على مقربة من الجدار الذي يفصل الأراضي السورية عن التركية، قرفصنا بين الأشجار، وكأي مجموعة ركاب كنا منسجمين في نوع من الألفة الخاصة، التي كان يخرقها شاب مفتول العضلات، يرفع شعره سبايكي، ويكرر: «عسكرية دبر حالك»، محاولاً أن يبث الطمأنينة في نفسه، لكن نبرته المرتبكة كانت تشي بأن الجملة لا تفلح في مهمتها، عدا عن كونها تسبب لنا الإزعاج. غير أن ذلك لم يمنع من عودة الألفة بين نوبات ارتباكه.

للتراب في مزرعة الزيتون، التي ضمّتنا، لونٌ غامقٌ لا يساعد كثيراً في الرسم على الأرض بالأغصان اليابسة خلال الانتظار، لذلك اقتنعنا بصمتٍ أن الرسم على تلك التربة فكرة سيئة، وتحوّلنا، بعد محاولة أو اثنتين في الرسم، إلى قطع السنابل الخضراء التي تعلو الحشائش، والإمساك بسوقها من الجهة الغليظة، وتمرير السبابة والإبهام صعوداً باتجاه بتلاتها الخضراء لكشطها، ثم علس طرف الساق، أو خلخلة الأسنان به. لم يكن ذلك العمل الوحيد لنا أثناء تلقي التعليمات من المهرب، فهناك تكسير الأغصان الصغيرة اليابسة إلى قطع، أو تجريدها من لحائها الرقيق، وحك الأسنان بها، أو تفتيت الكتل الطينية الصغيرة المتيبسة، أو تناول مجموعة منها بإحدى اليدين ورميها على بعد سنتيمترات، واحدةً بعد الأخرى.

حرارةٌ من نوع ما كانت تلفُّنا، ربما من المغامرة ذاتها، أو الشعور بالخطر، أو رفقة الطريق التي قد تطول، أو إدراك أحدنا حاجته إلى الآخرين في أوقات عصيبة محتملة؛ لكن ذلك لم يكن ليُعَبَّر عنه بالكلمات، أو حتى بالمظهر، فقد كنا دون أي جامع بالنسبة إلى عينٍ ترصدنا بمنظار؛ امرأتان قرويتان بغطاء أسود صحبةَ رجلٍ يبدو لالتصاقه بإحداهما أنه زوجها، ومراهقان بليدان يمتّان بصلة ما إليهم؛ لا أستطيع الجزم الآن إن كنتُ قد عرفتُ وقتها أنهم من القرية نفسها، أو أن معرفتي اللاحقة بهم جعلتني أعتقد ذلك، لكن المؤكد أن درجة سمار بشرتهم المتشابهة أوحت لي بقرابتهم -ليس لدي فكرة عن رأي صاحب المنظار بذلك- ولهجتهم جعلتهم مميزين عن الشخصين الأبيضين الآخرين، الذين لم أعرف وقتها عنهما أي شيء، سوى «دبر حالك».

ويزيدُ تشتيتَ صورتنا، من بعيد، المهربون الثلاثة الذين صاحبونا، فأحدهم قرفص بيننا، بثيابه التي تدل على أن بيته قريب، وراح يراجع معنا الخطة للمرة الأخيرة، ويكرر التعليمات بأكثر من ترتيب؛ سيجارته تغرينا أن ندخن طالما نحن في مرحلة الأمان، لكن الدليل يمنعنا كشخص ينتمي للسلطة، ويقوم بكل شيء، لكنه يفضّل ألا يكون في القيادة. هل انتقمتُ منه بهذا التنميط؟ لا أعرف، غير أن فعلته، التي وجدتُ وقتاً مناسباً لتركيبها على أحد ما، وقعت قمعاً عليّ، في اللحظات الفاصلة بين زمنين حددا لنا ماهيتنا الجديدة في تلك المزرعة، أحدهما اختيارنا الإقدام على تلك الفعلة، وبالتالي تسليم قيادنا للمهرب، والثاني اتخاذ خطوات تنفيذها. أما المهربان الآخران، بألوان ثيابهما الزاهية، فوضعا السلّم على الجدار، وراحا يتحركان بحيوية لاستطلاع الحرس التركي. وأنا ببنطال الجينز، الذي سألني المهرب تبديله لأنه يُشاهَد في الليل، كنتُ حَدَستُ قبل تلك اللحظات بقليل أن شعورنا توحَّد، فَرُحتُ أتخلى عن جمودي، وأهجسُ بأننا كنا نعي وضعنا كمقدمين على مغامرة فيها خرق لقوانين قد ينظر إلينا من خلالها أننا خطرون.

