهمة صعبة! ولكن لا تقلق! فأنا أول من رمى الديناميت في نهر الفرات، ومع دخول المولدة الكهربائية محمولة على الزوارق كأحد أدوات صيد الأسماك، كنتُ صاحب الريادة فيها».

قبل دخول أخي إلى البيت، وكي يتأكد من خلوه من الألغام، ذهبَ إلى الفِرَق الخاصة بنزعها، فقالوا له إن دور الحي لم يحن بعد: «عليك الانتظار، لأن هناك 16 حياً يجب الانتهاء منها قبل أن نصلكم». وبما أن اللصوص يسرحون ويمرحون، وعمليات النهب قائمة دون أي رادع، كان لا بدّ له من الاعتماد على نفسه وماله لتأمين بيته، فاتصلَ بالمختصّ الأشهر، أبو عناد.

حَضَرَ الرجل الخمسيني بيديه الفارغتين إلا من عصا مكنسة في رأسها خطاف وقطّاعة أسلاك صدئة. نفى أبو عناد أن تكون له أي خبرة سابقة قبل هذه الحرب بتفكيك الألغام، يقول: «المسألة بسيطة، ليست اختراع صاروخ، تحتاج إلى رجال شجعان لا تهاب الموت وقلبها من حديد»، وأشارَ الى صدره ثم قفز سور الحديقة إلى المنزل.

فَتَحَ نافذة الغرفة بحذر شديد وألقى حجراً من صوان كان في جيبه، فتدحرج الحجر وارتطم بالجدار. قال: «الآن انتهينا من مرحلة الألغام الليزرية والصوتية، هل ترى كم هي سهلة؟!».

مدَّ يده في جيبه وأخرجَ علبة دواء وابتلع منها حبة ترامادول بكل خفة ورشاقة، بدون حتى شرب الماء، وشمّرَ عن ساعديه وقفزَ من النافذة نحو الغرفة وبيده عصاه، يجسُّ بها كأعمى يلتمّسُ طريقه، و«نحن ننظرُ إليه من شقوق النافذة ونضع أيدينا على رؤوسنا تحسباً لأي طارئ». مدَّ العصا ورفعَ الإسفنجة التي كانت على الأرض ببطء وحذر، ثم تحسّسَ السجادة وتأكد أنَّ لا أسلاك مربوطة بها، ثم تفقّدَ باقي الأشياء، وخلال 5 دقائق خرج معلناً: «الغرفة خالية من الألغام». مدَّ يدهُ، وطالب بأجرته.

اشترطَ أن يأخذ عن كل غرفة عشرة آلاف، أما السقيفة والمطبخ بعشرين ألفاً، لأن احتمالية تفخيخها أكبر لوجود البراد والغسالة، وهي مطمع لكل المُعفِّشين من «المحرِّرين». «قُلنا له: اتكل على الله، مُعلنين موافقتنا»، وهنا بدأت حبة الترامادول تفعل فعلها، فبدأ يدخل الغرف من غير رمي الحجر، ولم يعد يجسُّ بعصاه. كان يتحرك كأنه آلة لا تسمع ولا تخاف، «ابتعدنا عن الباب والنوافذ خوفاً من رعونته واستهتاره، وخلال ربع ساعة خرجَ مُعلناً: البيت بأكمله صديق، وأخذَ منّا 60 ألف ليرة حلالاً زلالاً.

دخلنا بعده إلى البيت بحذر شديد، ولكن بعد لحظات زال الحذر. وجدناه منهوباً، فقد سبقتنا إليه يد اللصوص التي دائماً ما تفوز بالسباق. لم نجد البراد ولا الغسالة ولا حتى شاشة التلفزيون، حتى الخزانة مفكوكة على أمل نقلها في مرحلة قادمة. كل ما وجدناه عبارة عن إسفنجات وبقايا ملابسنا، أما ما تبقى من أثاث فقد تم تحطيمه وحرق بعضه دون معرفة الأسباب حتى الآن».

