تمكن تنظيم داعش من بسط سيطرته على معظم المنطقة الشرقية من سورية بعد تغلبه على خصومه من فصائل الجيش الحر والفصائل الإسلامية، وذلك بعد معارك كانت قد اندلعت مطلع 2014. واتخذ من مدينة الرقة عاصمة له بعد مواجهة دامية مع الفصائل التي كانت متواجدة فيها، وهي التي كانت قد طردت النظام السوري منها بداية عام 2013، ليختطف تنظيم داعش هذا النصر بعد عام، ويجازي بالنحر والصلب المقاتلين الذين قاموا بتحرير المدينة.

امتدت بعد ذلك رقعة المعارك لتتسع إلى محافظة الحسكة، التي لم تشهد مقاومة كبيرة من قبل الفصائل في البداية، بسبب خبث أسلوب تنظيم داعش في اختطاف المناطق المحررة فيها، وذلك من خلال مهاجمة إحدى المعسكرات التدريبية التابعة لجبهة النصرة آنذاك في مطلع تموز من عام 2014، وأسر جميع المنتسبين الجدد الذين تجاوز عددهم المائة وخمسة وعشرين مقاتلاً، والتهديد بإعدامهم إذا لم يرضخ مقاتلو الفصائل لمطالب أمراء داعش وينسحبوا من منطقة الشدادي، التي كانت تعدُّ نواة المناطق المحررة في محافظة الحسكة، بعد انتزاعها من قبضة النظام إثر معارك عنيفة خاضتها الفصائل المسلحة في المنطقة، وعلى رأسها جبهة النصرة، وذلك يوم الخميس الرابع عشر من شباط عام 2013.

تمكن تنظيم داعش من اختطاف ذلك النصر وانتزاع المنطقة بعد قرابة عام وأربعة أشهر، مستفيداً من عوامل أبرزها انضمام كثيرين إلى صفوفه بعد أن أغراهم بالمال ووعود السلطة، بالإضافة إلى ما جلبه التنظيم من العراق فور إعلان قيامه من قيادات ومقاتلين وعتاد، وذلك طمعاً بالأهمية الاستراتيجية التي كانت تتمتع بها الشدادي، فهي تحتل موقعاً بالغ الأهمية كنقطة وصل بين مناطق الجزيرة السورية والعراق، فضلاً عن كونها من أكبر مكامن النفط في شرقي سوريا.

هنا بدأت ملامح الصراع تتضح بشكل أكبر بين طلبة الحرية والحق في العيش، من أبناء المنطقة قبل الفصائل المقاتلة، وبين خاطفي المناطق المحررة ومهوسي الدم من عناصر داعش، فبدأت المعركة الحقيقة على أطراف بلدة مركدة في ريف الحسكة الغربي، التي كانت قد انسحبت إليها الفصائل من الشدادي وتمركزت فيها برفقة التعزيزات التي جاءت من فصائل دير الزور، آخر حصون المعارضة السورية في المنطقة الشرقية.

شاركت في تلك المواجهة جميع فصائل الجيش الحر والفصائل الإسلامية في المنطقة الشرقية ضد مقاتلي تنظيم داعش ومن التحق بهم، الذين كانوا متمركزين في أول معاقلهم في منطقة الشمساني المحاذية لمنطقة مركدة، واستمرت المعارك طيلة سبعة أشهر منذ منتصف شهر تموز 2014، بين محاولات اقتحام وسيطرة من كلا الطرفين، ونادراً ما كان هناك نتيجة تذكر لهذه الاقتحامات، بسبب تشبث كل طرف بمناطق سيطرته ودفاعه المستميت عنها.