إذن هكذا يتجهز المغامرون الخطرون لتنفيذ مغامرتهم الخطرة؛ يمشون متضامنين بين الأشجار، ويقرفصون تحت إحداها لمراجعة خطتهم، وانتظار الوقت المناسب، فتبدأ أجسادهم تألف بعضها، وتتقارب، وتتضاعف درجة وعي حواسهم بما حولهم، حتى تصل إلى التنبؤ؛ ويصبح كل ما عانوا في حفظه ومراجعته من خطوات جزءً من حدسهم، رغم تأكدهم المسبق أنهم لن يستطيعوا تمثّله تماماً؛ ثم يتطابق تصورهم لما سيقدمون عليه مع ما سيقدمون عليه:

الخفة بالتوجه إلى الجدار، ثم صعود السلّم خلال ثوان، فالاستدارة على الجدار دون الوقوف عليه، وتدلية الجسد مع الجهة المقابلة من الجدار، وفي لحظة ترك اليدين ترسلانه إلى المجهول. هناك بعد الهبوط أضواء الكواشف التي تعمي العيون للحظاتٍ نتوجه خلالها بعكس الجدار، ثم يعود النظر ونحن راكضين، فيوجهنا الدليل الذي يكون وقتها قد غاب في الخندق، لكن أثره ما زال باقياً في العضو الذي يليه، أو الذي يليهما.

ولكن أليس في وسع القدمين أن تكونا أقل احتكاكاً بالأرض، وأقل إصداراً للصوت! لو كان الطريق مزفتاً لأرينا بعضنا بعضاً مقدراتنا الفائقة، لكن الأراضي الزراعية المليئة بالحشائش وأوراق الشجر والأغصان اليابسة فضيحةٌ حقيقية، وأكبر تحد لنا، أما ما عداها فليس بذي أهمية؛ جدار الخندق في ظروف أخرى عصيٌ على التسلق، لكنه في تلك الأثناء يغدو كأنه عطسة، وفي طريق اجتيازه كانت عينا أحدنا في ظهر العضو الذي يسبقه مثبتةً وحادسةً ومتربّصةً بأي خطر لا يقع في مجال العينين، وكأن الظهر حاسةٌ أخرى تضاف للحواس، أما حركات اليدين على جانبيه، والرجلين تحته، والمنكبين فوقه، والنقرة بينهما، فكل ذلك يبدو على هامش الظهر أشياء غير مفهومة، وبلا فائدة، لكنها موجودة لإكمال الزحف أمتاراً إلى الأسلاك الشائكة، واجتيازها، ثم الاستقرار بين الأشجار.

الآن اختفى تصورنا عما سنفعله، فقد فعلناه.

لا أنكر أني في تلك الأثناء كنت على حافة اليأس، أشعر أن أي لحظة قادمة ستكون لحظة استسلامي، لكني كنتُ أعي في ذات الوقت أن ثمن الاستسلام سيكون كثمن المتابعة، أي إمساك الحرس بنا! لذلك كنتُ أتابع، وأنا أنتقمُ من المهرب بشتمه في سري أقذع الشتائم، فهناك فكرة غائمة استولت عليَّ حينها، ملخصها أنه كان يستطيع أن يجنبني كل تلك المتاعب، عدا عن كونه يكذب كبقية المهربين، ويريد أن يصل إلى نقودنا بأي ثمن، لذلك جعل الطريق ممهدة وسهلة حين حكى عنها، لتوريطنا بالعبور، وربما أراد لنا أن نكون طعماً للحرس، بإشغالهم وإدخال مجموعة ثانية من مكان آخر، كما يفعل المهربون، لكننا بقينا على أمل أن يكون مهربنا استثناءً، رغم أننا اكتشفنا كذبه مبكراً، عندما أخفى عنا أنه سينتظر ساعة تبديل الحرس القادمة، بعد ستة ساعات أو أكثر، وأخبرنا، بدلاً عن ذلك، أن الأمر متعلق باقتناص وقت غفلتهم، وإخطار الدليل عند ذلك لمتابعة الطريق بنا. كل ذلك أصبح الآن من الماضي، والمستقبل انتظار.

