بعد ذروةٍ كبرى وصلتها الأزمة الكتلونية في الأول من تشرين الأول، حين عملت السلطات المركزية الإسبانية على إبطال مجريات الاستفتاء على الاستقلال الذي كانت الحكومة الإقليمية قد أقامته منفردةً، مقدّمةً مشاهداً مأساوية من عنف الشرطة في اقتحام المراكز الانتخابية وإغلاقها بالقوة، انتشرت في وسائل الإعلام عبر العالم وقدّمت صورةً تعيسة عن الساحة السياسية الإسبانية، تعيش كتالونيا وإسبانيا أياماً متتالية ثقيلة بالاستقطاب السياسي والشحن الشعبي والتراشق الإعلامي، ومليئة أيضاً بالاستحقاقات الإجرائية في اتجاه تطبيق المادة 155 من الدستور الإسباني، التي تُبيح للحكومة المركزية (بعد المرور على مجلس الشيوخ، حيث يمتلك الحزب الشعبي الحاكم في إسبانيا أغلبية مطلقة) نزع الولاية والاستقلالية عن الحكومة الإقليمية وإجبارها على الانصياع لأوامر الحكومة المركزية.
مضى عقدٌ كامل منذ أن بدأت الأزمة الكتلونية الحالية بالتصاعد تدريجياً، حين تمكّن الحزب الشعبي الإسباني (وكان في المعارضة آنذاك) من تجميد تطبيق القانون الأساسي الجديد الناظم للحكم الذاتي في كتالونيا عبر اللجوء للمحكمة الدستورية بعد أن كان القانون الجديد قد مرّ تشريعياً عبر برلماني كتالونيا وإسبانيا بتوافق بين الحكومة الإقليمية في كتالونيا (بقيادة تحالف ثلاثي آنذاك قوامه الفرع الكتلوني من الاشتراكي الإسباني والجمهوريون الاستقلاليون الكتلونيون والفرع الكتلوني من ائتلاف اليسار المتحد الإسباني) والحكومة الإسبانية، الاشتراكية آنذاك، برئاسة ثاباتيرو. وقد عاشت كتالونيا في السنوات الخمسة الأخيرة تحديداً تصاعداً في الخطاب الاستقلالي وتزايداً في الزخم الشعبي الداعم له، أمام عطالة وجمود من قبل الحكومة الإسبانية التي رفضت مراراً واقع أنها أمام مشكلة سياسية، وأصرّت على موقفها في أنها أمام مسألة إجرائية أو قانونية بحتة. ليست هذه العطالة السياسية لمواجهة مسألة بهذا الحجم نتيجةً لسوء إدارة الملف فحسب، بل كشفت، مرةً أخرى، عن مشكلة بنيوية تُعاني منها إسبانيا الحديثة منذ تشكّلها، هذه «المسألة الإسبانية» -وهي تتجاوز مسألة وجود أقاليم ذات هوية سياسية قوية ونزعة استقلالية، وهذه الأخيرة هي نتيجة نهاية القرن التاسع عشر- التي شغلت ساحة النقاش الفكري السياسي منذ الثلث الأول من القرن التاسع عشر، وتفجّرت مراراً على شكل مواجهات مسلّحة وحروب أهلية وانقلابات عسكرية (يُقدّر عدد التمردات والانقلابات ومحاولات الانقلاب العسكرية في إسبانيا في القرنين التاسع عشر والعشرين بحوالي 200)، وكانت ملتهبة برلمانياً وثقافياً على الدوام، وتعيش انفراجات وانتكاسات متلاحقة.
