ما الذي ينتظره السوريون اليوم؟ أو ماذا ينتظرهم؟ الجميع دون استثناء يترقب انتهاء الحرب، لكن ماذا بعد توقف الحرب الذي سيتحقق عاجلاً أو آجلاً سواء بحل عسكري أو سياسي؟ الحديثُ الأكثر إغراء خلال الأشهر الأخيرة للإعلاميين والاقتصاديين والتجار والمنظمات على اختلاف توجهاتها، سوريةً كانت أم عربيةً أم غربية، هو إعادة إعمار سوريا. تحليلات لا تنتهي، حسابات وأرقام ورؤى ومخططات ومصطلحات تقنية تشغل بال كثيرين، وصفقات بدأت ترى طريقها للنور في دول إقليمية وغربية يشكّل انتهاء الحرب السورية بالنسبة لها فرصة لاستثمارات لا منتهية.
لكن الحكاية ليست فقط عن إعادة الإعمار، وإنما عن الرعب المرافق لها، والذي يتربص بآلاف العائلات السورية وراء نافذة انتهاء الحرب. التحول الكبير قادمٌ لا محالة، لكن ماذا بعده؟ كثيرون ممن أعرفهم، ممن هُجِّروا من منازلهم، وممن اضطروا للنزوح شرقاً أو غرباً، يتساءلون: «هل سنعود؟ إلى أين يفترض بنا العودة؟ من سيحفظ لنا حقوقنا وحقوق أولادنا في منازلنا وأراضينا؟ أهي نفسها الدول والأطراف التي ساهمت بموتنا وتهجيرنا، وعلى رأسها النظام السوري، ستدخل اليوم من باب آخر لتقنعنا بأنها تريد إعادتنا لأحيائنا التي طحنتها الحرب؟».
عشرات الأسئلة تُطرح اليوم. بعض من يطرحونها يأمل بقرب انتهاء المأساة. آخرون كفّوا عن الانتظار، وهم على يقين بأنهم سيُهمَّشون في السلم تماماً كما في الحرب.
*****
على امتداد كيلومترات شاسعة، يصعب على من يزور سهل الزبداني غرب دمشق أن يلمح سوى اللونين الأصفر والأسود الغالبين على أراضٍ زراعية محترقة بأكملها، كانت فيما مضى من أغنى أراضي سوريا بإنتاج الفاكهة، وخصوصاً التفاح والدراق والتين.
أما داخل مدينة الزبداني، فلم ينجُ منزلٌ من آثار قصف النظام السوري الذي استمر منذ عام 2012 وهو تاريخ سيطرة فصائل الجيش الحر على عدة بلدات بسهل الزبداني، وحتى خروج من تبقى من مقاتلي وعائلات المدينة باتجاه الشمال السوري وفق اتفاق المدن الأربعة الذي نفذ في نيسان 2017، وقضى بإجلاء سكان الزبداني ومضايا المجاورة، إلى جانب خروج مدنيين ومرضى من بلدتي كفريا والفوعة المحاصرتين بريف إدلب.
بعد تنفيذ الاتفاق بأسابيع، بدأت دعايات النظام السوري حول أولوية الزبداني في إعادة الإعمار مع تخصيص عشرات ملايين الليرات السورية لذلك، منها 450 مليون ليرة لترحيل الأنقاض، و70 مليون ليرة لتأهيل المستوصف، و1.5 مليار لإعادة تأهيل المؤسسات الخدمية. كما سمح النظام لمن يرغب من أهل الزبداني بالعودة لتفقد منازلهم، وبعد ذلك بات مسموحاً للراغبين من الزوار بالقدوم و«الفرجة» على ما صنعته أيدي الإرهاب بهذا المصيف الدمشقي، ليكون في استقبالهم لافتاتٌ من قبيل «أهالي الزبداني يرحبون بضيوفها الكرام»، «أهالي الزبداني يوجهون التحية للجيش العربي السوري»، دون أن يعرفوا مَن مِن الأهالي تكبّد عناء طباعة وتعليق هذه اللافتات بكل حفاوة وكرم، وهم لا يجدون مأوى يلجؤون إليه مع دمار كافة المنازل بشكل جزئي أو كلي.
الدمار لم يمنع عشرات العائلات من العودة لمرة واحدة على الأقل. منها من تفقد منزله ليصيبه اليأس من إمكانيه إصلاحه ويعود لمنزل آخر مستأجر، ومنها من حاول إخراج بعض الحاجيات التي نجت من «التعفيش»، أي السرقة على يد عناصر النظام، وآخرون آثروا إصلاح ما يمكن إصلاحه، علّهم ينتهون من عناء الإيجار، وهم على الأغلب سُكّان الأطراف التي لم ينلها نصيب كبير من القصف والغارات الجوية.
