لم يحمل الطريق الحربي في درعا هذا الاسم نتيجة المعارك التي دارت عليه، بل لأنه كان مخصصاً قبل الحرب لنقاط وآليات قوات حرس الحدود السورية (الهجانة)، وقلّما كان يتم استخدامه من قبل المدنيين لأنه كان قليل الفائدة فيما يتعلق بالتنقل بين قرى وبلدات درعا، ويتوزع عليه عناصر الهجانة، ذلك باستثناء بعض أهالي مدينة درعا ونصيب وتل شهاب، الذين يملكون مزارع تمتد على جانبيه، وهي في أغلبها مزارع لأشجار الزيتون والرمان.

الطريق الحربي في درعا جزءٌ من طريق محاذٍ للحدود السورية بأكملها، وفي محافظة درعا يمتد في أقصى جنوبها مسايراً للحدود الأردنية التي يبتعد ويقترب عنها بمسافة تتراوح بين 1 و8 كم. يشرف في قسم منه على مدينة درعا، ويصل امتداده بين بلدتي نصيب في ريف درعا الشرقي، وتل شهاب في ريفها الغربي، إلى حوالي 45 كم، يصعد ويهبط ويتعرج وينعطف بشكل حاد بين تلال عالية نسبياً.

لتحميل الخريطة بدقة عالية، الضغط على الرابط

لعل أفضل وسيلة للحديث عن الطريق الحربي بشيء من التفصيل، كانت من خلال عبوره مع «أبي مصعب الحريري»، النازح من قرية نامر إلى بلدة الغارية الغربية منذ عام 2013، ذلك أن أبا مصعب صار يحفظ الطريق الحربي عن ظهر قلب، بعد أن مرَّ عليه مئات المرات ذهاباً وإياباً.

كانت الساعة تقترب من الثامنة صباحاً عندما وصل أبو مصعب بسيارته الـ (هونداي 2700) إلى مفرق الغرايا في مدينة صيدا حيث كنتُ أنتظره، ويمكن القول إن أبا مصعب تاجرٌ صغيرٌ جداً، فهو يحمل في سيارته بطاريات الجيل والأسيد، وألواح الطاقة الشمسية، وكل ما يلزم من معدات أخرى يتطلبها توليد الكهرباء عن طريق الشمس، ليوزعها في قرى وبلدات ريف درعا الغربي لزبائن معلومين لديه. ويحصل بعض تجار قرى وبلدات ريف درعا الشرقي على البضائع كالألبسة والأدوات والأجهزة والمحروقات من السويداء، عبر دخولها إليهم من قرية صمّة الحدودية مع درعا، ثم ينقلونها إلى ريف درعا الغربي عبر الطريق الحربي، وهو الطريق الوحيد الواصل بين الريفين والخاضع لسيطرة فصائل المعارضة المسلحة.

جاءت ضرورة السيطرة على الطريق الحربي، وتأمينه من قبل فصائل المعارضة المسلحة في درعا، عندما سقطت خربة غزالة في وسط المحافظة بيد قوات النظام، ثم أحكم النظام سيطرته بعد ذلك على الطريق بين بلدة الغارية الغربية في ريف درعا الشرقي ومدينة داعل في ريف درعا الغربي، في ربيع وصيف 2013، فاصلاً بتلك السيطرة الريفين عن بعضهما، مما دفع الفصائل المسلحة للبحث عن بديل آخر يصل بينهما.

هكذا أطلقت الفصائل معركة شاركت فيها، إلى جانب الجيش الحر، فصائل إسلامية بشكل واسع، كان من أبرزها حركة أحرار الشام الإسلامية، وجبهة النصرة، وحركة المثنى الإسلامية، بهدف السيطرة على معبر درعا – الأردن/الرمثا (الجمرك القديم)، وتمكنت في أواخر أيلول من انتزاعه من قبضة النظام. ثم شنت هجوماً في تشرين الأول من العام نفسه، 2013، على أكبر كتيبة للهجانة في درعا، والمتواجدة على الطريق الحربي، لتفرض سيطرتها عليها أيضاً، مؤمنة بتلك السيطرة عقدة وصل بين الريفين.

