اسمي دلير. دال لام ياء راء. دلير، هكذا بكلّ بساطة. لا حروف معقدة ولا حروف غير متناسبة ولا حروف صعبة النطق. معنى اسم دلير هذا كما جاء في قاموس معاني الأسماء: دلير اسم علم مذكر كردي معناه الشجاع، وهو كذلك بالفارسيّة.

سمّاني أهلي دلير، أو بالأحرى سمّاني جدّي الملّا محمد بعد خلاف بين أبويّ على اسم ابنهما الثالث، فبعد اسم الابن الأول الكردي شيار والثاني العربي بشار كان الاختيار صعباً حين جاء دوري. أبي أراد تسميتي زنار، وهو اسم كردي يعني الصخرة البارزة في أعلى الجبل. سجّلني كذلك في دائرة النفوس وعلى دفتر العائلة. لم تقبل أمي. أمي أرادت أن تسميني يسار، تأثراً بشيوعيتها ويساريّة العائلة ككلّ. شطب موظف دائرة الأحوال المدنية، بخط قلم أحمر، اسم زنار من على دفتر العائلة وكتب يسار. لم يقبل أبي. اختلف الزوجان.

قال لهما جدي: أعطوه اسماً آخر، سمّوه دلير. دلير كان شاعراً كردياً عاش قبل ثلاثة آلاف سنة. أحب الزوجان وقع الاسم على أذنيهما. طلبوا من الموظف استعمال قلمه الأحمر مرة أخرى وشطب اسم يسار من صفحتي الخاصة في دفتر العائلة وكتابة اسم دلير فوقه. هكذا تمت تسميتي.

ولدتُ يوم الأحد في مستشفى الزهراوي في حي القصاع الدمشقي. كانت الطبيبة صديقة والدي الطبيب. قال أبي لزوجته إنّها طبيبة ممتازة وتعمل في هذا المستشفى. هكذا ولدت دون عذابات في المخاض ودون مفاجآت. بقيت دون اسم لأسابيع طويلة لا يعرفون بأي اسم ينادونني، إلى أن استقرَّ بهم الحال على اسمي هذا.

بعض أفراد عائلتي ينادونني «دِلو»، جدتي تقول «دِلْدِلْ» وآخرون يقولون «أبو الدل» وألقاب أخرى ظلّوا يقولونها حين مناداتي. ذلك في البيت وبين أفراد العائلة، في الحارة والمدرسة شيءٌ آخر كان ينتظرني.

عادةً يلفظ الأكراد أو المنحدرون من أصول كرديّة الاسم بصورة صحيحة أو أشبه بالصحيحة، أما غير الأكراد فقد كانوا يحتارون في نسب الاسم إلى دين أو ملّة. في دمشق لم يكن ترف لفظ الاسم صحيحاً، متاحاً. الأطفال في مدرستي كانوا ينادونني بأسماء مختلفة لا علاقة لها بإسمي. ذوو الأصول الدمشقيّة مثلاً كانوا يضّمون الحرف الأول، أو يضيفون حرف الواو له فيصبح الاسم لديهم دولير. هذا أشدّ أسمائي كرهاً.

في أماكن خارج المدرسة حيث لا يتكرر الاسم كثيراً في قوائم الطلاب، في الشارع والمحال التجاريّة والأنديّة الرياضيّة، كان عليّ أن أعيد لفظ اسمي عشر مرات على الأقل، في كلّ مرة أُسأل عنه، ومن ثمّ أبدأ بالشرح. في كلّ مرة كنت أفكر: لو كان اسمي محمد مثلاً لكانت هذه الدقائق التي أستغرقُ فيها بشرح اسمي ملكاً لي.

لي مشكلات لا تحصى مع المعلمين والموجهين والعاملين في المدارس والجامعات بسبب اسمي. فتارة أُحشَرُ مع فئة المسيحيين ومرة مع الأجانب، وكثيراً من المرات مع غريبي الأطوار، ففضلاً عن اسمي الغريب كان لي شعر أجعد مختلف عن الآخرين وكنتُ أحمل كتباً من خارج المنهاج المدرسي معي في المدرسة، ولا ألفظُ حرف السين كما يلفظه الآخرون. مرة قال لي الموجّه المدرسي: من أين جلبت اسمك هذا؟ أهو مشتق من الفعل الثلاثي دَلَرَ؟ لا أذكر أنّني سمعت هذا الفعل من قبل.