أما مروان، فقد آثر العودة لمنزله ومحله في قلب مدينة الزبداني أو كما يطلق السكان عليها «الزبداني البلد». شوارع عدة تتفرع عنها أزقة ضيقة، ويكاد يستحيل المرور فيها من هول الدمار. منازل محروقة لا يمكن بأي حال من الأحوال السكن فيها، وأكوام من الحجارة التي لا يزال كثير منها آيل للسقوط.
ما أن عَرَفَ مروان بإمكانية العودة إلى الزبداني، حتى عقد العزم على إعادة افتتاح محل الفلافل الذي يملكه في الزبداني البلد. نَفَضَ الركام عن جنبات المحل، وأحضر مقلاة صغيرة مع مستلزمات بسيطة تكفي لإعداد سندويشات من الفلافل والبندورة والبقدونس واللبن، التي يتقاضى سعر كل منها مئتي ليرة سورية.
يمكن لأي زائر التوقف بجانب محل مروان لتناول الفلافل وهي على الأغلب باردة، فلا زبائن كثر يستدعون تشغيل النار سوى في الصباح عند قلي الفلافل. لكن قد يكون من الأفضل عدم سؤال الرجل الستينيّ عمّا حلَّ بمنزله القريب، إذ قد يشرع بالبكاء وهو يتحدث عن توقه للعودة والسكن فيه، وهو أمر شبه مستحيل مع حجم الدمار في المنطقة: «منذ أسابيع أحضر كل يوم هنا وأبيع الفلافل لمن يمكن أن يمروا. عندما أنتهي من ذلك أعرّج على منزلي لأمكث فيه قليلاً، وإن كان ذلك يعني الجلوس على الأرض أو على وسادة قديمة. المهم أن أعرف بأن منزلي موجود، والأكثر أهمية أن يعرف أولادي بأن هذا منزلهم ومنزل والدهم وأجدادهم، قبل أن تجرفنا موجة إعادة الإعمار التي لا نعلم كيف ستحفظ حقوقنا».
يقول فلاحو سهل الزبداني إن أشجار السهل ستحتاج على الأقل أربعين عاماً كي تنمو وتعود للإنتاج، لكن ما يشغل بال كثيرين أمر آخر: «كيف لنا أن نعرف أراضينا؟ تغيرت معالم كل شيء. كنا نميز حدود كل أرض بعلامات لا يعرفها أحد سوانا كأشجار معينة أو أحجار وُضعت بطريقة نحفظها عن ظهر قلب. أما اليوم؟ عليه العوض ومنه العوض».
*****
في مقابلة له في شهر آذار عام 2016 مع وسائل إعلام روسية، تحدَّثَ بشار الأسد عن إعادة إعمار سوريا التي بدأت بحسب رأيه «حتى قبل أن تنتهي الأزمة لكي نخفف قدر الإمكان من الأضرار الاقتصادية وأضرار البنية التحتية على المواطن السوري، وبالوقت نفسه نخفف من الهجرة إلى الخارج».
بعد عام كامل، وفي أوائل شهر آذار 2017، حاول أحمد، وهو من سكان حي القابون، أن يستغل لحظات الهدوء التي تفصل بين رشقات الصواريخ المتتالية المتساقطة على الحي ليلاً نهاراً كي يخرج من الملجأ ويعمل على جلب بعض الأغراض من منزله، لكنه عندما فتح باب المنزل تفاجأ بأنه –أي الباب- هو كل ما تبقى له، بعد أن تكفل أحد الصواريخ بتدمير كل ما يملك خلف هذا الباب من منزل وأرض زراعية.
إثرَ ذلك، نزحَ أحمد وعائلته باتجاه غوطة دمشق الشرقية، حيث لا يزال مستقراً حتى اليوم مع مئات العائلات التي لم يعد لها ملجأ تأوي إليه بعد استعادة النظام السوري السيطرة على كامل أحياء شرق دمشق في أيار الفائت، ومنعه عودة السكان إلى حيي القابون وتشرين. يكاد لا يمر يوم دون أن ينشر أحمد على صفحته الشخصية على فيسبوك صوراً من منزله المدمر، وحيّه الذي لم يبقَ منه سوى أكوام من الحجارة، وتساؤلات حول وعود إعادة الإعمار التي تحفل بها خطب ومقابلات بشار الأسد: «منذ أسابيع نسمع أخباراً عن تجريف منازل القابون الواقعة على طريق دمشق-حمص الدولي. التجريف بدأ منذ معركة المنطقة الصناعية عام 2012، التي انتهت باستعادة النظام السيطرة عليها وهدم منازلها ومحالها بالكامل، مما أفقد معظم عائلات الحي مصدر رزقها الأساسي. والأحاديث تكثر عن مخطط لبناء أبنية برجية على كامل مساحة الحي. بكل الأحوال لا آبه كثيراً بمنزل قد أحصل عليه في بناء فخم مؤلف من عشرة أو عشرين طابقاً، فهو لن يعوضني عن أرضي ومنزلي وإن كان مجرد بناء عشوائي».