تفجّرت هذه المسألة الإسبانية مجدداً بانقلاب العسكريين القوميين- الكاثوليك على الجمهورية الإسبانية الثانية واندلاع الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936، لتعيش أربعة عقود من «الهدوء» تحت ثقل وسطوة ديكتاتورية فرانكو العسكريّة. بعد وفاة فرانكو، أتت لحظة دستور 1978 كتتويج لـ «توازن ضعف»، حسب تعبير الكاتب الإسباني الراحل فاثكث مونتالبان، أنتج مُساومة تاريخية بين التيارات المتصارعة من النخب الإسبانية (بين الجيل المدني من تيار فرانكو بقيادة أدولفو سواريث والحزبين الشيوعي والاشتراكي)، بمشاركة نُخب الأحزاب القومية الطرفية في الباسك وكتالونيا، ونُخب النزعات المحلياتية في مناطق أخرى من إسبانيا لا تحمل خطاباً قومياً، وإن امتلكت نزعة محّلية ورغبة باللامركزية، مُساومةٌ كانت في الأساس مسكونة بهاجس تفادي انقلاب عسكري جديد، وحرب أهلية أخرى. عاشت لحظة 1978 ثلاثة عقود من الاستقرار المدعوم بالوفرة الاقتصادية والغطاء الأوروبي، لتبدأ بالتآكل (كما سيُشار لاحقاً الجزء الثاني من النص)، لتصل اليوم إلى أقصى مؤشرات انتهاء صلاحيتها كأرضية تلاقٍ سياسي نافعة لمواجهة الاستحقاقات الإسبانية الكبرى، وعلى رأسها أزمة كتالونيا.
يُحاول هذا النص، في جزءه الأول، الإضاءة على العناوين التاريخية الرئيسية لـ «المسألة الإسبانية» للإشارة إلى أن الأزمة الفعلية اليوم هي إسبانيّة أكثر من كونها كتلونيّة، وأن عجز النخبة السياسية الإسبانية عن إدارة الملف الكتلوني بوصفه نزعة استقلالية لجزء من الدولة الإسبانية -وهذا ليس استثناءاً إسبانياً، بل موضوع مطروح في مناطق كثيرة أخرى من أوروبا- هو دليل عطالة بنيوية لا تتوقّف فقط عند مشاكل النظام السياسي الإسباني الحالي، بل تصل إلى عمق «فكرة إسبانيا»، ابنة المئتي عامٍ الأخيرة. وسيُخصص الجزء الثاني لعرض ملامح النظام السياسي الإسباني الحالي، نظام دستور 1978، وتصادم أزمته مع أزمة النخبة الاستقلالية الكتلونية، ما أنتج «تصادم القطارات»، وهو عنوان متكرر للإشارة للأزمة الكتلونية الحالية في الصحافة والتحليلات.
سؤال الهوية والبُنية والدولة
رغم أن الجغرافيا القارّية الحالية لإسبانيا (ويُقصد بذلك إسبانيا الموجودة ضمن شبه جزيرة إيبيريا، وجزر الكناري والباليار، ومدينتي سبتة ومليلة) ناتجة عن مصاهرات واندماجات وحروب الممالك الإيبيرية القديمة، لا سيما اعتباراً من توحّد تاجي أراغون وقشتالة واكتمال السيطرة على الامتداد الجغرافي الإيبيري مع إنهاء ممالك الطوائف مع نهاية القرن الخامس عشر، والزخم المُكتسب من «اكتشاف» أميركا تحت رعاية التاج القشتالي-الأراغوني الموحّد، إلا أن الجغرافيا السياسية لإسبانيا المُعاصرة هي إبنة سؤال الدولة الحديثة، والذي بدأ اعتباراً من نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر.
كما سبقت الإشارة، مرّت إسبانيا بظروف سياسية صعبة للغاية خلال القرن التاسع عشر. لا مكان للتوسّع هنا في عرض كل مجريات ذلك القرن المصيري لتشكّل الجغرافيا السياسية الحديثة لأوروبا (وتشكّل المسائل الأوروبية الحديثة، وتعقيداتها ومجازرها وحروبها)، لكن تجدر الإشارة إلى أن إسبانيا بدأت القرن في وضع شيزوفريني: مُستعمِرةً لمساحات شاسعة من وسط وجنوب أميركا، ومناطق عديدة في المحيط الهندي وجنوب شرق آسيا وشمال أفريقيا، وفي الوقت نفسه شبه مُستعمَرة نتيجة الدخول العسكري النابليوني على خط مواجهات متصاعدة بين «النظام القديم» والليبراليين المتأثرين بالتحولات السياسية والفكرية الكبرى في أوروبا، ليتحوّل خليط الاحتلال الفرنسي والصراع المحلّي إلى حرب تحرير و«حرب أهلية» في آنٍ معاً، ولِد خلالها دستور قادش عام 1812، وهو أول دستور ليبرالي يتحدّث عن سيادة وطنية وبنية سياسية حديثة للدولة، ولم يعمّر ذلك الدستور بالكاد، لكنه أسَّسَ لنقاش سياسي وفكري أثّرَ على كل مجريات القرن.