عن دوافع القتال ضد داعش

كنتُ حينها مقاتلاً في صفوف إحدى الفصائل المعارضة لامتداد أصحاب الرايات السوداء، وقد عايشتُ فترات الصراع كاملةً ابتداءً من الرقة، وما دفعني لاختيار القتال ضدهم كان الحقَّ المشروعَ في الحياة حراً كما أردتُها وكما صدحنا بها كشعب منذ البداية، فلم نصرخ في وجه الأسد ولم نتلقَ الرصاص لكي يترأس علينا طاغية جديد يحكمنا بما يشاء ويهوى، فيحلل ما يهواه ويحرم ما يعارضه، باسم الإله.

بالنسبة لي، فقد كانت المشكلة الرئيسية مع تنظيم داعش هي احتكاره للدين والحق في تمثيل شرائع الله، فإن كنتَ ضمن صفوف التنظيم فأنت مسلم، وإن لم تكن أو لم تبارك انتهاكات التنظيم المستمرة، فإن دين إله التنظيم لن يقبل بك مسلماً، وستغدو مرتداً مستباح الدم والمال.

قاتلنا في مركدة قتالاً مستميتاً؛ حتى أن بعضنا كان يفضل الموت على التفكير بأن نفوذ داعش الأسود سيتمدد على رقابنا ورقاب أهل هذه المنطقة، فالمناطق التي خضعت لسيطرته ذاقت الويلات، إذ لم يكتفِ التنظيم من الرؤوس المعلقة على مفترقات الطرق والأجساد المصلوبة في مركزها. وكان مجرد التفكير في أنكَ قد كنت في منطقةٍ ما، ثم تمكن تنظيم داعش من السيطرة عليها، يترك جزءً من المسؤولية على عاتقك، وهذا الجزء سيكون كفيلاً بأن يكون جبلاً من تأنيب الضمير تحمله فوق ظهرك كلما سمعت عن إعدامٍ أو اعتقالٍ لأحدٍ من أهالي تلك المنطقة.

الاعتقال، ما لم يكن في الحسبان

في اللحظة التي لامَسَت فيها فوهة مسدسه ناصية رأسي، أيقنتُ أن الموت ليس أكثر من مشهد لن يتجاوز عشر ثوانٍ أكون خلالها قد أسلمت الروح إلى بارئها، تاركاً ورائي بعض البواكي الذين سيحزنون على فراقي، ثم ينسونني لأعود كومضات ذاكرة يذرفون فيها الدمع حزناً على روحي الهائمة في بحر الأموات؛ لكن لم يحدث شيء، أنزل مسدسه وأعاده إلى غمده، فالأوامر واضحة بالأسر لا بالقتل.

كان هذا أكثر مشهد أتذكره من يوم أسري أواسط شهر آب 2014 في بلدة مركدة على يد تنظيم داعش، كنتُ حينها مقاتلاً في نقطة كانت الأولى من جهة اقتحام التنظيم في تلك المعركة، برفقة أحد عشر مقاتلاً آخراً كانوا معي في النقطة ذاتها، أو هذا ما كنت أظنه، لأنهم كانوا قد انسحبوا عند اقتراب عناصر التنظيم من النقطة ولم ألحظ انسحابهم كوني كنت أمامهم، وبقيتُ مقاوماً حتى تم حصاري بشكل كامل، ثم وقعتُ أسيراً بيد عناصر التنظيم المتعطشين لإقامة شرع إلههم على جماجم مخالفيهم.

ولا زلتُ أعيشُ هذه اللحظة في كل مرة أتذكرها كأنني أعيد تمثيل المشهد، فالهلع نفسه من المصير المجهول يتسلل إلى قلبي في كل مرة أتذكر فيها كيف صرخ في وجهي صوتٌ من المغرب العربي، اكتشفتُ لاحقاً أن صاحبه تونسي الجنسية، يكرر على مسمعي: «قف يا مرتد، ارمي سلاحك يا زنديق»، لتهوي بعدها ضربة على مؤخرة رأسي من عنصر آخر جعلتني أفقد اتزاني وارتمي أرضاً.