كذلك يشغل بال أحمد، وكثيرين غيره من سكان القابون الذين هُجروا بشكل قسري عن حيهم، شأنٌ آخر: «نعتقد أن النظام سيعمل على تحويل الحي بعد إعادة إعماره لمنطقة عسكرية، أو لما يشبه الأحياء الموالية في دمشق وعلى أطرافها، أي أسوة بالمزة 86 والتضامن والسومرية، خاصة مع وجود مقار الوحدات الخاصة والشرطة العسكرية والمخابرات الجوية على أطراف الحي. كيف لنا أن نعود للسكن في حينا إذا تغيرت تركيبته الديموغرافية؟ قد نُتهم بالطائفية، لكن لنسمي الأشياء بمسمياتها، لا أحد من سكان القابون سيعود ليعيش إلى جانب من كان له يد في قتله وتهجيره».
يقصد أحمد بذلك عناصر الجيش والأمن والميليشيات الطائفية والذين لا بدَّ، برأيه، سينالون مكافآتهم على قتالهم لسنوات طويلة إلى جانب النظام السوري: «قد يعجز النظام اليوم عن دفع رواتب شهرية ضخمة لمرتزقته، لكنهم بالتأكيد يأملون بما بعد الحرب، كما حصلوا على حصتهم من تعفيش ممتلكاتنا إثر نزوحنا عن الحي».
وبذلك، يعتقد أحمد بأن حي القابون لن يعود يوماً كما كان، ومصير سكّانه سيكون الاضطرار لبيع منزل قد يحصلون عليه لقاء مبالغ زهيدة، ومن ثم الخروج للسكن في حيٍّ أو مدينة أخرى، «ذلك إذا انتهت الحرب يوماً».
*****
في منتصف العام 2015، تلقت عائلة سامر، من سكان حي المزة بساتين غرب دمشق، إنذاراً بإخلاء منزلهم خلال مهلة لا تتجاوز الشهرين، وذلك عملاً بالمرسوم رقم 66 الصادر عام 2012، والقاضي «بإحداث منطقتين تنظيميتين من مناطق المزة وكفرسوسة وداريا بشكل رئيسي، وذلك ضمن المصور العام لمدينة دمشق لتطوير مناطق المخالفات والسكن العشوائي».
كُتِبَ في ورقة الإنذار المذيلة بتوقيع محافظ دمشق بشر الصبان، والتي وزعتها محافظة دمشق بمرافقة دوريات من الأمن العسكري: «لمّا كان المُصوّر التنظيمي للمنطقة التنظيمية جنوب شرق المزة يقضي بهدم البناء المشغل من قِبلكم، فإني أنذركم بوجوب إخلاء هذا البناء وتسليمه إلى محافظة دمشق أصولاً، لافتاً نظركم إلى أن هذه المهلة نهائية وغير قابلة للتمديد، علماً أن محافظة دمشق ستباشر بهدم البناء فور انقضاء المهلة الممنوحة لكم دون أن تكون مسؤولة عن الأضرار التي ستلحق بكم جراء عدم قيامكم بإخلائه التام».
المشروع الذي يفترض أن يستغرق مدة خمس سنوات حمل اسم «مدينة ماروتا»، وهي كلمة سريانية تعني «السيادة والوطن» وفق وسائل إعلام سورية محلية، وأوضحت تلك الوسائل الإعلامية بأن «محافظة دمشق أطلقت العنان أمام فن الابداع والتطوير العمراني، حيث لن يكون هنالك تقييد للشركات العاملة في بناء المدينة وسيكون لها مطلق الحرية في تصاميم وأشكال البناء العمرانية من حيث الشكل العام للبناء وعدد الطوابق، مع الالتزام بشروط الأمان ومعايير السلامة العامة».
كما وعدت محافظة دمشق بأن تكون مدينة ماروتا، والتي ستحتوي على ثلاثة أبراج يتجاوز عدد طوابقها الخمسين، أجمل من دبي، «مع اعتماد معايير عالمية في البناء العمراني وبذل جهود تصب في مرحلة إعادة الإعمار».