عاشت إسبانيا بعد ذلك عودة التسلّطية المَلكية البوربونية على يد فرناندو السابع (وإن كانت، خاصة في مراحلها الأخيرة، تحديثية اقتصادياً)، ثم سلسلة حروب طاحنة على شرعية وراثة العرش، ثم تجربة جمهورية أولى عام 1873 دامت أقل من سنتين، ثم أزمة سياسية متواصلة واستقطاب طاحن، ثم تسيّس بعض الهويات المحلية (الكتلونية والباسكية بشكل أساسي) وظهور النزعات القومية الطرفية خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وتزامن ذلك مع مغامرات عسكرية في شمال أفريقيا، مُرهقة عسكرياً ومكلفة مادياً، لينتهي القرن التاسع عشر مع «الهزيمة الكبرى»، أي فقدان آخر مستعمرات ما وراء البحار، الفيلبين وكوبا وبويرتو ريكو وغوام، خلال الحرب مع الولايات المتحدة الأميركية عام 1898. كان لهذه الهزيمة أثر عميق ومُدمّر في إسبانيا، تجاوز السياسة والعسكرة ليصل إلى عمق الذات الإمبراطورية لإسبانيا، ويُشكّل شرطاً راسخاً في السياسة والثقافة الإسبانيتين، ليس فقط على مستوى النُخب، بل حتى على مستوى الثقافة الشعبية (هناك عبارات دارجة في الاسبانية المحكيّة حتى اليوم تستخدم تلك الهزيمة وكأنها «أكبر المصائب»، على غرار «يجعلها أكبر المصائب» في لغتنا العربية الدارجة).
مع بعض التجاوز، بالإمكان القول إن «فاشية» القرن العشرين في إسبانيا، تلك التي أنتجت، بعد مجموعة من الحركات السياسية والتيارات الفكرية الأصغر، والسياسيين والعسكريين المستقلين خلال العقدين الأولين من القرن، حزب الكتائب ونظام فرانكو، هي الابنة المباشرة لتلك الهزيمة. وسيتم تبيان سبب وضع كلمة فاشية بين علامات اقتباس لاحقاً في النص.
يطرح الأكاديمي الإسباني أليخاندرو سيبولفيدا «مفارقة إسبانيّة» كبيرة في القرن التاسع عشر: تمكّنت النخب الإسبانية، رغم كثيرٍ من الصعوبات، من إنشاء دولة إسبانيّة حديثة. إذ تمكّنت من التغلّب على واقع حكمها لبلد واسع جغرافياً، له فروقات كبيرة في الجغرافيا البشرية والمناخ والاقتصاد، وبعض مناطقه شديدة الوعورة وصعبة الوصول مع البنية التحتية لتلك الفترة، ويحوي العديد من الهويات والنزعات المحلّية والخصوصيات الثقافية واللغوية؛ لكنها عجزت عن بناء «فكرة إسبانيّة» أو «نظرية إسبانيّة» عن معنى هذا البلد وحجّة وجوده، ولم تتكوّن سرديّة حديثة تتجاوز واقع أن هذه الجغرافيا هي الوضع القائم الموروث اعتباراً من وصول آل بوربون إلى العرش الإسباني، وبعض الأفكار الماضوية عن «امبراطورية» حكمت أجزاء شاسعة من العالم. بطبيعة الحال، هناك أسباب فكرية وسياسية لهذا العجز، لكن أيضاً أسباب بنيوية اقتصادية.