شعرتُ بعد ذلك أنه لا فائدة من المقاومة، فما حصل قد حصل وانتهى الأمر؛ اقتادني بعدها عناصر التنظيم إلى سيارتهم المركونة جانباً ليتجهوا بها إلى مركز الحبوب في بلدة مركدة، والذي كانوا قد اتخذوه غرفة عمليات عسكرية لقيادة المعركة، وفور وصولي إلى المكان المنشود استلمتني دفعة جديدة منهم، لتنهالَ عليَّ الشتائم والركلات مرة أخرى، وكان آخر ما شعرت به ركلة من أحدهم على وجهي أفقدتني الوعي، وأكاد أجزم باعتقاده أنه حجز مكاناً في الجنة بركلته تلك.

استيقظتُ بعدها بساعتين أو ثلاث لأجد نفسي مكبلاً إلى الخلف على أرضية باردة في غرفة مظلمة لم يكن فيها أحد غيري، وتصل إلى أذني أصوات كلام وأجهزة اتصالات خارج الباب، الذي فُتِح بعد قرابة الخمس دقائق ليدخل منه رجل ضخم الجثة يدعى «أبو ابراهيم العراقي» ومعه مرافقته الأربعة. كان قائداً عسكرياً لدى تنظيم داعش، وكعادة العناصر همّوا أن ينقضوا علي ليستكملوا ما بدأه رفاقهم من همجية، لكن أميرهم منعهم بحجة أنني «أسير» ويجب ألّا أُضرَب، وكان ذلك أكثر أمرٍ مثير للسخرية حصل في يومي ذاك، لأني واثق بأنه كان يراني وأنا أُضرَب خارجاً، وترك كلابه المسعورة تنهش في جسد فريستها مستمتعاً بما يظنه نصراً مؤزراً.

جرى تحقيق بسيط لم يتجاوز الدقيقتين، سألني خلاله عن النقطة التي تم أسري فيها، والتي قد يعلم تفاصيلها أكثر مني، وعن رمز القفل لجهاز اتصالي اللاسلكي، الذي لم يكن يحتاجه أساساً بسبب اختراق جواسيسه لصفوف الفصائل المحاربة، والذين كانوا بدورهم يقدمون الترددات اللاسلكية لتنظيم داعش فور تجديد الفصائل لها في كل مرة، ولكنني جاوبته وكأنني لا أعلم أنه يعرف أجوبة الأسئلة التي طرحها.

ترحيب «أمير الولاية»

بعد ذلك تم تغطية عيني وتكبيلي وأخذي إلى أحد الأقبية في مدينة الشدادي بريف الحسكة، وعند وصولي إلى هناك وجدت سيلاً جديداً من الشتائم، ولكن دون ضرب هذه المرة، وهو الأمر الذي استغربته إلى أن علمت أن الضرب كان من نصيب الأمير العام لتنظيم داعش في «ولاية البركة»، والذي كان بانتظاري عند آخر سلالم القبو بفارغ الصبر؛ كان ترحيباً مميزاً، فالأمير العراقي «أبو أسامة» كان قد خسر ابن أخيه وعشرات الجنود في اقتحامه لبلدة مركدة.

كنتُ أمامه الفريسةَ السهلةَ التي يمكن أن يعوض بإراقة دمها ما أصابه من الهم والحزن لفقدان عناصره، فلم أشعر إلا بأرجل وأيدي العجوز الستيني تنهال عليَّ ضرباً مع ألفاظ يستحي حتى أسفل الخلق أن يتلفظ بها، ولكنني لم أشعر بشيء سوى بقطرات الدم التي كانت تسيل على وجهي بعد كل لكمة أو ركلة، لأنني كنت في حالة تخدير وارتباك ممّا سيأتي بعد هذا الضرب من إصدار هوليودي سأكون فيه مرتدياً الرداء البرتقالي، وأشعة الشمس تسطع على حد السكين الذي سينحرني.

