درج صحفيو فيروز المعتمدون في الأعوام الأخيرة، كما الناطقة إعلامياً باسمها، ابنتها ريما الرحباني، على تلقيبها بالـ «ست»، وعلى تلقين الآخرين عادة ترديد هذا اللقب. ولا تستسيغ الأذن اقتران اسم فيروز بلقب الست المقترن أصلاً باسم أم كلثوم، وليست الاستساغة السماعية ومحاولة تقصي أسباب غيابها أمرين هامشيين عندما يتعلق الأمر بالغناء وأهله، بالسمع والاستماع.

مثَّلَ تلقيب أم كلثوم بالست حدوداً للأغنية الكلثومية، باعدتها عن تقليد اجتماعي-فني للأغنية العربية، إذ جسدت هذه التسمية تمايزاً لصورتها عن صورة متداولة للمطربات العربيات، غامت معها الحدود بين الفن والثقافة من جهة، وحياة القصف والمجون من جهة مقابلة، فأتى اللقب تعبيراً شعبياً عن قبول جماعي لمكانة أم كلثوم الفنية والاجتماعية الاستثنائية. ولفيروز بلا ريب من القيمة الفنية والاجتماعية ما يجعل تصنيفها بين عمالقة الفن العربي أمراً بديهياً، فما حاجة فريقها الإعلامي والتسويقي لهذا الفرض المتأخر والفوقي _من الأعلى_ للقبٍ يبدو في العقد الثاني من الألفية الثالثة على قدر لا يستهان به من الابتذال؟

لم تخرج فيروز من تقليد الطرب الشرقي وعوالمه، ولا عُرِفَت لها أغنيات في بداياتها من قبيل الخلاعة والدلاعة كحال كوكب الشرق، بل جسدت منذ ظهورها الأول قطيعة صارمة مع تقاليد الأغنية والاستماع العربيين. بوصفها المكوّن المركزي لمشروع الأخوين رحباني، لم تستقبلها الذائقة العربية يوماً إلا انطلاقاً من هذا المشروع الثقافي، الذي يتضافر فيه الشعر مع المسرح مع الموسيقا المنفتحة على السلالم الموسيقية والقوالب الغنائية الغربية منها قبل الشرقية، ليقدم صورة فيروز كما عرفناها، أسطورة وأيقونة ذات حضور تجاوزي، بطاقة تصعيدية هائلة يتراجع معه الحضور الشخصي أو الجسدي.

قطيعة فيروز مع الموروث الغنائي العربي وتداعياته الاجتماعية متعددة المستويات وليست شكلانية فحسب، وهي ليست منزهة عن تعال ربما يمكن رصد ملامحه حتى في أغانيها التي تنهل من التراث. وحتى عندما استدخلت عوالم زياد الرحباني المشغولة بالحياة اليومية ومفرداتها وبأجواء الجاز والطرب والصعلكة الغربية والشرقية، بقيت محتفظة بمسافة عنها، تمثلت بالأداء التجاوزي التصعيدي عينه، فطبعت الأسطورةُ الفيروزيةُ الثقيلة رؤيةَ زياد الرحباني الفنية أكثر مما أُخذت بخفتها.

صلة العالم الفيروزي بعوالم اللهو والعربدة شبه معدومة، إلى درجة جعلت جبهة النصرة تتسامح مع المحطات المعارضة للنظام السوري التي تبث أغانيها، فلا تعمد إلى تدمير مراكز تقوية البث المتواجدة في مناطق نفوذها إن هي التزمت ببث أغنيات فيروز دون غيرها. صلةُ فيروز بما يخشاه الأصوليون، بل وكثير من المحافظين الأقل تطرفاً، من «تهييج مشاعر» ينسب إلى الغناء، تبدو واهية، فلا يندر وصفها في أوساط متشددة بأنها «محترمة»، أو «تحترم حالها»، كأنها المحجبة بين السافرات، وهي الشهيرة بعبوسها وتحفظها وندرة الإطلالات الإعلامية.

ما حاجة نهاد حداد إلى لقب يسند لقبها «فيروز»، الذي طغى على اسمها؟

تلوح من تلقيبها بالست شبهة رغبة بتسييدها على رؤوس مستمعيها، لا الاكتفاء بسلطانها على القلوب. أستذكرُ هنا مقولة نسبها لبشار الأسد الفنان السوري جمال سليمان فيما أذكر، يوم اقترح عليه في لقاء كان له معه في بداية الثورة السورية أن يستند إلى رصيد عاطفي مفترض له عند عموم السوريين، كان جواب الطاغية أنه لا يأبه للمحبة فما يهمه هو الاحترام. ظهر لقب الست في وقت تمكّن فيه حزب الله إلى حد بعيد من إلزام الإعلام اللبناني حتى المعارض منه على تلقيب رئيس الحزب الإلهي بالسيّد على الأقل، وإلا فالتوصيف المرغوب هو «سماحة السيد»، تحت طائلة ردود فعل انتقامية أقلها التهويش والتخريب. زمن الريبة والارتياب بكل من لا يعلن ولاءات لا لبس فيها ينسحب على عالم الغناء والفن. يذّكر الأمر بإسباغ رتبة لواء على محمد عبد الوهاب في العهد الساداتي. كأني بكبار الفنانين العرب مستحوذون بخوف ومشاعر نقص تجاه الشخصيات والألقاب العسكرية والسلطوية، في عالم قيمي لا يقرّ بغير نفوذ القتلة والطغاة. تتداعى في هذا السياق صور زياد الرحباني بالملابس الجنرالية وتصريحاته الستالينية وبياناته الماريشالية، مظاهرُ عظامية دوافعُها الأرجح مخاوف كابوسية ورهابات تجاه مقصلة الطغاة التي قد تسقط في أي لحظة على رأس أيٍ كان، حتى لو كان فناناً استثنائيا. ولنا أن نتوقع أن يستنكر ملقبو فيروز بالست _هي التي كانت يوماً شاعرة الصوت والسفيرة إلى النجوم_ على خيالنا إن هو تداعى في اتجاه غير مستغرب: إلى أن هذه التسمية تذكرة بكونها جدة ثمانينية. فالديكتاتورية التي يزداد العالم الرحباني والفيروزي _وربما الثقافة العربية المكرسة كلها عموماً_ استسلاماً لها وتماهياً بها يوماً بيوم، لا تبيح من طيف المعنى إلا الوجه الذي يفهمه أصحاب النيافة مما يتفوهون به. مثلما يشيع في الثقافة العربية التقليدية التشبيب بأحذية الطغاة، نشرت الصحفية اللبنانية ضحى شمس، وهي صحافية فيروزية-رحبانية معتمدة، في جريدة الأخبار مقالة بعنوان: فدا صرماية الست!

كان زياد الرحباني قد أفشى في مقابلة تلفزيونية على قناة الميادين بما تُجنّ «الست فيروز» من الهوى تجاه سماحة السيد حسن نصر الله الذي تدعّي حبه الأمم، حبٌّ لم يَحُل دون أن تمنع الهيئة التربوية لحزب الله _يا لهذه التسمية!_ استخدام أغاني فيروز في الجامعة اللبنانية في سابقة موصوفة. لربما يندرج سبب ذلك في تحريم الغناء والفزع منه، أو لعله شيء من التنافس بين الست والسيد على التربع فوق رؤوس اللبنانيين، لا سيما أن المستوى الفني لألبوم فيروز الأخير يضارع في رداءته آخر إصدارات نصر الله الخطابية.