لم يتمكّن الاستعمار الإسباني من بناء «تراكم أولي» عام في إسبانيا يسمح بقوّة اقتصادية دولتيّة كافية لبناء دولة حديثة، إذ أن ريع الاستعمار تحوّل إلى أداة تمويل لشبكة زبائنية من النبلاء الإقطاعيين بإدارة وتدبير التاج الملكي، وذهب قسم كبير منه نحو مناطق أخرى من أوروبا لتمويل احتياجات إسبانيا الصناعية وتمويل الاستيراد، دون أن يُساهم فعلياً في مواكبة الثورة الصناعية الأوروبية، ليتحوّل الاستعمار، خصوصاً مع اندلاع حروب التحرير في مناطق عديدة من أميركا اللاتينة مع بداية القرن التاسع عشر، إلى عبء اقتصادي على المركز. وقد أشار إدواردو غاليانو إلى «العطالة الاستعمارية» الإسبانية هذه في كتابه الشهير عروق أميركا اللاتينية المفتوحة.
إذاً، دولة القرن التاسع عشر في إسبانيا فقيرة، مثقلة بالديون، وتعاني صعوبات جمّة في التحصيل الضريبي. مع ذلك، تمكّنت النخب الحاكمة من توحيد سياسات السكّ النقدي تحت يد بنك مركزي خلال حكم فرناندو السابع، وتوسّعت في سياسات التحوّل الاقتصادي الليبرالي عبر سياسات المصادرات، أي مصادرة الأملاك الشاسعة المملوكة لـ «أيادي ميّتة» (الملكيات الزراعية للكنيسة، وأملاك بعض العائلات النبيلة المتحللة أو المندثرة، وأراضي المشاع) وطرحها في المزاد العلني، شرط استثمارها ودفع ضرائب عنها. وهي سياسة اتُّبعت في دول أوروبية أخرى. كان لتلك الخطوة هدفان رئيسان، أولهما رفد الدولة بموارد تسمح بسدّ الديون والتصدّي للإنفاقات الجارية وتمويل الحروب؛ والثانية خلق «طبقة ملاّكين» فاعلين ضمن الدولة الإسبانية الحديثة، أي استيعاب طبقة الأعيان والنبلاء والإقطاعيين وجذبهم من الولاء للنظام القديم وتفعيل دورهم ضمن إطار الدولة الحديثة من جهة، وتنشيط تشكّل البرجوازيات المدينية ورفدها بالأملاك والموارد (وكما في مناطق أخرى من أوروبا والعالم، جرى صراع سياسي طويل حول إبقاء الولاية السياسية وحقّ القرار والانتخاب والتداول بيد طبقة الملاّكين، أم فتح هذا الحق لعموم الإسبان). نجحت هذه السياسة في خلق طبقة الملاّكين، وعوّمت الاقتصاد الإسباني بما يسمح لبقاء الدولة قائمة، وإن مع الكثير من العوز والمشكلات، لكنها، وبسبب التفاوتات الجغرافية واختلاف أنماط المُلكية الزراعية بين جنوب ووسط إقطاعي، يُسيطر على مساحات شاسعة، وشمال يتميّز بملكيات أصغر، وأكثر صناعيّة في بعض أقاليمه، فشلت في مُجانسة طبقة الملاّكين هذه وإنشاء عوامل جمع ومصالح مشتركة وتوافقات خارج كونهم ملاّكين. لم ينشأ «سوق» إسباني متكامل ولو بالحد الأدنى، ومنفتح ومتفاعل مع الأسواق الأخرى بشكل متجانس، وبقيت التفاوتات عالية. فعلى سبيل المثال، في العقود نفسها التي شهدت ازدهار كتالونيا والباسك اقتصادياً بفضل تطوّرهما الصناعي النسبي واتصالهما التجاري الأوروبي المستقل عن السوق الإسباني كانت مناطق أخرى تعيش أوضاعاً اقتصادية بالغة السوء بسبب انتكاس الإنتاج الزراعي ومشاكل المناخ، بعضها شارف المجاعة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وصدّر عشرات الآلاف من المهاجرين نحو الأميركتين، والذين كانوا فعلياً لاجئين اقتصاديين. وهي العقود نفسها التي شهدت تسييس الهويات المحلّية الكتلونية والباسكية وتحوّلها إلى نظريات قومية بتأثير نهوض الأفكار القومية في أوروبا، ومُدعّمةً بأنها مناطق أصغر جغرافياً، أكثر تجانساً مع حيث الاقتصاد والديموغرافيا، وتكوّن «وحدات» متكاملة كأسواق.