من بعدها أُلقِيت خائر القوى على باب غرفة في صدر القبو، وفتح السجان الباب وكانت ركلة الوالي الخرف كفيلة بأن ترميني داخل الغرفة، وفور إغلاق الباب تراكض إليَّ سجناء الغرفة وحملوني إلى فراش بقيت فيه لمدة يومين أو ثلاثة من أثر الضرب المبرح.

متهالكاً على فراش في زنزانة لا يدخلها ضوءُ شمسٍ ولا نسمةُ هواء؛ هكذا قضيت أيامي الثلاث الأولى في سجن تنظيم داعش، واستطعتُ بعدها استجماع قواي للجلوس مع السجناء الآخرين، بعد التعذيب الشديد الذي كنت قد تعرضت له.

لم أتصور يوماً أن أكون في موقفٍ مماثل؛ أسيراً عند محتل أسود يريد سرقة كل شيء على هذه الأرض باسم الله، إذ لطالما علمت أن اسم الله اقترن بكل فعل محمود مرغوب، ولم يكن في يوم مقترناً بنحر الرؤوس أو صلب خلق الله على مفترقات الطرق.

مساء اليوم ذاته دخل الأمير الستيني «أبو أسامة العراقي» ضارباً الباب بقدمه ومعه عنصر ملثم لهجته تشير أنه تونسي الجنسية، ومن غير أي همسة أو كلمة بدء يدور على المساجين لكماً وركلاً الأقرب فالأقرب، وحين جاء دوري وقفَ أمامي قائلاً: «أنت الذي مسكتك في مركدة»، وشدَّني من كتفي ملقياً بي خارج الغرفة؛ توقعتُ حينها أنه انتهى أمري، وأن ملاك الموت يسرج جواده الآن ليشهد إعدامي ويقبض روحي فور فصل الرأس عن الجسد، وإن كان رحيماً فسيقبضها قبل أن أرى حدّ سكين موتي.

تم اقتيادي إلى غرفة في البناء ذاته بعد تغطية عينيّ، وبدأ التحقيق بعد أن رُبطتُ إلى كرسي حديدي. كانت أسئلة أول ربع ساعة من التحقيق مستحيلة الحل، لا أجوبة لها، مع أنني كنت أتحرق للرد على كل سؤال، لأني كنتُ أتعرضُ لضرب مكثف تلقيته بصدر مغتاظ، وسيل من الشتائم. وبعد ذلك بدأ بسؤالي عن اسمي وعن معلوماتي حول الفصائل المقاتلة، وقد كذبتُ في كثير من الأجوبة وأنا أعلم أن كذبي حلالٌ عند مقارنته بمن يكذب باسم الإله، وأكثر شيء كان يخيفني هو أهلي الذين كانوا حينها لا يزالون يسكنون في مدينة الرقة، وإذا ما اعترفتُ باسمي الكامل فليس من المستبعد أن أرى أخي الصغير مقتولاً أو أبي مصلوباً بحجة ابنهم المرتد عن دين الخلافة الباطل، ولهذا غيرتُ كنيتي عندما اعطيتهم الاسم، وأبقيتُ على اسمي الأول كي يبقى الأمل بمبادلة الأسرى قائماً بافتراض أن اسمي لا زال في سجلات الفصيل الذي كنت أنتمي إليه.

عنبر «المرتدين»

عند انتهاء التحقيق أعادني الاثنان إلى الغرفة ذاتها، وعرفتُ عندها أن كل من كان مسجوناً في عنبري هو مقاتل سابق في صفوف الفصائل المحاربة لداعش، وكنّا حينها ثلاثة وثلاثين أسيراً في غرفة مساحتها أربعة أمتار طولاً بستة أو سبعة أمتار عرضاً. والأمر الذي خفف معاناتي قليلاً أنني لم أكن الوحيد في هذا الجحيم، ولو أن وضعي كان أصعب من البقية كوني كنت قد أسرت أثناء معركة، عكس الآخرين الذين كان أغلبهم قد تم خطفه بشكل عشوائي عبر كمائن التنظيم المباغتة، فأصبح العنبر يطلق عليه اسم عنبر «المرتدين» وفق مصطلحات داعش.