قنينة الماء كانت إحدى المشكلات العويصة التي واجهتنا قبل اجتيازنا الجدار، إذ ليس مع الأكثرية حقائب لوضعها فيها، أما الذين يحملون حقائب، وأنا منهم، فكان من الغباء سؤال أحدهم وضعها فيها، كما أنه من الغباء كذلك حملها باليد، إذ ستعيق الحركة، وتشكل عبئاً كبيراً على حاملها، وستصدر تلك الأصوات المزعجة التي قد تكون سبباً في الإمساك بنا. إذن فلنتركها. لكن لا، فالوقت الذي سنقضيه مختبئين طويل، وسنحتاج قطعاً إليها. لم أعرف من حملها، لكنني شاهدتها في مخبئنا، رغم أنني آخر من تركها قبل صعود السلّم.

لم يكن الجلوس بين الأشجار خياراً مناسباً، لذلك انتقلنا إلى الاختباء وسط الأشواك، وهناك واجهنا البدر مستلقين على ظهورنا لساعات، بروائحنا البشرية المختلطة ببعضها، وبرائحة الشوك اليابس والأرض الغامقة التي لا تصلح للرسم. يعتقد أحدنا أن البقية نائمون، لذلك كان عليه المراقبة بأذنيه، وأحيانا بنظره، حين تقترب أعمدة أضواء الكواشف المتحركة في الفضاء، بتناغم مع حركة يدي عنصر من الحرس التركي. ليس للمراقبة فائدةٌ سوى الترقب، وعدم ترك أمر اكتشافنا يأتي على حين غرة، فنومنا متكدسين في تلك الفرجة بين الأشواك يوحي لمن يعتقد أنه المستيقظ الوحيد من بيننا بعدم اكتراثنا.

ثلاث ساعات كانت كافية للاستسلام، بعدما عرفنا أننا جميعاً مستيقظون، والحلّ في العودة إلى مقاومة اكتشافنا بصمت أكبر؛ لم نعد بعدها نمثل النوم بالتململ، أو المراقبة بتدوير العيون في المحاجر، إذ صمتنا أكثر اتساعاً وانسجاماً مع الطبيعة، ويناسب كتلة لحمية مركونة في حقل شوك على جانب طريق عسكري، تنظر إلى النجوم والقمر بخشوع، كأنها تؤدي صلاة، متخذة صوت طائر خلفنا في الحقل يطقطق بمنقاره غطاءً تختبئ خلفه، بأصوات أمعائنا الخاوية أو بلاعيمنا الناشفة، التي تنفجر مفرقعة كلما سكت الطائر العاشق، أع أع إز قر… كانت تلك الأصوات تغطي على طلقات عناصر الحرس الذين يقتربون ويبتعدون بأضوائهم الكاشفة، وصراخهم يبعث القشعريرة في جسدنا: «سوري غال غال».

بعد ثلاث ساعات أخرى صرنا، مع ابتعاد الحرس، يأتي أحدنا بحركة ما لإسكات الطائر. أما أن يسكت لوحده فمعناه أنهم يقتربون، فينتفخ شيء في الداخل يشبه البالون أو الفقاعة، قد يكون تَرِكَتَنا من الطبيعة، ثم يصعد ويهبط بالتناغم مع الرئتين، فيتجمع على سطحه الغبار والقش الناعم. وعلى خلفية حركة ذاك الشيء تخرج نبضات القلب، اثنتان في الصعود واثنتان في الهبوط، ويستجيب الرأس لكل مالا تلتقطه العينان… راح البالون، الذي يقع في الوسط من تلك الأشياء، يماهينا مع رغباتنا. كان على استعداد أن يذهب بنا إلى الموت السريري، إن لزم الأمر، أو أن يقنعنا بالاختفاء أو التلاشي في سبيل عدم اكتشافنا.

عمود الضوء الآن على الكتلة اللحمية، والصراخ أعاد لكل شخص منا صمته الخاص: «سوري غال غال»، لكننا عدنا للتمثيل بأننا نيام، ثم حاولنا أن نكون غير موجودين، لكن الفقاعة كانت قد انفجرت، ففشلنا. حاولنا مرة أخرى، لكن طلقة في الهواء سلمتنا لقوانين قد يُنظر إلينا من خلالها أننا خطرون.