لكن هذه العقدة القريبة من أماكن تمركز قوات النظام بقيت مكشوفة على نيرانه، وعرضة لقصفه الذي أصاب العديد من المدنيين والعسكريين، فكان الوصول إلى الحربي مروراً بتلك العقدة يشكل خطراً على الجميع، حتى سيطرت فصائل المعارضة في ربيع 2015 على معبر نصيب، ليصبح الوصول إلى الحربي عبر المرور من بلدة نصيب أكثر أمناً.

نتركُ مدينة صيدا خلفنا، ونصعد فوق جسر أم المياذن، فيسألني أبو مصعب: «هل نسلك الطريق الطويل أم الطريق القصير؟». في الواقع ما كان أبو مصعب ليسألني هذا السؤال قبل الإعلان عن الهدنة في تموز الماضي، فهو أوتوماتيكيا كان سيختار الطريق الطويل.

كلا الطريقين سيقوداننا إلى الحربي، إلا أن هنالك فارقين اثنين بينهما؛ يتعلق الفارق الأول باختصار المسافات، والثاني مرتبطٌ بعامل الأمان. فالطريق الطويل يعني ذهابنا إلى بلدة نصيب الحدودية مع الأردن، والواقعة في الجنوب الشرقي لدرعا، ومنها ننطلق عبر بداية الطريق الحربي، والذهابُ على هذا النحو آمن نسبياً من قذائف النظام. أما سلوكُ الطريق القصير فيعني دخول أم المياذن، فدرعا البلد مروراً بالجمرك القديم، وصولاً إلى الطريق الحربي، واختصار مسافة (15 كم) تقريباً، وقد أصبح هذا الطريق مقبولاً فقط بعد الإعلان عن الهدنة، التي تضمنت بين شروطها وقف العمليات القتالية وقصف الطيران، وبالتالي عبوراً أكثر أمناً من خلال درعا البلد والجمرك القديم، التي كانت نقاطاً ساخنةً جداً.

أدخلُ مع أبي مصعب درعا البلد في حوالي الساعة الثامنة والثلث، بعد أن اتفقنا على سلوك الطريق القصير، وسيتوقف دخولنا إلى الجمرك القديم على ما سيُخبرنا به حاجز الجيش الحرّ المتواجد قبل الجمرك، فأحياناً يتم خرق للهدنة، ويتعرض الجمرك للقصف بالقذائف من قبل قوات النظام، الأمر الذي سيجبرنا حينها على السير جنوباً، وسلوك طريق ترابي بين بساتين درعا البلد، لمسافة تقارب 5 كم للوصول إلى الطريق الحربي. كان الحظّ حليفنا حين أشار لنا الحاجز بالمرور، فقوات النظام ما تزال نائمةً.

العبور من الجمرك القديم، هو عبور بطيء ويشعر المرء بالضيق والقلق، واجتيازه يعني الاقتراب من الطريق الحربي، والابتعاد عن عقدة الخطر.

يُطفئ أبو مصعب سيجارته في منتصفها، وذلك قبل وصولنا إلى حاجز هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، المتواجد إلى الجنوب من الجمرك القديم على الطريق الحربي. وأعتقدُ أن هيئة تحرير الشام اختارت موقعاً استراتيجياً لحاجزها، فالحاجز فوق بقعة مرتفعة، وهو قريب من الحدود الأردنية التي لا يفصله عنها سوى عشرات أمتار، والأهم من هذا وذاك أنه يشكل نقطة التقاء الطريقين القصير والطويل على الطريق الحربي. وأظنُّ أن هيئة تحرير الشام تريد من إقامتها لهذا الحاجز تذكير الجميع بأنه كان لها دورٌ كبيرٌ في طرد قوات النظام من معبري درعا الحدوديين والطريق الحربي.

تجاوزنا حاجز هيئة تحرير الشام، أو حاجز الجبهة، وهي التسمية التي يُجمع عليها الأهالي، في حوالي الساعة التاسعة إلا عشر دقائق، وانفتح الطريق الحربي أمامنا. يأخذنا الطريق هبوطاً وصعوداً، تحتضنه مزارع وأراض خضراء، وفوقه سماء صافية لا يشوبها إلا منطاد صغير، وهذا المنطاد موجود في الأجواء غالباً، ويُقال إن السلطات الأردنية أطلقته فوق الطريق الحربي وحمّلته بجهاز مراقبة.