كلّ يوم كنت أواجه طفلاً/ فتىً يسخر من اسمي، أتعارك معهم أحياناً وأحياناً أحمل السخرية في قلبي وأمشي. كانوا يقولون أحياناً كلير، في تشبيه بحلوى الكلير فرنسيّة الأصل، وهي ضرب من ضروب الحلوى إصبعيّة الشكل. لم أتناول هذه الحلوى حتى أصبحت طالباً جامعياً كردِّ فعلٍ على هذا التشبيه السخريّة.

كانوا يقولون في أحيانٍ أخرى بلير، في تشبيه برئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير الشهير بحربه المشتركة مع شريكه جورج بوش الابن، الأمريكي الجمهوري، على بلاد العراق. كانوا يقولون أيضاً دلّ إير، في إحالة إلى العضو الذكري الذي نخجل به علناً في مجتمعاتنا ونقدّسه سراً. وكم تمنيت سراً أن يشبّه أحدهم، يوماً ما، اسمي، بـموليير الشاعر المسرحي، أو بودلير الشاعر. كنت أقول لنفسي ألا يشبه اسم دلير بودلير أكثر من شبهه بالإير. كم كنتُ حزيناً!

كنتُ أكره لفظ اسمي حتى اليوم الذي وقعتُ فيه على قصيدة للمتنبي، مالئ الدنيا وشاغل الناس، الذي يقول في مطلعها «كدَعْواكِ كُلٌّ يَدّعي صِحّةَ العقلِ». في هذه القصيدة يذكر المتنبي قائداً كردياً وصل بإمارته إلى حدود سيناء قادماً من جبال إيران فيقول في بعض الأبيات:

فتَمْليكُ دِلّيرٍ وَتَعْظيمُ قَدْرِهِ/ شَهيدٌ بوَحْدانِيّةِ الله وَالعَدْلِ

وَمَا دامَ دِلّيرٌ يَهُزّ حُسَامَهُ/ فَلا نَابَ في الدّنْيَا للَيثٍ وَلا شِبلِ

وَمَا دامَ دِلّيرٌ يُقَلّبُ كَفَّهُ/ فَلا خلقَ من دعوَى المكارِم في حِلِّ

يا إلهي، المتنبي عرفَ اسمي قديماً. لماذا لا يعرفه العرب الآن؟ لماذا لا يعرفون نطقه وواحد من أعظم شعرائهم ذكر الاسم في ثلاثة أبيات من إحدى قصائده. يكسر المتنبي حرف الدال بينما أسكنه أنا حين اللفظ، وهو يشدّد اللام وأنا لا أفعل. لكن يبقى الاسم هو هو، وإن اختلف بعض اللفظ.

صار هذا الاسم يؤرقني. أصحّحُ لفظه للناس. أخبرهم عن قصيدة أبي الطيب. أقول لنفسي لعلّ وعسى. كلّ هذا وأنا أعيش في «بلادي» في أرضي وأرض أجدادي. لاحقاً حطَّت رحالي في بلاد بعيدة لا شمس فيها، أعيشُ فيها بعيداً عن الموت المنتشر في البلاد الأصل.

في بلاد الشام كان الاسم عبئاً أكبر. كلّ يوم أصحّحُ اسمي للناس. أفرحُ كطفل يلعب بالطين حين ينطق أحدهم اسمي صحيحاً حين أذكره أمامه مرة واحدة. أفرحُ لأنّ دقائق جديدة لن تضيع في شرح الاسم وكيفيّة نطقه. أما في بلاد الجرمان حيث أعيش الآن، فإنّ عبء الاسم أكبر من أن تشرحَه بضع كلمات متناثرة هنا وهناك.

أكتبُ اسمي بالحروف اللاتينيّة بلغة أهل الإنجليز، فإن كان القارئ نيويوركياً كان لفظه للاسم صحيحاً، ينطقونه كما أنطقه تقريباً. أما إن كان ناطق الاسم ألمانياً أو هولندياً أو خلاف ذلك من سكان شمال أوروبا، فإنّ لفظ هذا الاسم يختلف من شخص إلى آخر، بعضهم يناديني ديلائير، فأحسب نفسي من بني إسرائيل، وبعضهم الآخر يناديني ديلاير فأظن نفسي جرمانياً، وهكذا تتالى الأسماء عليَّ حتى بتُّ أعرف اسمي من غير أن أُنادى بلفظه الصحيح. كلّما قِيلَ اسمٌ يبدأ بحرف الدال عرفتُ أنّ المنادى عليه هو دلير، أي أنا.