مفارقةُ أخرى -والمفارقة عنوان أيّ كلام عن إسبانيا- نجدها في أن للبرجوازية الصناعية والتجارية الكتلونية الدور الأكبر في محاولة مجانسة السوق الإسباني وفتحه، كما يشير المؤرخ الكتلوني جوان لويس مارفاني، لدرجة أن شخصية «مندوب المبيعات» الكتلوني الذي يصل إلى أصغر بلدة في أي مكان في إسبانيا باتت شخصية فلكلورية (وكاريكاتيرية ضمن الصورة النمطية للكتلوني التاجر، الشاطر والبخيل في آنٍ معاً) وأصبحت جزءاً من الموروث الثقافي الشعبي الإسباني لتلك الفترة. بقيت ملامح كثيرة من هذا الواقع، بينها، مثلاً، أن العاصمة العالمية للنشر والطباعة والتوزيع باللغة الإسبانية هي برشلونة وليست مدريد.
على الصعيد الفكري السياسي، لم تتحقق الشروط اللازمة لإنتاج «فكرة إسبانيّة» حديثة، أكانت قومية الملامح أم مؤسساتية، قادرة على إنتاج إجماع وبناء أغلبية تستبطن معنى أن تعيش سويّة في فضاء سياسي موحّد. وقبل الدخول في بعض تفاصيل هذا الفشل لا بدّ من الإشارة إلى أن هذا الأمر لا يعني غياب هوية ثقافية إسبانية، قوامها اللغة بشكل أساسي (رغم الخصوصيات اللغوية للباسك وكتالونيا وغاليثيا)، فهذه الهوية شديدة الرسوخ، ينتمي تشكّلها إلى عصر الازدهار الإسباني (المُسمّى ضمن الثقافة الإسبانية بـ «القرن الذهبي»، رغم أن هذه الفترة دامت منذ أواسط القرن الخامس عشر وحتى أواسط القرن السابع عشر)، أُنتج فيها قدر كبير من الأدب والفن الإسبانين، وتشكّلت ملامح «ثقافة إسبانيّة» تجاوزت النخبوي نحو فنون أكثر شعبية مثل الغناء والمسرح وغيرها. ما لم يُنجز هو «تسييس» هذه الهوية بما يتلاءم مع هوية سياسية حديثة.
عدا القلاقل والحروب والانقلابات، وتخبّط النظام السياسي المتواصل، لم تمتلك احتمالات تشكّل «فكرة إسبانيّة» مؤسسات قديمة بالإمكان إعادة استثمارها لخلق إجماعات جديدة واسعة، فالتاج الملكي، ممثلاً بعائلة بوربون، افتقد دوماً الاتصال مع طبقات واسعة من الشعب. لم يمتلك ملوك بوربون الكاريزما والصورة الشعبية العامة في أيّ وقت (باستثناء سنوات ما بعد فرانكو، الحديثة للغاية، وغير المرتبطة بشخوصهم، بل بالملكية الديموقراطية الدستورية)؛ والجيش، صانع الإنجازات وفاتح العالم على مصراعيه أمام الإمبراطورية في عهدٍ مضى، كان يفتقد أيضاً لأي طابع أو رمزية شعبية، وتصرّف دوماً كأخوية منغلقة اجتماعياً وطقوسياً (وقد استمر هذا السلوك حتى ثمانينات القرن العشرين، وشكّل معضلة أمام ضرورة تحديث الجيش الإسباني خلال العهد الديمقراطي)، ولا يلجأ إلى «العوام» إلا للتجنيد الإجباري أو لتمويل حروب لا تنتهي، تحوّلت لاحقاً إلى مغامرات عسكرية مكلفة وسيئة السمعة شعبياً للغاية، عدا عن إثارته نفوراً شديدة في الأوساط الأكثر ليبرالية، وضمن الجمهوريين، إضافة لصراعاته الداخلية المستمرة والنزعة الانقلابية المتكررة لدى كبار ضبّاط مهووسين بشخصية المخلّص. هذا عدا نسب الأمّية العالية وغياب أي «سياسة دولة» بخصوص نشر التعليم الأولي وتوحيده حتى مراحل متقدّمة جداً من القرن التاسع عشر، يُضاف إلى ذلك ماضوية وتشاؤم النُخب الثقافة الأكثر تعلّقاً بضرورة إنشاء «فكرة إسبانية» من مؤرخين وكُتّاب.
