في أواسط شهر آب/أغسطس من عام 2015 ظهرت دعوة بين اللاجئين السوريين في سويسرا للانتظام في مظاهرة أمام البرلمان الاتحادي السويسري في العاصمة بيرن، وذلك للاحتجاج على درجة اللجوء الدنيا التي تمنحها السلطات السويسرية لطالبي اللجوء. والمقصود هو درجة اللجوء «F إنساني»، التي تعني الحماية المؤقتة إلى حين قرار السلطات المستضيفة بأن الأوضاع في البلد، البلدان، التي جاء منها اللاجئون أصبحت طبيعية، وبالتالي يتوجب إعادتهم إلى هذه البلد، أو تلك البلدان.

معظم اللاجئين السوريين في سويسرا، 80 % على الأقل، يُمنحون هذه الدرجة. ومشكلة درجة اللجوء تلك، التي تعني حسب القانون السويسري حرفياً: رفض طلب اللجوء لعدم وجود مبررات توجب منح حق اللجوء، والإبقاء على طالب اللجوء تحت الحماية المؤقتة، مشكلتها أنها، وحسب الشروط السويسرية، لا تعني فقط تضييقاً للأفق المفتوح أمام اللاجئ الموجود تحت الحماية، بل وأيضاً تمييزاً كاملاً في المعاملة عن اللاجئ الآخر الممنوح حق اللجوء. هذا التمييز يطال كل شيء، من المساعدات المالية والسكن حتى برامج الاندماج.

الحديث حول تلك «المَظلَمَة» كان تقريباً الحديث اليومي لكل اللاجئين السوريين في سويسرا، وعلى مدار عام كامل كان قد مضى على تواجدي وأسرتي في ذلك البلد بصفتي لاجئاً تحت الحماية المؤقتة، وحتى موعد الإعلان عن انطلاق تلك المظاهرة. والحق أنه الحديث الأول الذي طالعني منذ أن وطئت قدمي أرض كامب التجمع الأول في مدينة بازل السويسرية، إذ ما أن تجلس مع أي لاجئ سوري هناك حتى يبدأ، متطوعاً، بتقديم شرح تفصيلي عن نظام اللجوء السويسري، الغاية في التعقيد بالمناسبة، محذراً بين كل جملتين من أن ينالك غضب القاضي، أو من عدم اقتناعه بأسباب طلبك حق اللجوء، فيمنحك تلك الدرجة العقوبة.

وكان من الطبيعي للسوريين، وغيرهم من اللاجئين من جنسيات أخرى، أن يحتجوا على هذا الأمر كونه ما عاد منصفاً فعلاً، ليس مقارنةً فقط بغيرهم من اللاجئين، المحظوظين، الذين اعترفت بهم السلطات بصفتهم لاجئين، بل وأيضاً بسبب مصاريف العيش في بلد يعد الأغلى في العالم كله تقريباً.

الملفت خلال محاولة توحيد مطالب اللاجئين، السوريين على وجه التخصيص، ومساعيهم لتحسين شروط لجوئهم، أن القائمين على تنظيم تلك المظاهرة، وهم سوريون، اختاروا فترة قريبة جداً من موعد المجزرة التي ارتكبها نظام الأسد بحق المدنيين في الغوطة قبل عامين فقط، لانطلاق تلك المظاهرة المطالِبة بأمرٍ محقٍ لا يمكن إنكاره، والتي كان الجميع ينتظرها لممارسة، ربما، العمل الجماعي الأول لصالح تلك الكتلة الكبيرة، والمنسية، من اللاجئين غير المعترف لهم حتى بتلك الصفة!

ودون الغوص في حديث «النوايا» الذي لا طائل منه، ولا دليل عليه في كل الأحوال، إلا أنه لا يمكن للمرء إلا أن يتوقف أمام فكرة أن أحداً من المسؤولين عن تلك المظاهرة، لم يذكر، أو يتذكر، ولو عَرَضَاً، أن التاريخ المختار قريبٌ جداً وفي الفترة نفسها التي حصلت فيها مجزرة الكيماوي، قبل أسبوعٍ واحدٍ فقط، مما يستدعي تنظيم فعالية لإحياء تلك الذكرى، التي يبدو أن الجميع قد نسيها في غمرة الاندفاع للدخول إلى حياة جديدة ما كانوا أصلاً يحلمون بالوصول إلى أعتابها لولا تضحيات أولئك الذين قضوا في مجزرة الكيماوي في الغوطة، وما سبقها وما لحقها من مجازر ارتكبها نظام الأسد بحق المدنيين السوريين، وبمختلف أنواع الأسلحة!

