للأسف، لستُ مُجترِحَة هذا التعبير الجميل: «سعفة الضحية الذهبية». فقد ورد في أدبيات المحرقة وما بعد المحرقة النازية، وتكرّر مضمونه وتكرّرت دلالاته في شهادات ناجين من المعتقلات ومنظّرين ومؤرخين لتلك الفترة من الحياة البشرية، وفي كثير من التجارب الإبادية للإنسان، حيث يقوم الضحايا بمفاضلات فيما بينهم.
في كتابه تنافس الضحايا ينقل الكاتب جان ميشيل شومون شهادة سيمون فيل، إحدى الناجيات من النازية، والتي أصبحت فيما بعد وزيرة الصحة الفرنسية ونائبة في البرلمان الفرنسي، ولها فضل كبير في النضال النسوي في فرنسا وفي تشريع الاجهاض، عمّا عايشته بنفسها أثناء تجربة اعتقالها في المعسكرات من نزاعٍ عنيف بين مختلف أصناف المعتقلين، بين المعتقلين السياسيين المقاومين، الشيوعيين على سبيل المثال، وبين المعتقلين عرقياً مثل اليهود أو الغجر. تروي كيف حاولت مرةً هي وصديقتها التقرب من فتاة تتكلّم الفرنسية عثرتا عليها في المعسكر: «مارسلين»، فردّت عليهما هذه الأخيرة بعنف شديد «اذهبا إلى الجحيم»، والخلفية التي ترويها سيمون فيل هي اتهام المقاومين لليهود بالتخاذل والهرب وعدم المبادرة لمقاومة النازية. وتنقل كذلك أن النازيين كانوا يفاضلون بين الضحايا كمعاملة يوميةً، وأن اليهود كانوا دائماً في أسفل سلم البشر. الأسوأ هو استبطان ذاك التحقير، فتكرار القذع من نوع «ذباب الخراء» جعل الكثيرين يخجلون بهويتهم لسنوات عديدة بعد المعتقل. والخجل والمقارنات بين الضحايا تتراكب وتتعقد مع مقارنات أخرى، هذه المرة مع ضحايا من الفئة نفسها، سياسية كانت أم عرقية، فاليهودي العائد من معتقله بعد سنوات الحرب كان يخجل من عودته، يخجل لأن شهادته عن الفظيع ستلقى إحدى ردتيّ فعل: إما أنه يكذب، فالفظيع ليس فظيعاً وإلا لما نجا، أو أنه متعاون بطريقة ما مع النازي حتى استطاع النجاة. النجاة وصمة عارٍ ومادة احتقار. كذلك فإن الضحايا يستشرسون في استعادة شيءٍ من الاعتراف، استعادة غالباً ما تكون عنيفة وغير ناجعة في استرداد كرامة مهدورة، بل تصبح حالة سيزيفية من المقارنات غير المنتهية بين الضحايا لا تأتي أكلها. المنتصر الوحيد فيها هو الميت، حامل السعفة الذهبية للضحية. فكرة عبّر عنها ببلاغة الرسام الكاريكاتيري الفلسطيني السوري هاني عبّاس في رسم له حول «الداخل» السوري و«الخارج» السوري وذاك السجال الساخن، الذي ليس سخيفاً على الإطلاق كما ظنناه، بل هو حامل رمزي لكل ذاك العنف السوري المستبطن ، المستبطن خطاباً ولغةً قبل كل شيء.
لا نعرف كيف تمت مقاربة الوضع السوري من وجهة نظر نفسيّة، إلا أنّه لا ينبغي لتلك المقاربة أن تتجنب في معالجتها النسق الإبادي كحالة قصوى يتعرض لها البشر، ويستبطن فيها الأحياء «الناجون» العنف بطريقة غير مُدركة دائماً، يتواطؤون فيها مع الجلّاد لإتمام ما لم يتمكن من إتمامه، يمكّنونه من أنفسهم ومن مواطنيهم بأيديهم وبروحهم.
الإبادي الجسدي له امتدادات نحو أشكال موت أخرى ليست بالضرورة جسدية، منها الحرمان من فعل القول الإنجازي
واللغة الإباديّة مبهرة في قدرتها على الإفلات، مهما حاولنا عقلها. التركيز على التذنيب والموت، مثلاً، بدل التركيز على بطولة من قاوم ليبقى حياً وكريماً وليس مجرد ناجٍ، وهو ما نجده في خطاب المعارضين للنظام كما في خطاب المؤيدين، ذلك التركيز ليس إلا تكريساً لبلاغة النظام الإبادية متمثلة في أبهى حللها في خطاب السيدة الأولى ذات الرداء البنفسجي الذي ألقته في حضرة ممثلي الأمانة السورية للتنمية، حيث مفردات مثل «الديموقراطية»، «الحرية»، «الكرامة» نظمت الخطاب لتبيد لغة الثورة الأولى بالانقضاض عليها، ولتحقن بدلها لغة تذنيب لكل من نجا من سطوة النظام. هذا القتل يعيده السوريون كل يوم تجاه بعضهم بعضاً بقسوة رمزية لا تقل عن قسوة النظام، إذ لا أحد شرعيٌ في أي جسم سياسي أو مجتمعي إلا الشهيد.