على مستوى التيارات الفكرية والسياسية، كان التناحر الشديد والانقسام الحاد بين نظريات شديدة الاختلاف، وعميقة العداء بعضها لبعض لدرجة التحارب في مراحل عديدة، سبباً في غياب إجماع مُشكّل لنخبة تحمل هموم وتطلّعات «حزب إسباني» يُشكّل طليعة بناء وطني. تشكّل الصراع السياسي على مستوى إسبانيا آنذاك، بشكل عام، من ثلاثة تيارات رئيسية: الملكيّون التقليديون أنصار «النظام القديم»؛ التيارات الليبرالية والمحافظة البرلمانية؛ والجمهوريون بأنواعهم، ليُضاف إليهم الفاشيون مع مطلع القرن العشرين. عدا الانقسام والصراع، لم تمتلك أيّ من التيارات الكبرى أي نزعة راديكالية حول «أسبَنة الإسبان» وبناء قومية انصهارية، فحتى الملكيّون التقليديون، وهم الأكثر تمسّكاً بماضوية إسبانيّة امبراطورية آنذاك، كانوا حسّاسين تجاه خصوصيات تاريخية لمناطق إسبانيّة مثل نافارا، التي تمتلك نوعاً من الاستقلالية التاريخية، التشريعية والمالية، عبر مجالس محلّية ضمن نطاق التاج الإسباني. التوجّه العدواني الوحيد تجاه «الخصوصيات» لا سيما ضد الباسك وكتالونيا، أتى عبر التيارات الفاشية ضمن القرن العشرين، وكان عداءً نحو من «يُهّدد وحدة الدولة» أكثر من كونه صراعاً بين نظريات قوميّة ناجزة ومتصارعة على الجغرافيا. لكن قلّة العدوانية تجاه النزعات الطرفية لم يتحوّل، بدوره، إلى منظور فيدرالي لإسبانيا إلا عند شطر من الجمهوريين الإسبان، وإن لم يصل ذلك المنظور إلى نظرية ناجزة، وتحوّل إلى تحالف مصالح غير مستقر ضد الفاشية خلال القرن العشرين. للمفارقة، مجدداً، أُلغي الحكم الذاتي المؤقت لكتالونيا، وسُجن رئيس الحكومة الإقليمية في كتالونيا، لويس كومباينس، خلال العهد الجمهوري ما قبل الحرب الأهلية عام 1936، لأنه عمل على الخروج عن الاتفاق والذهاب باتجاه استقلال كتالونيا (وتُستخدم هذه الحادثة من قبل اليمين الإسباني للوم اليسار الجمهوري على دعمه حقّ الكتلانيين بالاستفتاء).
