وإذن بناء على أن ما سيحدث، يُفترض أن يتضمن حقيقةً، كان مُفترضاً بالمقابلة الأولى للحريري بعد استقالته أن تحسم الشكوك بشأن حقيقة وضعه. «الرهينة»، كما كانت قد صدّرت الصحيفة اللبنانية التشبيحية، الأخبار، صفحتها الأولى يوماً واحداً بعد الاستقالة الحدث، مُذيِّلَةً المفردةَ الرنانةَ بصورة للحريري منتصباً كـديكٍ ناكص.

صُوَرٌ في كل مكان تغزو وتلفق حقائق. وهكذا أذِنَتِ المملكة للمملوك بالظهور في مقابلة، لتكذيب دعاوى احتجازه أو اختطافه.

لنتفق أنه ليس مبالَغاً فيه التفكير جدياً في احتمال أن تكون الحكومة السعودية الجديدة –الجديدة بشكل غير عادي- قد َرتبت لكل ما سنراه في المقابلة، وأيضاً، أو وبالتحديد، «السقطة» المتمثلة في صورة الرجل الظلّ، التي اخترقت مثل سكينٍ الصورةَ الموظَّفة، في ممارسةٍ تذكِّرُ بتقنيات مسرح العبث، لستُ متأكداً من التصنيف، حين فجأةً من دون مقدمات سردية يخرج الممثلون عن القصة، ويقولون شيئاً ما يتعلق بالكاتب أو الجمهور، أي أن الممثل يعي فجأةً الوضع الدرامي، مخترقاً عقد الاستعباط الضمني، في إشارة إلى عبث هذا العالم، أو شيءٍ من هذا القبيل. خرقٌ لعلاقة العرْض الأساسية، القائمة على ضرورة أن يصدِّقَ كلٌّ من الممثلين والجمهور أن هذا الذي على الخشبة حدثٌ يحدث، كي يتسنى أن تقوم الدراما.

فضلاً عن إمكان ذلك، فالأدنى إلى المنطق العربي، أن ظهور الشبح الطارئ، وجميع تفاصيل المقابلة ومقدماتها ومجرياتها الكبيرة والصغيرة، مرَتَّبٌ له في غرفة مخابرات، مثل كل الحقائق السلطوية الرخيصة الأخرى التي تختنق بها مجتمعات المنطقة، وتنتجها قسراً منظومة سلطتها البدائية القبَلية الأبوية الأكليروسية القروسطية، المأزومة. من منظور هو هذا، نحن أمام مسرحية رديئة من صورة واحدة، تتراكب فيها إرادات سلطوية لتخليق واستغلال نظام الحقيقة من أجل تكريس وتمرير مزيدٍ من القمع والهيمنة:

المكان غرفة منزل على درجة مبالغ فيها من الفخامة والثراء، في الرياض 2017. في إطار كشف اللبس عن وضع الزعيم الطائفي والبزنس مان مثلث الجنسية، تقابله بولا يعقوبيان، الصحفية السياسية التي تعمل في تلفزيون المستقبل، أي التي تعمل لديه. تهيّئ السلطات السعودية للحريري مقابلة مرؤوسيه، تبثُّ كل الفضائيات العالمية -عدا عدد من التلفزيونات اللبنانية- المقابلةَ أو أنباء عاجلة بشأنها. الجزيرة كانت بإعلامييها وضيوفها ومحرريها في طليعة المعلقين والمتابعين المسهمين في الصورة الحقيقة.

وبتركيزها على ارتباك الحريري لدى ظهور أحدهم بشكل طارئ في المشهد، ونظرته إليه نظرة «سَمَكية طويلة» على حدِّ تعبيرٍ وقحٍ بشكل لافت لمحررٍ في موقع قناة العربية على الإنترنت: كلٌّ حصل على صورة أرادها.

لاعبٌ خفيٌ آخر يتبدى في الصورة المسرحية الرديئة، تشعر كما لو أن الجزيرة استعدّت لظهور الرجلِ الظلِّ الثغرة، والأمر كذلك، ففي سياق الصراع المستجد «الأزمة الخليجية»، تستنفر الجزيرة حالياً، والأمر مسلٍّ إلى حد كبير، كلّ إمكانياتها من فنون الردح والقباحة، إلى حدِّ عمى القلب، وكم تحفل الجزيرة بكل ذلك، للحمْل على المملكة.

لسكرانٍ متابعٍ أن يراهن على أن ظهور الرجل «اللي ورا» بولا يعقوبيان متعمَّد، تريد السعودية أن ترفع إصبعاً وسطى تمثّل حضورها القسري في أحداث حياتنا وحقائقها، وسطى مرفوعة في وجوهنا جميعاً، لربما في تقابلٍ موضوعي مع وسطى «خالد علي»، محامي الأرض الذي حظي باحترام شعبي عقب إدانته الرمزية لإتجار الدولة بالأرض. وُسْطى شرعية وصحيحة تماماً، في وجه الأوليغارشية البزنسية الدينية السعودية والأوليغارشية البزنسية العسكرية المصرية، من أمام وفي وجه «مجلس الدولة» المصري، مصادِري وتجار الأرض والبشر. بكل الأحوال فصورة خالد علي قصة صغيرة أخرى.

