علمتُ أني تغيرت حين كنتُ أجلس على العشب وساقاي ممدودتان أمامي، رأيتُ يداً تحاول الخروج نابشةً التراب، فطمرتُها دون تردد وهربت. طالما أنني لم أحاول إخراجها فلا بدّ أنني من دفنها هناك. ثم أصبح الأمر واضحاً: لقد أصبتُ بالوباء.
كان عليَّ أن أعلم أن حياتي ستستمر بكونها نسخة ساخرة عما أريدُ لها أن تكون، حين هربتُ من بيروت على متن باخرة، بعد أن سئمتُ مناداتي بـ «فتاة الحصار»، ولأنني رأيت شاتيلا وعين الحلوة فأصبت بالذعر: «لا… لا أريد أن يحدث هذا لنا». كان عليَّ أن أعلم منذ تلك اللحظة التي وجدتُ نفسي فيها على سطح الباخرة، مع نساء يبعن الثياب ويضاجعن الركاب الذين لديهم حجرات كي لا ينمن على السطح، ومالك شاحنة نقل، الذي يلاطفني لأنه يعتقد أنني سأفعل مثلهن. كان عليَّ أن أفكر: هذا لا يشبه بأي شكلٍ أن يكون المرء متجهاً إلى تونس مع رفاق السلاح.
كان عليَّ أن أعلم، لكنني كنتُ مقتنعة بأن «الواقع ملجاً من لا يملكون مخيلة»، لذا استمريتُ بإلقاء الأزهار اليابسة والحيّة وأكواز الصنوبر والأساور والحلوى للنهر الذي يقطع هذه المدينة كي يأخذني إلى حيث أريد، وهكذا يوماً يتلوه الآخر تحولت إلى الفتاة «التي تنتظر المعبر»، مثل انتظار عصافير بول كلي الزرقاء في مدينة إدوارد هوبر، ليس لأن جميع متاجرها تبيع فساتين الزفاف المتماثلة في قبحها، ولا لأن مطاعمها تبيع طبق اللحم ذاته، ولا لأن جميع سكانها يملكون ساعة بيولوجية واحدة، بل لأن متاجر الحلوى «تحديداً» تبيع الصنف المحشو بالفستق ذاته، كما تنثر الفستق المطحون على كل شيء إلى درجة تجعلني أتخيلهم يرشونه على موتاهم وهم يوارونهم القبور.
في البداية شعرتُ أن هناك أمراً غير طبيعيٍ يحدث: مشواري الأول إلى مطعم كان أشبه بزيارة مجلس عزاء، لوحاتٌ سوداء صغيرة محببة نعرفها بكرتونات دير الزور تتدلى من رؤوسها بسلاسل برونزية فوق ورق جدران بنيٍ مكتظ بزخارف رفيعة ميتة، وقبالة الطاولات منصّة تنتصب عليها علّاقتان خشبيتان، تحمل اليمنى صوراً لقادة في الجيش الحر وقتلى ومعتقلين، بينما تحمل اليسرى ملصقاتٍ لأفلام وصوراً لممثلين من هوليوود، ما يجعلك عاجزاً عن تناول أي شيء سوى القهوة على أرواح العديد من الأشياء التي قُتِلَت حين صمموا هذا الديكور ولا زالت تطالب بالقصاص، حاولتُ تجنب قول رأيي بالمكان كما يفعل بالبقية، والتلّهي بلعق إصبعي الذي جمع فتات الكلمات المتناثرة على الطاولة والتي لا أريد لها أن تُرمى في القمامة، لكن ذلك لم ينقذني من الإجابة على السؤال المباشر لإحدى الأجنبيات عن رأيي بالمكان: «هل أمسكوا بالفاعل؟». وهكذا فقدتُ عملي الأول.
لكنني لم أدرك أن المدينة بأكملها مصابة بوباء الأكاديا قبل ذلك اليوم في مول «السانكو»: في مدخل المول، بين «مانغو» الى اليمين، و«كوتون» الى اليسار، وُضِعَت صورٌ كبيرة الحجم وبالأبيض والأسود لجنود من أبناء المدينة، قُتِلوا على فترات متباعدة في معارك مع حزب العمال، وجرى نبشهم وتعليقهم على مناصب خشبية بقصد الاقناع بضرورة المعركة الجديدة، ورغم أن الصور كانت في مدخل المول كما قلت، استمر المتسوقون بالتنقل والسير نحو المتاجر دون أن يتوقفوا أمامها لإلقاء نظرة، مع أن الأعلام الحمراء كانت تزداد على شرفاتهم طوال فترة المعارك، كما لو أنهم يريدون إقناعك بأنهم مقتنعون بالمعركة الجديدة.