عدتُ إلى فراشي لأتابع خلوتي مع آلامي، فاقترب مني أحد المساجين الذي بدى لي مألوفاً منذ أول نظرة، ولكن مباغتة السجانين لي كانت قد حالت دون تأكدي من شخصيته فوراً. اقتربَ ونطقَ باسمي، الأمرُ الذي أدخل سعادة كبيرة إلى قلبي، لأنه إذا ما وجدتَ أحداً يعرفك داخل جدران السجن، فمن المؤكد أنه هناك أشخاصاً لا زالوا خارجاً يسعون لإنقاذك من هذا الجحيم.

تأملتُ وجهه الذي ارتسمت عليه ابتسامةٌ تبعثُ على الطمأنينة، وبعد ثوان معدودة تأكدت أنه عدنان، ذاك الشاب الخلوق الذي كان صديقاً تعرفتُ عليه أثناء قتالي للتنظيم في الشدادي قبل أشهر من اعتقالي. «عدنان، لسا ما متت؟»، كانت هذه أولى كلماتي له، إذ كان تنظيم داعش قد أسره في المعسكر التدريبي الذي سيطر عليه أثناء احتلاله للشدادي، وعند مطالبتنا به ضمن الصفقة التي نصت على إطلاق تنظيم داعش لجميع الرهائن لديه مقابل انسحابنا من الشدادي دون قتال، زعمَ أبو أسامة العراقي أن عناصره قد قتلوا عدنان بسبب مقاومته لهم أثناء احتلال المعسكر التدريبي، ولم يستطع أحد تأكيد أو نفي هذا الادعاء.

ردَّ علي عدنان بصوت يملأه الثقة: «لا ما متت، ولا رح أموت هين»، الأمر الذي سررتُ لسماعه بشدة، وروى لي كاملَ حكايته وكيف تم اعتقاله قبل شهرين، وأن قيادات التنظيم ارتأت أنه من المصلحة أن يتحفظوا عليه لمكانته المهمة كقائد عسكري في جبهة النصرة طمعاً بأن يبادلوه على أسراهم لدى الفصائل المقاتلة، واستخدامه كورقة ضغط عند الحاجة. أكد لي أن كل ما نراه من ضرب وشتائم ليس إلا «فشة خلق» على حد تعبيره، وأن أمراء داعش حريصون على إبقائنا أحياء طمعاً بمبادلة الأسرى، واستغربَ بشكل كبير عندما سمع أنني أُسِرتُ من مركدة قبل أيام، لأن أمراء التنظيم كانوا قد أشاعوا أنهم سيطروا على مركدة منذ شهر ونصف وتمكنوا من قتل العديد من العناصر، وبينهم أغلب أمراء جبهة النصرة.

ثورة الجوع داخل الزنزانة

نمنا في مساء اليوم الثالث دون أن نتعرض لحفلة ضرب جديدة، وذلك لانشغال الأمراء بأمور الرعية كما قيل، والأرجح أنهم كانوا منشغلين بترويع المدنيين وإرهابهم في سبيل حكمهم بالخوف.

في اليوم التالي سمعنا ضجة كبيرة خارج عنبرنا، إذ تم سحب أكثر من تسعة أو عشر معتقلين من داخل سجون داعش، لنعلم مساء اليوم ذاته أنه تم إعدامهم بتهم مختلفة أغلبها كان التطاول على الخلافة. هذا الانشغال جعل السجانين ينسون إطعام المساجين، فأمضينا اليوم الرابع من غير أي طعام، الأمر الذي أحدث عصياناً كبيراً داخل السجن. في عنبرنا بدأنا بطرق الأبواب ومناداة السجانين بعد منتصف الليل، وذلك في محاولة للفت انتباههم لإحضار الطعام، فلم نكن نعتبر أننا سجناء، وإنما هي محنة علينا وعليهم، نحن مرغمون على احتمالهم وهم أيضاً مرغمون على احتمالنا إذا كانوا يريدون أسراهم الذين كانوا في سجون الفصائل.