هذا الأمر الذي يبدو أن غالبية معقولة من اللاجئين السوريين، أقول معقولة حتى لا أُتهَمَ بالمبالغة، قد تناسته ولم تعد معنية به للأسف الشديد. وتلك حقيقة لا بدّ من الوقوف عندها في محاولة استشراف أفقٍ ما لتلك الكتلة، الكبيرة نسبياً، من اللاجئين الذين يُفترض أنهم سوريون، وأن هناك «قضيةً» ما توحدهم وبحاجة إلى جهودهم على اختلاف مشاربهم وبيئاتهم الاجتماعية وطوائفهم وحتى أعراقهم!

بالحديث عن «القضية» الموحِّدة، أعتقدُ أن الأولوية الكبرى الآن بالنسبة لكتلة اللاجئين تلك هي الأفق الجديد في بلاد اللجوء، الأفق المبهر في كثيرٍ من تفاصيله للحقيقة، الذي فُتِحَ أمامهم وأمام أولادهم، وكيفية الاندماج فيه وتحقيق أكبر تقدم ممكن بالاستناد إلى المتاح، وإلى ما يمكن جعله متاحاً ولو عبر المطالبة، المحقة في كثيرٍ من جوانبها. ما عدى ذلك من «القضايا»، من الممكن بسبب كثيرٍ من الظروف المعيقة أن يصبح حملاً زائداً يبعث على التذمر، وحتى الخلاف، بين قطاع واسع من أولئك اللاجئين «السوريين»!

لا يمكن أن نحيل السبب في وجود أي خلاف أو تذمر حول ما يحدث في سوريا، إلى عدم وجود موقف واضح وواحد عند الجميع تجاه ما حدث ويحدث هناك، سواءً تجاه الثورة أو تجاه جرائم النظام بالذات. الحقيقة أن الجميع، وبدون أي استثناء، يعرفون تماماً حقيقة ما حدث. وحقيقةُ ما حدث قد صرحوا بها فعلاً، ولو بشكل «سري»، أمام قضاة التحقيق بشأن طلبات لجوئهم. «السرية» حول كامل ما يدور في جلسة التحقيق حق أساسي لطالب اللجوء، كما تنص عليه لوائح اللجوء في سويسرا وسواها في دول أوروبا، وهو ما يتلى على جميع طالبي اللجوء عادة، وبشكل مفصل مع وجود مترجم مختص ومحام يحضر متطوعاً ليمثّلَ طالب اللجوء، قبل البدء بالتحقيق. بل إن «حقيقة ما حدث في سوريا» كان هو نقطة الارتكاز الرئيسية التي استندوا إليها جميعهم في تبرير طلب لجوئهم، دون الحديث طبعاً عن تفاصيل «أدوار» لعبت من قبل طالبي اللجوء في تلك الثورة. أدوارٌ بعضها حقيقيٌ وضعت أصحابها في خطر حقيقي، وبعضها الكثير، للأسف الشديد جداً، مبالغ به ومفبرك بل وحتى مزود بـ«وثائق» تم الحصول عليها عبر شبكة محسوبيات وأصدقاء ورشاوى وصلت رائحتها إلى أنوف سلطات اللجوء في دول أوروبا، الأمر الذي تحدث فيه كُثُرٌ ويعرفه الجميع دون استثناء.

إذن يمكن القول إن الجميع استفاد بشكل أو بآخر مما «حدث» في سوريا، واستمر بالحدوث لاحقاً وإن على أيدي «جلادين» متعددين. بمعنى أن الارتكاز إلى «معاناة السوريين أمام نظام استبدادي مجرم» ما عادت هي الرائجة، أقله بدءً من عام 2015، بعد أن احتلت فظائع داعش واجهة «الصورة» فيما يتعلق بسوريا، فالتفتَ الجميع إلى إعادة صياغة «حكاياتهم» أمام سلطات اللجوء بما يناسب صعود أسهم «النجم» الجديد.

الجميع استفادوا، ولكن ما هي نسبة أولئك الذي أقروا بفضل تضحيات أبناء بلدهم على ما وصلوا إليه هم من برّ أمان، مدفوع بموقف «إنساني» دولي يريد أن يخفف ولو قليلاً من آثار تلك الكارثة التي حلّت بالسوريين جميعاً؟! وماهي آفاق عملهم لردِّ ولو شيء من هذا الفضل لمن بقي حياً من أبناء وأهالي أولئك الضحايا الذين أشعلوا ثورةً يجب ألّا تُنسى، خصوصاً من قبل من يفترض أنهم «شاركوا» بشكل أو بآخر في هذه الثورة؟!