يومها عدتُ للمنزل وأنا أضغط يد رفيقي، لأغطس في الغوغل: بخطٍ أحمر رسم سكان ديار بكر، دوائر حمراء حول مآذن المساجد المحطمة في الصور. أسفل صورة لناشط سوري يضع علم الثورة على صدر أردوغان، علقَّ أحدهم بالكردية: عاهر. في صورة أخرى، تنظر أمٌ إلى الكاميرا بعينين أشبه بثقبين أسودين، بينما ينام ابنها أمامها على جانبه الأيسر، وفي ظهره ثقبٌ أسود. أثبّتُ عيني عليها وأتذكر خبراً قرأته عن طفل عراقي عادت إليه الحياة لأن والدته أطالت النظر إليه في المشفى.
أنظرُ إلى وجه جارتي الجديدة وهي تضع الطعام لوالدها وعمتها الضريرين، في المنزل الذي استغرقني إيجاده عاماً لأن مالكي المنازل القديمة ذات الحدائق كانوا يرفضون بإصرار تأجيري منازلهم مستخدمين الجملة ذاتها: «سوري يوك». لكنني نجحتُ أخيراً وغادرتُ البناء الحديث الذي يشبه المدافن ذات الأدراج، قبل أن أقوم بتخريب الجهاز المعطر الذي يجعل البناء بأكمله يفوح برائحة الكلوروفورم، أخبرت شقيقتي عن نيتي فعل ذلك لكنها اقترحت أن نطلب منهم تغييرها. ماذا لو رفضوا؟ حينها سيعلمون أننا من قام بتخريبه، هذه عيوب الحلول السلمية: تجعلك مكشوفاً، ثم إن جهازاً مثل هذا يجب تحطيمه وتحويله إلى قطع ونثر إلكتروناته في الهواء.
تبتسم «أوزلام» دائماً طوال جلوسها إلى الطاولة وتناول الطعام، فتبدو مثل أيقونة لقديسة من العصور الوسطى، بشعرها الأحمر القصير الملتف ولونها الأبيض الشاحب: لماذا تستمر بالابتسام لهما مع أنهما لا يستطيعان رؤيتها؟
في المنزل الجديد، الذي استأجرتُه من بائع خمور، زرعتُ كل ما وجدته في المشتل: نعناع، كزبرة، إكليل الجبل، قرنفل، ورد بلدي، باذنجان، طماطم، فلّ، ريحان، توت بري، ريحان بنفسجي، مليّسة، ياسمين، شجرتا تفاح، شجرة توت، وحتى حين لم أعثر على شيء جديد لزراعته غادرت المشتل ومعي صنوبرة وسروتان.
طوال الطريق إلى العمل أفكر بما قالته الخادمة الكردية لأمي عن «أوزلام»: «حين تكبر… ستصبح عمياء مثل والدها وعمتها».
الطريق من المنزل إلى العمل، تحديداً الخطوات التي أقطعها من رصيف الحديقة إلى رصيف البنك، والانتظار قليلاً لتعبر السيارات وتقف، من ثم الخطوات التي أقطعها من الرصيف إلى منصّف الشارع الأول، ومن المنصّف أنتظر مجدداً مرور السيارات ثم أقطع نحو الرصيف الآخر وأسير إلى إن أصل إلى نهايته، وهنا أنتظر لأن هناك انعطافين يفضيان إلى الشارع قبالتي، وعليَّ انتظار السيارات، هذا الانتظار القليل جداً والخطوات القصيرة جداً هي أسوأ جزء من اليوم، من ثم أقطع نحو المنصف الثاني المزروع بالأزهار التي لا أحبها أبداً مع أنها بنفسجية وصفراء وطازجة، لكنها منسقة بعناية لدرجة تسبب لي ألماً، وأشعرُ بها تحفُّ بشرة بطني مثل شخص يتحرش بي، أقطع المنصف الأخير نحو الرصيف قبل الأخير، خطوات قليلة وأجتاز واجهات فساتين الزفاف الكريهة، ثم أقطع مجدداً وأدلف إلى المصعد، وألقي تحية الصباح على الحارس بالكلمة ذاتها كل يوم، حاولتُ أن أكفَّ عن فعل ذلك خاصةً بعد أن شعرتُ أنه يحاول الانشغال كلما رآني قادمة وفشلت، فأتعهد للرب بأنني سأعتذر منه يوماً ما، سأذهب إليه وأقول له: «أنا آسفة، آسفة لأنني استمريت بتعذيبك عاماً كاملاً بهذا الشكل». ومن ثم أضغط زرّ المصعد، وأتذكر دائماً ذلك الفيلم، حين يجد أشخاصٌ أنفسهم عالقين في متاهة على شكل مكعبات قاتلة، أتذكر تحديداً تلك اللحظة التي يصلون فيها إلى أعلى حيث يوجد حارسان على المصعد الذي يهبط بهم الى الأسفل، ولهما مهمة واحدة هي سؤال الضحية: هل تؤمن بالله؟ وحين يقول لا يضغط الزر فيهبط إلى الجحيم في الأسفل.