بعد أن تعالت الأصوات والطرقات على الجدران والأبواب، فتح السجان المدعو «أبو عائشة» الباب ومعه ما يقارب سبعة عناصر آخرين وبدأوا بالصراخ على الجميع، ثم أخذوا أقرب المساجين إليهم وجعلوا يضربونه ضرباً مبرحاً بأعقاب أسلحتهم حتى أغمي عليه من شدة الضرب، الأمر الذي أجبرهم على إسعافه إلى مشفى المدينة مضرجاً بدمائه، ليعود بعد أربعة أيام وفيه أربعة كسور، اثنان منها في يده اليسرى وواحدٌ في قدمه، بالإضافة إلى ضلع مكسور من قفصه الصدري.

البيعة، ركن الدين عند داعش

بدا بالنسبة لي أن جميع أركان الإسلام التي نعرفها غير مهمة بالنسبة لداعش، وأن الركن الوحيد الذي يقوم عليه الدين عندهم هو البيعة للخليفة، حتى أننا لم نرَ من يُطلَق عليهم «شرعيو الدولة الإسلامية» طيلة فترة سجننا إلا مرة واحدة؛ حين دخل علينا الشرعي الليبي الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، واعتقدنا أن لديه من الحجج الدامغة ما سيقيم علينا به تهمة الردة، ولكن فوجئنا أن الشرعي أتى ليخطب خطبة عصماء عن وجوب البيعة لخليفته أبي بكر، ولا أعلم من أي آية أو حديث جاء بأن البيعة أهم من الصلاة، حتى أنها من أساس إسلام المرء.

كانت خطبته العصماء خالية من الشواهد الحية، ومن تمسَّحَ شرعي داعش بهم جميعهم أموات لا يستطيعون رد افترائه عليهم، فتارة يستشهد بأقوال الصحابة التي لم يسمع بها أحد، وتارة أخرى يؤيد فكرته بأقوال أمراء تنظيم القاعدة الذين كان تنظيم داعش قد كفَّر الأحياء منهم أمثال الظواهري وغيره، وأبقى على حُسنِ صورةِ من مات منهم ولا يستطيع درء شبهات تنظيم داعش عن نفسه كأسامة بن لادن والزرقاوي، حتى أنهى خطبته المجلجلة بفتوى ما أنزل الله بها من سلطان، مهدداً إيانا بأن دمائنا وبيوتنا غنيمة حلال لجنود داعش، وأنه خير لأبنائنا وأقاربنا أن يلتحقوا بصفوف الدولة قبل القدرة عليهم وقتلهم، باعتبار أن «المرتد لن ينجب إلا مرتداً ولو كان رضيعاً».

حرامي يا شيخ

واستمرت الأيام بعد ذلك متشابهة بين ضرب وشتم يتكرر يومياً، وتزداد وطأته كلما ازداد عدد قتلاهم في المعارك، وبالنسبة لي كنتُ من المغضوب عليهم بشدة، بحكم أسري بالجرم الأعظم متلبساً. وفي أحد الأيام دخل أبو أسامة ومعه ضيوفه الذين كان قد دعاهم للمشاركة في وليمة دمائنا، وكالعادة بدأ بالضرب والشتائم حتى وصل إلى آخر الصف، فصرخ أحد السجناء خائفاً ورافعاً يديه استسلاماً: «والله أنا حرامي يا شيخ، والله حرامي» فأوقفَ الضربَ وبدأ الصراخ بوجه حراس السجن: «أخرجوه من هنا، الحرامي أشرف من هالكلاب»، وكان ذلك قانوناً في السجن، يمنع أن يوضع سجين مدني بتهم قتل أو سرقة أو اغتصاب في عنبر «المرتدين».