يشابه مشهدُ مدينة الرقة السورية مشهدَ مدينة درسدن الألمانية التي دمرتها قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، ومدينة غروزني التي طحنها الجيش الروسي للسيطرة عليها، إلا أن نقطة الفارق في مدينة الرقة هي أنه اُريدَ لها أن تكون نقطة تجميع لمتطرفين من كل أنحاء «العالم المتحضر».

احتملَ ضميرُ العالم أن يتم تدمير هذه المدينة ذات الحظ العاثر، ويُشرَّدَ أهلُها، لذلك انقضَّت عليها قوات التحالف باستعراض قوة مفرط، وغير مبرر أحياناً. عشرات الصواريخ البالستية، 2400 غارة جوية، قنابل الفسفور الأبيض، إضافة إلى أكثر من 20 ألف قذيفة مدفعية من كل العيارات والأنواع، سقطت على المدينة في غضون 90 يوماً بعد حصارها من جهاتها الأربع. ضُرِبَت الرقة بكميات هائلة من الذخيرة جعلت من بيوتها ومنشآتها أثراً بعد عين، وهو ما اعتُبِرَ انتصاراً على «الإرهاب»، لتُعقَدَ حلقات الرقص والدبكة الهستيرية في الساحات، وفوق الأنقاض الذي ما زالت أشلاء الأهالي تحتها.

بعد أن أُقيمت المهرجانات الخطابية لتعلن النصر، حزم الإعلاميون رُسُلُ التحالف أمتعتهم وغادروها على عجل، وتركَ المنتصرون المدينة في دمارها وكأن زلزالاً ضربها، وأشلاءُ المدنيين المتناثرة في الطرقات تنهشها الحيوانات، باستهتار وقلة مسؤولية أخلاقية أو إنسانية، إذ قّدَّرَت الأمم المتحدة نسبة الدمار الكامل داخل المدينة بنحو 80 %.

المشكلة الأكبر والتحدي الحقيقي أمام الأهالي هو عشرات آلاف الألغام التي زُرِعَت في المدينة، ومنها أكثر من ثمانية آلاف لغم مكشوف، تم رصدها بالعين. في الطرقات، على أبواب البيوت، على الأشجار، في الحقائب، في خزائن الملابس، تحت التراب، في حدائق البيوت، وفي كل مكان يخطر أو لا يخطر على البال، زُرِعَت الألغام، ذلك بالإضافة إلى أطنان من القذائف غير المنفجرة من مخلفات الحرب. تُرِكَ الأهالي وحيدين ليبحثوا عنها، كمن يبحث عن إبرٍ في أكوامٍ من القش. يبدو أن الأهالي هم من سيكونون كاسحات الألغام.

صدرت تحذيرات للمدنيين من المنظمات الدولية عن خطر الألغام، ولكن دون أي عملٍ لإزالتها، ودون تأمين مساكن أو مأوى بديل. داهمَ فصلُ الشتاء الأهالي وهم إما في العراء، أو في ذلّ المخيمات التي تكاد تكون معسكرات اعتقال أكثر منها مراكز إيواء، أو أرهقهم دفع الأموال لبيوت مستأجرة في ظل ظروف اقتصادية بالغة السوء.

المسؤول الأمريكي في غرفة الدعم الإنساني بالأمم المتحدة يقول إن عدد الألغام وفق تقديرات أولية يبلغ عشرات الآلاف، وإن المهمة هي أصعب مهمة واجهتهم في هذا العصر، وأعقد من مخلفات وألغام الحربين العالميتين الأولى والثانية.

أحمد الذي عاد إلى مدينة الرقة قبل شهر ونصف، وصفَ لنا مشاهداته هناك: «من يدخل إلى شوارع الرقة يبكي من هول الصدمة وحجم الكارثة! لا تسمع إلا طنين الذباب ولا تشمّ إلا رائحة الجثث المتفسخة. لا تسمع فيها أذاناً، كل المساجد دُمِّرَت. لا يوجد أي مشفى، فقط مستوصف لمنظمة أطباء بلا حدود في حي المشلب». والمستوصف هو عبارة عن بيت عربي لا تُقدَّمُ فيه سوى الإسعافات الأولية البسيطة، وبعدها فإن أقرب مستشفى يبعد 100 كلم في مدينة تل أبيض، وإذا كانت الإصابة أكثر خطورة، فإن على المرء التوجه إلى مستشفى عين العرب (كوباني)، حيث الأجهزة المتطورة والإمكانات الكبيرة، خاصةً بعد أن تحولت المدينة الصغيرة إلى واحدة من أهم مراكز الشمال السوري وحواضره السياسية والأمنية، والطبية أيضاً.