المرسوم 66 عنى بالنسبة لعائلة سامر، كما آلاف العائلات الأخرى، التشرد حتى أجل غير مسمى: «حصلنا على تعويضات أقل ما يقال عنها إنها هزيلة. البعض حصل على تعويض شهري بمبلغ لا يتجاوز 50 ألف ليرة سورية في أحسن الأحوال، وذلك إلى حين انتهاء المشروع والحصول على سكن بديل فيه، وآخرون تم تعويضهم بمبلغ 1000 ليرة سورية عن كل شجرة خسروها من أراضيهم الزراعية».
المبلغ المذكور لا يكاد يكفي لاستئجار منزل في ضواحي دمشق، ومع مرور الوقت وانخفاض القيمة الشرائية لليرة السورية، فقد هذا المبلغ أكثر من نصف قيمته الفعلية، وبات لا يساوي أكثر من مئة دولار أمريكي، وهو ما يدفع بسامر للتساؤل عن أسباب الإخلاء المبكر منذ أكثر من عامين.
بعض العائلات التي حاولت الاعتراض لقيت المصير المتوقع: اعتقال بعض أفرادها من قبل فرع الأمن العسكري. عائلات أخرى لقيت تهديدات مباشرة بالمصير نفسه، وبعض من حاولوا حشد السكان بهدف الاعتراض على الإنذارات والمهل المحدودة اختفوا دون أثر، وذلك وفق حديث سامر.
«كلما مررتُ قرب منطقة المزة بساتين أتحسر لما آل إليه حالنا. لا أبراج ولا أبنية بعد، ولا شيء سوى أكوام ترابية وضعت منذ قرروا هدم منازلنا، ولا زالت على حالها»، يقول سامر ويضيف: «الأحاديث المتداولة اليوم هي عن فساد ينخر في جسد المشروع حاله كحال كافة المؤسسات السورية، وعن صراع نفوذ سوري إيراني روسي. ألم يكن حرياً بهم المحافظة على منازلنا لحين اكتمال رؤية هذا المشروع؟ أما كنا وفَّرنا عناء عامين من التشرد؟ هل نحن جزء من مخطط تنظيمي فعلاً أم من مخطط إعادة إعمار وتغيير ديموغرافي؟ أسئلة تؤرق مضجعنا كل يوم دون أن نكون قادرين على العثور على إجابات شافية».
*****
تتذمر مريم من أحاديث أهلها اليومية عن عودتهم إلى حي جوبر، والتي تبدو بالنسبة لها آمالاً ساذجة غير قابلة للتحقق بأي حال من الأحوال.
كما تضحكها النقاشات الجدية التي كثيراً ما تدور في منزلهم المستأجر بحي ركن الدين بدمشق، وتعلو فيها أصوات بعض من «كبارية جوبر»، وهم يتناقشون حول كيفية تحقيق عدالة إعادة الإعمار، بحيث يعود لكل ذي حق حقه بعد خسارة الممتلكات والأراضي في هذا الحي الذي سُوّيَ معظمه بالأرض: «كثير من السهرات مضت وأهلي وضيوفهم يرسمون مخططات وخرائط لما كان عليه حال الحي قبل الحرب، ويحاولون وضع حدود المنازل والمحال والأراضي وتسمية أصحابها، وهم يعتقدون بأن المشكلة الأكبر التي ستواجههم بعد انتهاء الحرب والبدء بإعادة الإعمار هي رسم هذه الحدود».
لا يبدو أن أهل مريم وضيوفهم مخطئون، فنسبة كبيرة من أبنية حي جوبر عشوائية ومسجلة في السجلات العقارية بصفة «طابو أخضر»، أي بدون توصيفات أو توثيقات ترقى لمستوى توصيف الأبنية النظامية. ويثير ذلك مخاوف كثيرين من سكان جوبر، وهو الحي الذي لا يزال حتى اليوم تحت رحمة صواريخ وطيران النظام السوري، مع استمرار وقوعه تحت سيطرة مقاتلي المعارضة.
«يعتقد والدي بأنه يتوجب علينا حال توقف المعارك في الحي العودة للوقوف على الآلية التي سيجري من خلالها تحديد ملكية سكان الحي وتعويضهم عما لحق بهم من خسائر عند إطلاق مرحلة إعادة الإعمار، وأنا أرى بأن ذلك ضرب من ضروب الخيال مع نظام مجرم كالنظام السوري لا يأبه بحق أو عدالة».
ولا تتوقف اهتمامات والد مريم عند حق الملكية والتعويض عن الخسائر، لكنه يرى بأن على أهل جوبر التمسك بهوية حيّهم وعدم السماح بطمسها: «حتى أحلام الهوية ستبقى مجرد خيال. وأعلم بأن والدي موقن بذلك في قرارة نفسه لكنه يرفض التصديق أو الإذعان، ويفضّلُ التمسك بموقفه لئلا يندم يوماً على عدم الإتيان بأي فعل كان يمكن أن يحقق له عدالته المنشودة والمتخيلة».