ما يؤلم فعلاً هو أن من يريد تناول «سؤال الثورة» فيما يتعلق بأولئك السوريين المحظوظين الذين وصلوا إلى برّ أمانٍ ما، لا يمكن أن يطرحه دون المرور عبر ذلك المدخل «الأخلاقي» المذكِّر بتضحيات من لم يسعفه الحظ فقضى، مما ساهم في إتاحة فرصة حياة كريمة لآخرين من أبناء بلده! وكأن واحدنا عندما يريد التذكير بهذا الأمر، الذي يفترض أنه بديهي، عليه أن «ينخز» الآخرين، وهو للحقيقة دليل إفلاس عند الطرفين. إفلاس حيلة عند الناخز، وإفلاس ذاكرة، حتى لا أقول إحساس، عند المقصودين بعملية النخز! والمصيبة الأكبر أننا نعتب على «المجتمع الدولي» كيف لم يتجاوب مع مأساة السوريين كما يجب، وهناك «سوريون» لم يظهروا من هذا التجاوب إلا أقل مما يجب!

والحق أن النجاح في تنظيم فعالية مدافعة عن مصالح مباشرة للاجئين، مقابل الفشل في إقامة تجمع يعكس بشكل عادل حجم الوجود السوري في دول اللجوء الأوروبية لدعم قضية السوريين (آخر مثال التجمع الذي حصل أمام البرلمان الاتحادي في بيرن في ديسمبر الماضي 2016 كوقفة تضامنية مع أهالي حلب المحاصرة، لم يتجاوز الحضور فيه بضعة مئات شكل السويسريون نسبة 90% منهم، على الأقل، بالرغم من أن عدد اللاجئين السوريين في سويسرا يحسب بالآلاف! وأستطيع المجازفة بالقول بأن أحداً ممن شارك في مظاهرة المطالبة بحقوق اللاجئين المذكورة أعلاه لم يظهر في هذه الوقفة!)، هذا وغيره من الأمثلة يدفعنا للتفكير بأنه لا مجال لأي أفق ممكن لإبقاء سؤال الثورة مطروحاً أمام اللاجئين السوريين في أوروبا دون المرور عبر ممر إجباري وعملي، وإن لم يكن «متسامياً وأخلاقياً» صرفاً كما يتمنى كُثُر، للتمكن من مخاطبتهم بطريقة يمكن أن تكون الأقرب إليهم.

دون تشكيل تجمعات أو هيئات أو أية صيغة كائناً ما كان اسمها، لحماية حقوق أولئك اللاجئين والدفاع عن مصالحهم في حالة تطلب الأمر ذلك، بصفتهم لاجئين أولاً، لا يمكن الوصول مع هذه الكتلة البشرية الكبيرة إلى أي نتيجة في أي شيء. التشتت هو السمة الغالبة على عموم نشاطنا هنا في الحقيقة، إلا فيما يتعلق بمصالحنا المباشرة. ويمكن لمن يريد أن يحرز تقدماً ما أو أن يطرح قضية فيجد من يصغي إليها، أن يحقق نتائج معقولة عبر هذا الممر، أي أنه يجب أن يكون معروفاً وموثوقاً بالنسبة لمن يصغون إليه. المعرفة والموثوقية لا يمكن أن يأتيا من فراغ. لابد من تجربة، ناجحة ومستمرة في أحد وجوهها على الأقل، لتكريس هاتين الحالتين.

الحرص على طرح سؤال الثورة أمام جاليات اللجوء السورية، أو إبقائه قائماً أمام تلك الجاليات، أمر يشترك به العديد من اللاجئين السوريين. بل يمكن القول إن هناك من الأفراد من تجاوز هذا الحرص باتجاه أكثر فعالية، وقد باشر وقدم مبادرات ولم يكتف بالكلام. لكن مشكلة تلك المبادرات أنها لم تتجاوز المشتغلين بها ومحيطهم المباشر، ولم يسعَ أحد إلى تشكيل رابط، ولو لتبادل الخبرات فقط، بحيث يمكن الاستفادة من نجاحات موضعية هنا وهناك وكسب الوقت والمزيد من النجاح. الثقة ما تزال أمراً بعيد المنال حتى الآن أمام كُثُر، حتى بين أولئك المنخرطين فعلاً بطرح هذا السؤال، وما يتعلق به من مبادرات، أمام الجميع. وبانتظار بادرة «جماعية» ما، مهما كان حجمها، لخدمة جاليات اللجوء السوري بالدرجة الأولى، وكممر إجباري لكسب تعاطف أبناء تلك الجاليات بحيث يمكن التقدم خطوات أبعد قليلاً في مجال أسمى وهو «القضية السورية»، يكفي التذكير بتجربة ناجحة فيما نحاول الوصول إليه، وهي تجربة الأحزاب الكردية في أوروبا.

