شبح الديمقراطية التوافقية يحوم حول سوريا هذه الأيام. بعد التجربة اللبنانية مع التوافقية الميثاقية،
لقد تم اقتراح واعتماد الديمقراطية التوافقية في العديد من البلدان التي شهدت نزاعات في مختلف أنحاء العالم، من كينيا إلى البوسنة والهرسك وصولاً إلى أيرلندا الشمالية. تأخذ هذه الديمقراطية شكل ترتيبات لتقاسم السلطة بهدف الحد من التوترات في مجتمعات تشخّص على أنها «شديدة الانقسام». تنطلق هذه الصيغة السياسية الخاصة من قراءة سوسيولوجية للنزاع والعنف تصوّرهما بين جماعات تعرّفها «الشروخ المقطعية» أو الانقسامات الهوياتية، كالتمايزات الطائفية أو اللغوية أو الإثنية. تصبح هذه الشروخ العمودية أساساً لـ«انقسامات عميقة» تتطلب أشكالاً خاصة من التدخل، وذلك للحد من الطبيعة الانفعالية والمفخخة المفترضة للعلاقات القائمة ضمن مجتمعات متعددة وغير متجانسة وذات ثقافات سياسية متباينة. تدعو الديمقراطية التوافقية إلى تشكيل حكومة تقودها تكتلات نخبوية، حيث يمثل كلاً من الجماعات المتنازعة زعيمها، فتصبح الحوكمة السياسية مسألة بناء ائتلافات وتفاوض بين ممثلي المجتمعات المحلية. تدعو النظریة الأصلية إلى الحد من التواصل الاجتماعي بین الجماعات، وتزعم أنه كلما تعالت مستويات اتخاذ القرار تراجعت احتمالات النزاع، والذي إن نشأ فسيقتصر على نخب تستطيع تفاديه بالمساومات والتسویات.
لكن هل النزاع في «المجتمعات الشديدة الانقسام» المزعومة هو حقاً بين جماعات إثنية أو طائفية؟ هل من الدقيق اعتبار عدم تجانس الهويات على المستوى الاجتماعي هو أساس النزاع؟ هل تشخيص النزاع في الشرق الأوسط على أنه ديني أو إثني أو طائفي في المقام الأول يفيد في فهم ديناميات النزاع والعنف؟ وهل تصلح هذه التحليلات للتأسيس لصيغ سياسية مثل التوافقية والتقاسم الطائفي للسلطة؟
في حين تحظى الديمقراطية التوافقية باهتمام كبير لدى باحثي ومستشاري السياسات، إلا أن الافتراضات السوسيولوجية التي تقوم عليها النظرية ما تزال موضع شك. لكن على الرغم من مرور عقود على أولى الدراسات الاجتماعية التي أوضحت الطبيعة المرنة والظرفية والتركيبية لتكوين الهويات والجماعات، وما لا يحصى من الدراسات
يمكن تسليط الضوء على ثلاثة مزالق رئيسية يقع فيها كل من التحليل السائد للنزاع في الشرق الأوسط والوصفات التوافقية المقترحة على أساسه. أولاً، كما ذكر أعلاه، يغلب على قراءة النزاع بشكل إثني أو طائفي إغفال عملية التطييف التي يأخذ من خلالها النزاع المادي حول السلطة والموارد شكل النزاع الهوياتي. ترى هذه المقاربة في الانقسامات الطائفية أمراً واقعاً وثابتاً وغير قابل للتغيير، بما يجعل الوصفات التوافقية وسيلة للتعامل مع أحد أعراض النزاع وليس مع الجذور العميقة المؤدية له. بعيداً عن إنكار الجانب الطائفي للنزاع السوري الحالي، من المؤكد أن اختزال تعقيدات النزاع في هذا الجانب وعقد اتفاقية سلام قائمة على قراءة من هذا النوع لن يؤدي إلى حل دائم، فالأسباب المادية للنزاع (اللامساواة والفقر والبطالة ودكتاتورية البعث الخ) ستبقى دون علاج. لذا فإن التوافقية في هذه الحالة تحاول معالجة أعراض الأزمة (التطييف والتشظي الناتج عنها) دوناً عن الأسباب الجذرية.