سبق وضع تعبير «الفاشية الإسبانية» بين علامتي اقتباس، ويعود ذلك إلى اعتبار العديد من المؤرخين أن ما سُمّي تجاوزاً «القومية- الكاثوليكية»، أي المُحافَظة العسكريتارية الممزوجة بحمائية اقتصادية في القرن العشرين، لم تصل إلى مصاف كونها نظرية فاشية على الطريقة الإيطالية أو الألمانية. لم يمتلك الفاشيون الإسبان العمق الثقافي الكافي ولا الأدوات لتكوين «نظرية» وإنشاء «عصبية» تابعة لها، بل استعادوا الحنين الماضوي للإمبراطورية الإسبانية، (رغم أنهم لم يكونوا ملكيين، ولا معادين للملكية تماماً في آنٍ معاً) في الوقت نفسه الذي استوردوا فيه بعض الملامح الحداثية وجزءاً من الخطاب الاقتصادي-الاجتماعي من الفاشيات الأوروبية. جلّ خطابهم قائم على الانفعال والغضب من «الزمن الردئ» الذي تعيشه إسبانيا، وسلسلة الهزائم المتلاحقة التي تسبب بها الليبراليون والانفصاليون وقليلو الإسبانية عموماً (أي «أعداء الداخل»)، بوصفهم «غير أخلاقيين» وغير ملائمين لدور إسبانيا كـ «ذخر أخلاقي» كاثوليكي في أوروبا، وأحد آخر معاقل الإيمان في القارّة.
كان لكل «تيار إسباني» آنذاك سرديته (الناقصة دوماً، وغير الجماهيرية)، وراياته ورموزه وشعاراته. ما أدى لغياب إجماع عام حتى على مستوى الرموز «الوطنية»: لم يُشرّع الاستخدام العام لعلم موحّد للدولة الإسبانية حتى وقت متأخر من القرن التاسع عشر، وكان علماً «رسمياً» بحتاً، أي يُرفع على المباني الحكومية ومخافر الشرطة لتبيان أنها أبنية «رسمية»، وكان على الدوام رمزاً مكروهاً من قبل شطر من اليسار والجمهوريين، ويلقى حساسية ونفوراً شديدين، لا سيما بعد أن صار علم المنتصرين عليهم في الحرب الأهلية، ولم يكن في يومٍ من الأيام رمزاً شعبياً، ولم يُرفع في مناسبات شعبية «حُرّة» (عدا مسيرات نظام فرانكو) في المجال العام وعلى شرفات المنازل وفي الاحتشادات الشعبية إلا خلال بطولات كرة القدم، أو ضدّ كتالونيا (كما يحدث الآن). أيضاً، لاسبانيا خصوصية أخرى على صعيد الرموز: لا كلمات للنشيد الوطني، بل هو عبارة عن لحن عسكري لإحدى قطع الحرس الملكي (وبالتالي لا ينفع حتى كطقس تحريكي للمشاعر الوطنية حتى خلال مباريات كرة القدم، لاستحالة إنشاده جماعياً)، وتم تبنّيه بسبب الحاجة البروتوكولية له في العلاقات الخارجية. بالتالي، لا رمزية شعبية له، ولا يُحيل إلى أي «أسطورة مؤسِسة» أو «ملحمة وطنية» تحرّك المشاعر وتدغدغ الانتماء، ولا يشبه بأي شكلٍ من الأشكال النشيد الفرنسي أو البريطاني أو الأميركي.
لا يعني هذا الكلام، بطبيعة الحال، بالضرورة أن وجود «نظرية إسبانيّة» مواكبة لتشكّل الدولة الحديثة كان سيمنع تشكّل قوميات طرفية في كتالونيا والباسك، لكنه كان سيشكّل مشهداً آخر على مستوى التفاهمات والصراعات الممكنة، مشهدٌ ليس بالضرورة أفضل من الحالي.