مع التحفظ الشديد على بعض هذه الأحزاب، حزب العمال الكردستاني تحديداً، العنصري جداً فيما يتعلق بالقضية السورية وبالسوريين عموماً، أكراداً معارضين له أو عرباً، إلا أنه لا يمكن إنكار أن الحصيلة النهائية لأنشطة هذه الأحزاب مجتمعة، بما فيها حزب العمل الكردستاني، بين الجاليات الكردية في أوروبا، هذه الحصيلة كانت إيجابيةً جداً في إبقاء تلك القضية حية في أذهان أبناء الجاليات الكردية في أوروبا وفي مجمل أوجه نشاطاتهم. وقد تكون دوافع الأحزاب المذكورة أعلاه متعلقة بقدرتها على البقاء والمقاومة، وبالتالي الحاجة المستمرة إلى «خطوط خلفية» بمعنى أو آخر، عند الجاليات الكردية في بلاد اللجوء. خطوط للعمل السياسي والإعلامي والتعبوي، وكذلك للدعم المادي الذي لا غنى عنه للاستمرار في العمل والنشاط في مواجهة تحديات تكاد تكون مستحيلة وعلى مدار عقود طويلة (من حسن الحظ الهائل عند الأكراد عموماً أن السعودية وقطر والإمارات لا توجد ضمن قائمة حلفاء قضيتهم، وبالتالي صار عليهم الاعتماد على أنفسهم بالكامل وما عادوا معروضين للبيع عند كل منعطف في الطريق). كل هذا قد يكون صحيحاً، وكاتب هذه السطور لا يمتلك من المراجع ما يؤكد أو يدحض وجهة نظره أعلاه حول الدوافع الفعلية الضاغطة على هذه الأحزاب في إبقاء «القضية الكردية» حية بين الجاليات الكردية في المنافي، سواء كانت دوافع عملية بحتة أو دوافع «أخلاقية متسامية»، ولكن في النهاية لا يمكن إنكار حقيقة أن تلك الأحزاب مجتمعة كانت عامل توحيد وإحياء فيما يتعلق بهذه القضية دون أي لبس.

ولا يمكن طرح هذه الفكرة دون المرور على الدور السلبي الذي لُعِبَ من قبل تلك الأحزاب، وعلى رأسها حزب العمال الكردستاني، تجاه القضية السورية بين جاليات اللاجئين السوريين الأكراد من خلال دفعهم للانخراط في العمل السياسي المباشر الداعم للقضية الكردية، وهذا حق لهم، مع الدفع باتجاه عدم المشاركة وتناسي كل ما يتعلق بالهم السوري والقضية السورية، وهو ما يظهر جلياً في إحجام النسبة العظمى من الأكراد السوريين، الناشطين منهم سياسياً في دعم القضية الكردية، عن المشاركة في أية فاعلية داعمة لحقوق السوريين عموماً على مختلف طوائفهم وأعراقهم! ولو أخذنا بعين الاعتبار أن نسبة الأكراد السوريين بين الجاليات السورية اللاجئة في أوروبا يصل في بعض الأحيان ما بين 50% – 60% من نسبة أولئك اللاجئين، لأسباب تتعلق بأسبقيتهم «التاريخية» في «عالم اللجوء»، ودور أحزابهم وصلات تلك الأحزاب في تسهيل ودعم طلبات لجوئهم، فإننا ندرك بالضبط حجم «الورطة» التي سنجد أنفسنا في مواجهتها في حال أردنا الحديث عن جاليات سورية في بلاد اللجوء هكذا بالمطلق دون الوقوع في مطب التصنيف العرقي، وربما الطائفي لاحقاً! أي أن «مشكلاتنا» في سوريا هي نفسها «مشكلاتنا» في المنافي.

لا يعتقد كاتب هذه السطور أن العمل باتجاه إبقاء القضية السورية حية في أذهان أبنائها من السوريين، وسوريو المنافي الأوروبية أولى من غيرهم وأكثر قدرة على الحركة والفعالية، هو عملٌ سهلٌ يكفي أن يبدأ أحدهم بالدعوة له حتى يتدافع الجميع للعمل والعطاء. الصورة أكثر تعقيداً بكثير، حتى مما ذكر أعلاه. وما ذكر أعلاه لا يتعدى حد التوصيف الأولي والمرور السريع على بعض «وجوه» أزمتنا تجاه قضيتنا بالذات. البقاء في الوضع الذي نحن فيه الآن يعني أمراً واحداً فقط يلخصه قول أحدهم، سوري، على باب الكامب في وداعي وأنا في طريقي إلى مغادرته باتجاه الشقة السكنية: «الله يطول بعمره… لولاه ما كنا نحلم نشوف أوروبا»!

طبعاً كان المقصود بالدعاء هو جلاد سوريا المعتوه، هذا ما يعرفه الجميع بالطبع، ولكن ما لا يعرفه أحد، حتى قائل الجملة أعلاه ربما، هو ما إذا كان المقصود من هذه الجملة مجرد المزاح السمج والأبله، أم أن الأمر أكثر جدية وخطورة من هذا، وبكثير!