المشكلة الثانية في هذه المقاربة هي أنها تنقلب غالباً إلى نبوءة ذاتية التحقق. فعبر محاولة ضبط النزاع والحد من التوتر الطائفي، تؤدي الصيغة التوافقية في سياق نيوليبرالي تضمر فيه مؤسسات الدولة إلى ترسيخ الحواجز بين الجماعات عبر مأسسة الانقسامات بينها. وبمجرد المأسسة يصبح من الصعب جداً مواجهة السياسات الطائفية، خاصة وأن أحكامها تتغذى في معظم الأحيان على شبكات الزبائنية الطائفية التي تحل محل الدولة في توفير الاحتياجات الأساسية والأمن، كما يبدو جلياً في الحالتين اللبنانية والعراقية.
أما المأزق الثالث في عملية التطييف هذه فهو الخلط بين الجماعات الاجتماعية والجهات السياسية، بما يساوي بين «العلويين» ونظام البعث السوري، على سبيل المثال؛ بين «الشيعة» وحزب الله أو إيران؛ بين «السنة» والجماعات الإسلامية أو السعودية أو قطر أو تركيا. هنا تبدأ تسمية الجماعات والجهات على نحو تبادلي، ما يؤدي إلى اللغط الذي يشكل أساس التفكير التوافقي. هذه «الجماعاتية» التي تفترض تجانساً سياسياً داخل كل من جماعات الهوية مزلق كبير للغاية، فهو يخلط بين الجماعات السياسية والمجتمعات الدينية أو الإثنية أو غيرها ويتجاهل التنوعات الهائلة السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية داخل كل من هذه المجتمعات. بعبارة أخرى، هو يخلط التجليات الاجتماعية للنزاع بالتحليل السوسيولوجي.
والحال أن الخطاب الشائع حول الحاجة إلى حماية «الأقليات» عبر شكل من أشكال التوافقية هو أبرز أمثلة هذا اللغط. فبدلاً من التمييز بين الأفراد المنتمين إلى جماعة أقلية معينة والمنظمات السياسية التي تدعي التكلم باسمهم، تقوم المقاربة الجماعاتية بتأليب بعض السكان على بعضهم الآخر على أساس الهوية. وهكذا تصبح الأقليات «العلوية» أو «المسيحية» أو «الدرزية» مهددة من قبل الأغلبية «السنية»، في عملية تطييف تجبر الأفراد على علب الهوية الجاهزة التي يشكلها الفاعلون السياسيون بما يتناسب مع احتياجاتهم ومصالحهم. في ظروف كهذه، تتلاشى فوارق وتعقيدات الآليات غير الطائفية للنزاع، ويصبح الأفراد غيرالممتثلين لطوائفهم هم الاستثناء. التحالفات الطبقية بين أغنياء السنة والعلويين المقربين من النظام، والظلم الطبقي الذي لا يميز بين هويات فقراء السوريين، تصبح كلها غير مرئية؛ تتبدد الانقسامات الأفقية وتتألق الانقسامات العمودية في مثل هذه الأزمنة المظلمة. في مثل هذه الحالات ترتفع شعبية حلول تقاسم السلطة التي تبشر بالحماية والتمثيل تحت شعار «لا غالب ولا مغلوب»، لكن رغم غلافها البراق، غالباً ما تفشل هذه الحلول في تقديم العلاج الناجع.
بدلا من التركيز على كيفية تقاسم الكعكة بين «قادة المجتمعات المحلية»، ينبغي على حلول ما بعد النزاع أن تركز إلى معالجة الأسباب المسببة له وليس الأعراض. فلكي تكون هذه الحلول دائمة، عليها السعي نحو مجتمعات أكثر عدالة ومساواة، لا يكون فيها القادة السياسيون مجرد «ممثلين للمجتمعات المحلية» بل أيضاً قادة يعملون على وضع خطط سياسية واقتصادية واجتماعية لفائدة تفيد أكثرية السكان، وليس لحفنة قليلة من جماهيرهم الانتخابية. ففي نهاية المطاف تمثل السياسة الطائفية غالباً أداة بيد الزعماء لترسيخ سلطاتهم وثرواتهم. إنها سياسة «القلة» التي لا تفيد إلا النخب وأتباعهم المخلصين. ما هو مطلوب هو بالأحرى سياسات «كثرة» ومن أجل «الكثرة».