يستقبل مركز أطباء بلا حدود بشكل متوسط عشر حالات يومياً، جراء انفجارات الألغام أو الذخيرة غير المنفجرة التي أطلقتها المدفعية والطائرات، ذلك حسب تصريح المسؤول عن المركز. 

انتهت معركة التحالف الدولي وقسد في المدينة، لتبدأ بعدها معركة المدنيين الشرسة مع الألغام هناك، وقد تجاوز ضحاياها 300 قتيل موثقين، فيما تنوعت أشكال الألغام: الليزرية، والحرارية، والأشعة تحت الحمراء، ومنها على شكل حصيرة أو مربوطة بشريط. ويُقال إن أميراً في داعش قد قال للمدنيين قبل تسليم المدينة لـ قسد: «ستقاتل الأرض نيابة عنا 30 عاماً»، وكان يقصد الألغام.

تعمل في محافظة الرقة ثلاث منظمات في مجال تفكيك الألغام، وهي منظمة روج المحلية، وتسميتها نسبة لـ (روج أفا)، وهي منظمة تم إنشاؤها عام 2016 في مدينة رأس العين من قبل أفراد كانوا في صفوف قوات حماية الشعب الكردية، ويعمل فيها 20 متدرباً. ذلك بالإضافة إلى منظمتين دوليتين، وهما منظمة ماك البريطانية، ومنظمة تيترا الأمريكية، اللتين لم تدخلا بعد إلى مدينة الرقة، وينحصر عملهما في ريف المدينة والأراضي الزراعية، فيما تتدخل منظمة روج بكادرها المتواضع لتفكيك الألغام تحت أعين الكاميرات فقط.

أكثر عمليات تفكيك الألغام من قبل المنظمة الأولى تمت في استعراضات تخاطب الغرب، مثل أن يتحلق مجموعة من مفككي الألغام، ومعهم ثلة من الندابين، حول كنيسة مدمرة (كنيسة الشهداء)، التي دمرها التحالف الدولي أصلاً، ويتباكون على التسامح والتعايش معلنين أنهم حريصون على دور العبادة وأصدقاءٌ للأقليات. ولا يخلو المشهد كالعادة من وجود نساء شقراوات باللباس العسكري يتقدمن الصفوف، وحول المشهد كله مدينة مدمرة لم تُستخرَج جثث أبنائها من تحت الأنقاض بعد.

أمّا منظمتا ماك وتيترا، فتعملان وفق برنامج خاصٍّ بهما، غير معنيتين باحتياجات المدنيين الملّحة، ففي الوقت الذي كانت المدينة تشيّع ضحاياها بشكل يومي جراء الألغام، توقفت فرق المنظمتين عن العمل في عطلة أعياد الميلاد لمدة عشرين يوماً، وقُتِلَ خلال هذه الاجازة ما يزيد عن 15 مدنياً بانفجار ألغام.

يقول أبو جميل، وهو يعمل مع إحدى هذه المنظمات، إن المنظمات الأميركية والبريطانية لها مهمات مختلفة عمّا تعلن عنه، فأولويتهم هي الدخول إلى مقرات تنظيم داعش ووضع اليد على المستندات والوثائق والأجهزة الالكترونية من موبايلات لعناصر التنظيم وأجهزة كمبيوتر، وبما أن أغلب المقرات والتجهيزات ربما تكون مفخخة، كان لا بدَّ من فرق تفكيك الألغام لتسهيل العمل.

أما المهمة الثانية كما يقول أبو جميل، فهي مرافقة خبراء سلاح ومهندسين، وربما بعض مندوبي شركات الأسلحة، للبحث والتقصي عن الآثار التدميرية والفعالية القتالية للأسلحة المستخدمة، ومساحة الدمار الذي أحدثته، خاصة إذا عرفنا أن الرقة أصبحت ساحة تدريب وتجريب ورماية لجميع شركات الأسلحة، بهدف معرفة جودة إنتاجها في حقل رماية مجاني على المساكن والمنشآت وأجساد المدنيين، الذين يقدر عدد الضحايا منهم بنحو 1800 ضحية، أكثر من نصفهم لا تزال جثامينهم عالقة تحت أنقاض بيوتهم.