العوز الإسباني على مستوى السرديّة والرموز يجد أصداءً كاريكاتيرية حتى اليوم: «الإسباني» السياسي هو إسباني ضد كتالونيا والباسك، وهذا متواصل منذ أيام الجنرال ميجان أستراي ( العسكري الفرانكوي المرموق، صاحب صيحة «ليمت الذكاء وليحيا الموت» الفاشية والغبية في وجه الفيلسوف الإسباني ميغيل دي أونامونو، حين عاب عليه هذا الأخير حديثه عن كتالونيا والباسك بوصفهما «سرطانين واجبي الاقتلاع» في بدايات الحرب الأهلية الإسبانية)، وحتى بابلو كاسادو، وهو ناطق باسم الحزب الشعبي الحاكم قدّم قبل فترة تصريحاً مشيناً، يُذكّر الحكومة الكتلونية بمصير حكومة كومباينس، الذي سُجن في العهد الجمهوري، ثم أُعدم على يد قوات فرانكو. من ناحية أخرى، الإسباني «الثقافي» بالمعنى الشعبي لديه صورة بهيجة عن نفسه، تحيل إلى «حبّ أسلوب الحياة الإسباني» في الأكل والشرب والاحتفال، وذخره المُعاصر هو رمزيات البروباغندا السياحية لستينات القرن العشرين لجذب السياح الأوروبيي ضمن سياسات نظام فرانكو «الانفتاحية» آنذاك، من موسيقى وأفلام وشخصيات سينمائية وتلفزيونية فنّية وكوميدية، و -طبعاً- كرة القدم. هكذا، نجد أن المظاهرات ضد استقلال كتالونيا ليس لديها ما تهتف به إلا هتافات كرة القدم (لتشجيع قوّات الأمن والشرطة الذاهبة باتجاه كتالونيا، وكأنهم يشجعون فريق كرة قدم ذاهب نحو مباراة)، أو إذاعة أغاني فلكلور الستينات السياحي على مكبرات الصوت، أو -وهنا الخطورة الأكبر- استعادة هتافات وأناشيد الكتائب الإسبانية المفرطة الفاشية والعنف اللفظي الحرب-أهلياتي، التي كان قد مضى على اندثارها عقوداً طويلة.
وقد ألقى عوز السردية والرمز في إسبانيا بثقله على الخطاب السياسي الإسباني العام، أكان للحزب الشعبي اليميني (وهو الأكثر تطرّفاً -مع حزب «مواطنون» الجديد- ليس فقط في رفض أيّ بُعد سياسي ممكن لمقاربة المسألة الكتلونية، بل أيضاً في رفض فتح أي نقاش حول تطوير لامركزية الجغرافيا السياسية لإسبانيا)، أو حتى عند الحزب الاشتراكي، الأقل عنفاً في الخطاب عموماً، والرافض لأي تعاطٍ سياسي مع النزعات الانفصالية، وإن كان أكثر تفاعلاً مع نقاش اللامركزية دون أن يمتلك خطة واضحة. يدعم الحزب الاشتراكي في هذه الأزمة الحزب الشعبي اليميني في أي إجراءات تخص تطبيق المواد الدستورية لنزع الولاية عن حكومة كتالونيا، وإن مع إلحاق ذلك بضرورة فتح نقاش حول تعديلات دستورية بعد ستة أشهر من الآن.
الخطاب السياسي الإسباني دولتي بامتياز، إذ ليس هناك أفكار ناجزة حول معنى وضرورة وجود هذا البلد، أو شعارات أو أطروحات فكرية وسياسية خارج أن هناك «دولة» قائمة يجب الحفاظ عليها. حديث الخطاب الإسباني السياسي إجرائي بحت ولاسياسي، متعلّق دوماً بقوانين ونُظم ودساتير وإجراءات تشريعية ضمن الأطر الموجودة سلفاً، ومُحافظ للغاية في شكل وحدود ونظام الحكم في الدولة الحالية بوصفها وضعاُ قائماً، وأجزاء الخطاب السياسي التي تتجرأ على وضع سردية ما تنزلق سريعاُ في اللجوء إلى أكثر أشكال ماضوية الهوية الإسبانية الامبراطورية عفونةً، وهنا مفارقة جديدة، وليست أخيرة: خطاب دولتي مستند إلى دستور 1978 ولحظة الإجماع السياسي حوله، والتي بُنيت شرعيتها أصلاً (كما سيوُضّح في الجزء الثاني) على ضرورة التجاوز والنسيان، يستند أحياناً على خطاب ماضوي شديد الهوس بذاكرة حرب-أهلياتية. هذه المفارقة، بالإضافة لأزمة النخبة الاستقلالية الكتلونية، واحتمالات المستقبل القريب، ستكون مواضيع الجزء الثاني من النص.