تشكّل السلطات في المملكة للجماهير المستلَبة حقيقةً سخيفةً بشأن رجلها، بالمنطق الأرعن الذي به كانت الأرستقراطيات القديمة في عصور الظلام تشكّل الحقائق الروحية والدنيوية لشعوب يفترض بها أن تخلد أبداً إلى عبوديتها، دورِها في التراجيديا الإنسانية.

هدوم غالية وناس رخيصة، تقول أغنية مصرية…

لنتذكر أنه بالفتوى والمؤسسة السياسية الرسمية متساندتَين، هذه الوصفة الشيطانية التي تعضّ الدولة العربية الحديثة عليها بالنواجذ عضّ الغريق، أيضاً يُعدَم النشطاء السياسيون الإسلاميون اليوم في مصر، حيث تحال أحكام الإعدام إلى مفتي الجمهورية للمصادقة عليها، من باب احترام وتكريس الدولة لتصورها عن حدّ النفس، أحد حدود الله.

وعَوْداً على بطل الصورة الشبح، موظف الحكومة الاستبدادية، مرؤوس ولي العهد الطموح، رجل المخابرات الجديد الذي يكتب للمنطقة أقدارها، صورةٌ واحدةٌ تكفيه، بكل برود وجمود بيده أوراق. موظف الحقيقة البيروقراطي يسخر من الحريري ومرؤوسته والجزيرة والدبلوماسية الغربية واللبنانية المتكافلة ضد السعودية، يدخل المشهد وهو يَحَار ببراءةٍ في أوراق يشير بها للحريري، ينتظر منه إشارة ويختفي. لاحقاً دَوَّنَت بولا يعقوبيان أن الرجل «من فريق عمل الحريري»، وقِيلَ أيضاً «أحد مستشاريه»، الأمر الذي لا ينفي ولا يتناقض مع إمكانية أن يكون ظهوره مرتَّباً له بهذه الطريقة من قِبَل موظِّفِي الحريري ومحتجِزِيه.

على هذا المنوال الأزعر، يفتتح البزنس مان الأرستقراطي ذو الحركات محمد بن سلمان حركته التصحيحية، ولايته وأحكام طوارئه، التي يعلمنا كيف علينا أن نراعيها منذ الآن، وتسمح له بفعل ما يشاء حين يتطلب الأمر، بغض النظر عن ضجيج الحقوقيين، ذلك أن الإنسان وزمان حقوقه وَلَّيا، أَوَلَيسَ هذا هو محتوى الحركة اليمينية الكاسحة التي تواصل الدفع بـ، وتكريس حكومات الاستبداد المحلّي من بوتين إلى ترامب مروراً بأردوغان والجميع. أليسَ هذا، أي التسلط وفقط، هو جوهر البوتينزم والترامبيزم وكل الخراء الآخر المتعلِّق؟

وأخيراً عن قصة خالد علي، فإن هناك أمراً يبدو توضيحه ضرورياً هنا. يُفترض أن الصورة من أمام مجلس الدولة، بعد حكم الإدارية العليا ببطلان بيع الدولة المصرية جزيرتي تيران وصنافير الواقعتين في منطقة الحدود البحرية للسعودية. يحاكَم خالد علي اليوم بتهمة القيام بفعل فاضح وخدش الحياء العام، الأمر الذي يعد -في حال خسر خالد علي استئنافه على الحكم، والمقرر النظر فيه في 3 يناير/كانون الثاني القادم- مُسقِطاً لشرط من شروط الترشح إلى انتخابات الرئاسة، هو عدم وجود أحكام قضائية «مخلة بالشرف».

اللافت، بالإحالة إلى غزوات الصور، أنه ورغم تأكيد خالد علي أن الحادثة لم تحدث حقاً، وأنه لم يقم بالحركة البذيئة إياها، يُتَعَامَلُ اليوم مع الصورة، على نطاق واسع، على أنها حدثت، والكثيرون لم يعنِ لهم كثيراً، رغم إلمامهم بفحوى دفاع خالد علي، أن تفريغ فيديوهات كاميرات المراقبة في كلٍّ من مجلس الدولة وبنزينة ومدرسة مطلَّتَين، سيثبت عدم وجود الإشارة، وكذلك طلبَ الدفاع خبيراً من معهد السينما للبتّ بمسألة إمكان تلفيق الإصبع، حيث يشير فريق الدفاع إلى أن لون الوسطى في الصورة وقياساتها يختلف مع بصمة جسد علي في أماكن أخرى من الصورة… ياللشياطين…