ما زال الأهالي ينتظرون جرافات التحالف المؤلف من 72 دولة والمحملة بالوعود الكبيرة، ولكن هذا لم يفِ بوعد إخراج جثة واحدة حتى الآن، ذلك بالإضافة إلى منظمات التوعية التي تحذر من مخاطر الألغام، ولكن رسالتها النهائية تنتهي إلى القول: «احذر من العودة إلى بيتك قبل أن نسمح لك، ولا نملك برنامجاً زمنياً لذلك».

يروي بسام جانباً من المعاناة مع الألغام، فهو يقول إنه أحضر عاملاً من المتحف، وهو مكان يجتمع أمامه عمال المياومة، ليدخل إلى قبو البيت ويقوم بتعزيله من الحجارة المتساقطة، وإخراج بعض الأمتعة، مقابل 50 دولاراً. ويقوم بمهمة إضافية مقابل هذا المبلغ، وهي التفتيش عن الألغام وتأمين المكان، ولكن للأسف كان دوره كاسحةَ ألغام، إذ انفجر به لغم قتله على الفور، وبعد أن تم إخراج الجثمان، وخلال ساعة واحدة، حضرَ عاملٌ آخر ليكمل المهمة نفسها وكأن شيئاً لم يكن، دون تدخّلٍ من فرق الألغام ولا من أي جهة أخرى غيرها.

الفقر والعوز كان الدافع الأساس لهؤلاء الناس كي يكونوا استشهاديين، يغامرون بحياتهم من أجل لقمة عيش مغمسة بالدم، وأغلب عمال المتحف أصبحوا فرقاً لتفكيك الألغام مع رفع الأنقاض مقابل أجر. يقول العامل أبو ياسين: «نقف هنا منذ الصباح ننتظر رزقنا، ولكن كل العمل الطلوب هو أن تكشف للزبون عن ألغام بيته، وبما أننا الفئة الأكثر فقراً، كانت هذه المهمة من نصيبنا، ككل الفقراء الذين دائماً تقع على عاتقهم مهمات الموت والشقاء. ماذا نفعل؟ إن لم نعمل سنموت من الجوع، وهذا هو العمل المتوفر، فمن نجا منّا من القصف سيقتله اللغم. كل يوم تقريباً يُقتل من هؤلاء العمال شخصٌ أو أكثر. قبل أسبوع قُتِلَ أَخوَان بلغمٍ عندما كانا يرفعان الحجارة».

أغلبُ الألغام تم تفكيكها بجهود فردية وخبرات محلية بسيطة، فقد تدخَّلَ بعض الشبان ممن لديهم معرفة بسيطة بالدارات الكهربائية، أو في مجال تركيب الستالايت، وبعض الخبرات الفنية البسيطة. أصبحت مهنة تفكيك الألغام مقابل أجر مهنةً متعارفاً عليها، لها أهلها وأعرافها ومحترفوها، الذين يجوبون الحارات والأزقة كالباعة المتجولين، ولكن أغلب المدنيين لا يملكون المال اللازم لدفعه للانتحاريين مُفكّكي الألغام، لذلك يكتفون بزيارة بيوتهم والوقوف أمامها أو الطواف حول أسوارها وإشباع النفس، ريثما يتم تأمين المال اللازم لفكِّ الألغام من حوالة مالية موعودة بها من ابنٍ يعمل في تركيا، وهي الحوالة لتي ربما لا تصلُ أبداً.

الرقة ليست مدينة محشوة بالألغام فقط، ولكنها أيضاً تجلس على ألغامٍ من نوع آخر، وربما سينفجر في أي لحظة لغم سياسي ولغم اجتماعي ولغم اقتصادي، وربما أكبر من ذلك. هي الآن صرخةٌ في واد، ولكني على يقين أنها غداً ستأتي بالأوتاد.