لقد كانوا في حقيقة الأمر يخشون تسريب أية معلومات عن أننا أحياء، أو عن عدد الأسرى الحقيقي، ولكن الاكتظاظ الشديد في السجن كان قد أجبر السجان على زج المساجين الجدد في غرفتنا، كونها كانت واسعة مقارنة مع غيرها من العنابر.

الإفراج

وبعد نحو ثمانيةٍ وثلاثين يوماً فُتِحَ باب السجن فجأة، ودخل الكهل أبو أسامة ومعه أكثر من عشرة عناصر، وبدأ يذيع أسماء الموجودين في غرفتنا من ورقة يحملها بيده، ويأمرهم بالخروج من الغرفة والاصطفاف خارجاً، حتى خلت الغرفة من جميع المعتقلين، إلا أنا وعدنان بقينا داخل الزنزانة ليوصد علينا الباب من جديد.

هنا بدى لي الأمر محتوماً، فقد استُدعيَ الجميع للتبديل إلا نحن الاثنان، ومصيرنا الموت حتماً، فمن المُستبعد أن يفوّت تنظيم داعش فرصة إعدام اثنين من أسرى الفصائل المقاتلة كان قد اعتقلهم بالجرم المشهود؛ جلسنا أنا ورفيقُ موتي صامتين لا يسعنا الكلام عن بشاعة الموقف الذي نحن فيه، وبعد نصف ساعة تقريباً فُتِحَ باب السجن مرة أخرى، ونادى السجان باسمي ليقتادني خارجاً وأُكبَلَ من جديد، يداي إلى الخلف جاهلاً مصيري بشكل تام، الذي كانت تُرجّح المعطيات المتوافرة أنه سيكون الإعدام. استلمني عنصران جديدان من السجان وركبنا في إحدى سيارات تنظيم داعش لننطلق باتجاه الغرب، وكانت تلك أصعب اللحظات التي مررتُ بها، كنتُ أتهيأ للموت، ولكن كيف السبيل إلى تحضير نفسك لشيء لم تواجهه قبلاً.

توقفت السيارة بعد عشر دقائق أمام حافلة كبيرة وطُلِبَ مني الصعود إليها، كان ذلك في منطقة الشمساني في ريف الحسكة الغربي، وعندما وجدتُ المعتقلين الذين أخذوهم بدايةً، علمتُ أنه تم طلب اسمي ضمن صفقة التبادل، وهذا ما أزالَ هم التفكير بالمصير المجهول عن كاهلي.

بعد ربع ساعة من جلوسي داخل الحافلة، صعدَ إليها رجل برفقته أحد عناصر تنظيم داعش، وكان هو الوسيط في التبادل. سألني إن كان قد بقي أحدٌ في المعتقل غيري، فأجبته بأنه بقي شابٌ يدعى عدنان وحيداً في الغرفة التي كنتُ معتقلاً فيها، وأنني لا أعلم عن بقية غرف السجن، عندها بدأ الرجل بالصراخ بوجه العنصر قائلاً: «يا أبو المثنى، الفصائل طلبت أسراها بشكل كامل، ولن يتم أي تبادل إذا كان هناك أسيرٌ واحدٌ ناقص، وأنتَ حاولتَ التستر على أسيرين اثنين، أحضرت لي واحداً وتركتَ الآخر!»، فأجابه أبو المثنى بأنه سيحضر الأسير الآخر الآن، وذهب بسيارته باتجاه الشدادي ليعود ومعه عدنان بعد نصف ساعة.

تم إطلاق سراحنا ضمن اتفاقية تبادل الأسرى في أواخر شهر أيلول لعام 2014، لتُكتَبَ لنا ولادة جديدة من رحم الموت نفسه.