– «وماذا يحدث إن قال أحد نعم؟».
– «لا أدري. لم يسبق لأحد أن قال نعم». يجيب الحارس في الفيلم.
الأيام الجيدة هي التي أتأخر فيها وأضطر لأخذ التاكسي: أطلب من السائق تشغيل الراديو لأنني لم أعد أحبّ أي موسيقى سوى هذه، وحين تدور الأغنية التي لا أفهم كلماتها، أشعرُ أنني أطفو مثل قنديل بحر داخل أكواريوم وتصبح السيارات حيتاناً وأسماكاً هائلة، وأطلب من السائق بالإشارات أن يكتب لي اسم الأغنية التي تذاع على ورقة وهكذا أصبح لدي كنز من أوراق الأغنيات، وحين أصل إلى العمل أضعها على يوتيوب وأكمل العوم قبل أن أفتح باب الجحيم الذي يسمى الإيميل، يجعلني ذلك أحتمل الحوارات اللامعة التي تجريها مديرتي مع ضيفاتها من سيدات المجتمع المدني اللواتي: تخلّينَ عن الغرب الرائع وأتينَ لخدمة البسطاء أمثالي. ولا يساعدني على الاستماع إليها وتفريغها وتحريرها وتحويلها إلى شيء قابل للقراءة، سوى خيالي: أتخيل أنني تلك الفتاة التي طلب منها الساحرة الشريرة تحويل أكوام القش إلى ذهب، وأبدأ بالإصغاء والنسج وتؤلمني أصابعي، فأتذكر عملي في عدرا الصناعية حين كان علي تفريغ مئات الاستمارات التي تأتي من متاجر الآيس كريم، ما يعني طباعة الكلمات ذاتها آلاف المرات يومياً: قطع – عائلي – دوغما – قطع – عائلي – دوغما وهكذا إلى ما لا نهاية، حتى تتورم أصابعي وأبدأ بالتخيل أنني إحدى نساجات الموسلين البنغاليات اللواتي قطع البريطانيون أصابعهن الرقيقة حتى يقضوا على منافسة الموسلين الصناعي، فأرغب بالبكاء وخلع أزرار لوحة المفاتيح. حين تنتهي حفلة التعذيب، أرسل إليها النص كي تمنحه مباركتها، لكن ذلك صار يتسبب بكثيرٍ من الحوادث المؤلمة التي تأتي على شكل «تعديلات»، لذا صرتُ أرسلُ لها ثلاثة عناوين للحلقة وأطلبُ إليها الاختيار كي تشعر أنها في موقع مسؤولية، ولكن حتى مع هذا الإجراء لا يمكن تفادي الحوادث كلياً: مثلاً يمكن أن تختار اقتباساً لم يقله الضيف من الأساس. أردتُ أن أكون جندية مجهولة يوماً ما، أن أغرم بشيء وأموت لأجله سراً وبصمت، فكيف استجاب القدر لي؟ بأن جعلني محررة ترغب بوضع رأسها تحت عجلات قطار.
في صغري مثلاً أردتُ الذهاب للجبال والقتال مع حزب العمال، لكن تلك الرغبة قُتِلَت للأبد في أول لقاء بيننا: كنتُ بداخل سيارة سعيدة على طريق «الكاستلو» السعيد فأطلقوا عليَّ الرصاص. مرات لا يكون هناك طريقة لتغيير قناعات شخص سوى بأن تطلق عليها النار.
– غوديفة.
– ماذا؟
تشيرُ زميلتي بيدها إلى الزهرة الصفراء أمامي:
– غوديفة اسمها بالكردية – قذيفة… دورك الآن أعطيني كلمة جديدة.
– هذا يعني أنهم عرفوا القذائف قبل أن يعرفوا هذي الأزهار… حسناً زينة أخبريني هل تعرفين ماهي الأكاديا؟
لا ليس اسماً لاتينياً لزهرة، لا يدور كل شيء في حياتي حول الأزهار! أكاديا تعني الكثير من الأشياء، الاكتئاب، اللامبالاة، العجز عن العمل أو الصلاة، ألا يهتم المرء لمكانه أو وضعه في العالم، لكنها قبل زمنٍ بعيد كانت تعني شيئاً آخر: الناس الذين يهملون دفن موتاهم.
تحمل «أوزلام» حقيبتها على كتفها وتمشي لساعاتٍ جيئة وذهاباً على طول التراس، ولا تذهبُ إلى أي مكان، فأدفن وجهي في الستارة وأتمتم: «لا… لا أريد أن يحدث هذا لي».