«هنالك مطب أمامنا بعد بضعة أمتار… سآخذ أقصى يساري هرباً من تلك الحفرة… بعد قليل سنواجه منعطفاً قاسياً»، كانت تلك بعض العبارات التنبيهية التي قالها أبو مصعب على الطريق، وهو يتمتم قائلاً: «متى سيصلحون هذا الطريق؟ يتوجب على الجهات المحلية أن تهتم بوضع الطريق، أين المنظمات المدنية والإنسانية والإغاثية منه؟».

يصل عرض الطريق الحربي إلى حوالي عشرة أمتار، وفي الحقيقة لا يستخدم من هذه الأمتار العشرة إلا ما يقارب ثلثها. ويمكن وصف حالة الطريق بالكارثية، فهو مملوء الحفر، وأغلب إسفلته متطاير، ويحتاج إلى إعادة تأهيل وتعبيد.

يرجع وضعه المزري هذا إلى أنه تعرض بشكل كبير لقصف النظام، كما أجهدته حركة السيارات والآليات والشاحنات الثقيلة، ولا سيما الشاحنات الإغاثية القادمة من المعابر الإنسانية المتواجدة في تل شهاب والمتجهة إلى ريف درعا الشرقي، دون أن تتم صيانته من قبل أي جهة. غير أنه ومنذ فترة شهرين تقريباً قام مجلس محافظة درعا الحرة بترميمه، من خلال تغطية بعض حُفره ببقايا المقالع.

يتوقف أبو مصعب عند صديقه أبي مزيد في حوالي الساعة التاسعة والربع، وأبو مزيد صاحب كشك صغير أقامه على الحربي، يقدم فيه السندويش والمشروبات الساخنة والباردة للمارة. نزلَ أبو مصعب ليشرب الشاي مع أبي مزيد، وأنا بقيتُ في السيارة أراقب السيارات والشاحنات المحملة بالخضار، القادمة من الريف الغربي، والتي ستفرغ حمولتها في قرى وبلدات ريف درعا الشرقي.

لا يخطئ الأهالي أبداً عندما يجزمون بأن الحربي شريان الحياة وعصبها في قرى وبلدات درعا الخارجة عن سيطرة النظام، فهنالك شبه تبادل تجاري بين الريفين، كما أقام بعض الأهالي عليه أكشاكاً ومحلات صغيرة، يبيعون فيها المشروبات أو العصائر أو المحروقات للعابرين. كذلك أقام عددٌ منهم ورشاً صغيرة لتصليح أعطال السيارات والشاحنات والدراجات النارية، فالحربي يشهد ومنذ ساعات الصباح وحتى غياب الشمس، عبور عشرات بل مئات المركبات في اليوم الواحد.

نصف ساعة أو أقل تفصلنا عن إنهاء الطريق الحربي ودخول بلدة تل شهاب، ولكن قد يختار كثيرون عدم الوصول إلى تل شهاب، ومغادرة الطريق الحربي عبر الذهاب إلى قرية خراب الشحم، وهي إحدى قرى ريف درعا الغربي الواقعة على كتف الطريق الحربي. إلا أن أبا مصعب لم يختر دخولها، بالرغم من أن ذلك سيختصر علينا مسافة 6 كم، والسبب أن الذهاب إليها يتطلب نزولنا في وادٍ ثم السير في طريق ترابي تتخلله صخور وحصى كبيرة.

«الحمد لله على السلامة»، يقول لي أبو مصعب مع دخولنا بلدة تل شهاب، ويتمنى ألّا يكون الطريق قد أرهقني، أو ألّا تكون سيارته التي تمايلت يميناً ويساراً مرات كثيرة طوال الطريق قد أتعبتني.

يمكن القول إن الطريق الحربي طريق مرهق بحق، وكثيراً ما يكون خطراً، فعدا أنه قد يتعرض للقصف، خاصة عند جزئه القريب من درعا البلد، فهو يشهد أيضاً حالات اغتيال وخطف وزرع لعبوات ناسفة وتفجيرات، وقد تم استهداف مدنيين وقياديين في فصائل المعارضة المسلحة عليه. لكنه يبقى أهم طريق في مناطق درعا الخارجة عن سيطرة النظام، وعندما حاول النظام قطعه في معركة المنشية الأخيرة، أُصيب أهالي الريفيين الشرقي والغربي بالهلع والخوف الشديد، وعملت الفصائل المسلحة جاهدة وبكل قوتها على صدّ تلك المحاولة، ونجحت في الحفاظ على الطريق الوحيد الرابط بين الريفين.