موضوع الداخل والخارج مجرد مثال، ولا يهمّ الحدث المحرض للسجال المتعلق به، فهو سجال صغير ضمن حروب لغوية تدميرية، قد تأخذ أحياناً لبوس النقد والنقد الذاتي، بقدر ما يهمّ تفكيك اللغة التي تُستخدم لتحطيم الاعتراف وجعل الآخر غير مرئي أو مُباد. إن بقينا ضمن المثال نفسه وثنائية الخارج والداخل، فيبدو أنه ينبغي حظر المفردات الموحية بشيء من التفرد أو الإيجابية على تجربة الخروج من الوطن، ينبغي استبدال كلمة «المنفى» بكلمة «فرار» أو «هروب»، فكلمة «منفى» رومانسية، وتعريفها هو التالي: «الهروب من الوطن قسرياً بأمر من حاكم» (وهذا ليس شططاً شخصياً، هذا فعلاً ما قاله أحد السوريين الدواخل في لقاء مع المغتربين الخوارج في إحدى العواصم الأوروبية، مستغرباً أن عدد الذين خرجوا من ألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية لا يضاهي عدد السوريين الذين خرجوا من بلادهم مؤخراً) وحال اللاجئين السوريين لا يسمح بهكذا لقب: «المنفي». كيف يسمح اللاجئ، المالك للغته وأدواته (فليس الحال أن كل السوريين اللاجئين مهتمون بهذه التسميات) لنفسه أن تضفي هذا البعد الجمالي على خراء اللجوء، وهو الفارّ الذي لم يُجبره أحد على الخروج من عدن بلاده؟ كيف؟ هذا قول إنجازي عن معاشه (معاشه هو) لا يُسمح به. كلمتا «فرار» و«هروب» (بالمناسبة ما الفرق بينهما؟ علينا أن نتأكد، يبدو أن الفرق متعلق بوشوك الخطر) لا تندرجان ضمن استخدام فردي، فهو عنف يؤسس له، تيار، يتحرر أحياناً من أناقة المجاز ليقول مثلاً، عبر وسائل التواصل الاجتماعي «نضفت سوريا من درناتها» أو «اخرسوا»، يقابله تيار آخر يرى في «الداخل» ضحية أقل، لم تَمُت، فهي إذاً متواطئة مع الجلاد، ويغفل في خطابه، عمداً أو دون عمد بشكل غير واعٍ، وجود مجتمع سوري (مدني) مقاوم ومستمر رغم قسوة العيش. قد يكون قاسياً أو غير سديد تماماً أن نستذكر حنة آرنت حين قالت إن اللاجىء يتمنى موت من بقي في البلاد ليرتاح، إلا أن السلوك المتشنج للخارج الذي يرفض رؤية السوري الباقي إلا كميت حتماً، يضغط باتجاه هذا الاستذكار.
من النزيه أن نلتفت إلى هذا الجانب من هزيمتنا، المحققة قبل زمن من هزائم أخرى. ألأمُ درجات العنف، التي أوكَلنا بتأديتها الجلّاد العام مرتاحاً، هو هذا العنف النفسي المركب: سأواصل قتلك معنوياً ريثما يقتلك النظام فيزيائياً، عندها ستكون الضحية. بانتظار ذلك سأتابع أنا حمل السعفة الذهبية للضحية لأني عانيت أكثر منك. وضمن كل ذلك سأنكر لغوياً لفظة «ضحية»، فهي مذلّة وغير كريمة.
المشكلة في هذا السباق المحموم للقتل الرمزي من أجل نيل السعفة الذهبية هو أنه غير منته. المفاضلات بطبيعتها غير منتهية، فهناك من جاع وحوصر، وهناك من اعتُقل، وهناك من خرج منذ الأشهر الأولى للثورة، وهناك من خرج بعد سنتين، وهناك من خرج بعد خمس سنوات، وهناك من عايش الكيماوي ودفن الشهداء في المقابر الجماعية بيديه، وهناك من عاش منكوداً دون أثمان هائلة بهذا المعنى، وهناك من رأى مدينته مدمرة، وهناك من يعيش ضمن الغوطة الشرقية ولكن ليس في دوما نفسها بل أبعد قليلاً عن الضرب المباشر. هذا أيضاً يُذنّب في مفاضلات صغرى غير مرئية لنا، ليس لأن هناك ما يذّنب عليه ولكن لأنه أريد لنا الموت بأشكال عديدة. لن ينتصر أحد في هذا السباق إلا من أراد لنا الموت بأشكاله كلها. والحل؟ لا يمكننا رد ما يجتاح أحاسيسنا، يمكننا ربما رد الآثار الهائلة، وربما مقاومة رغبة الجلاد برؤيتنا ميتين أو متحجرين دون كلام. هذا أعقد تفكيك لإبادة، ولكن عساه يكون مُتاحاً.