قرابة مئتي قذيفة وغارة في اليوم الواحد كانت تستهدف مركز مدينة الرقة وقلبها خلال الأسابيع الأخيرة، هذا القصف الجنوني وغير المبرر بأي شكل من الأشكال كان سبباً كافياً لرضوخي للواقع المرير، وتغيير قناعتي الشخصية حول قرار الصمود، الذي لا جدوى منه إلا الموت في حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل.

كانت المرة الأولى التي أخرج فيها من مدينة الرقة طريداً شريداً مخلوع الدار، ذلك طيلة ستة وخمسين عاماً قضيت منها خمسين في المدينة، وستة بين دراستي الجامعية وخدمتي الإلزامية في الجيش الذي سميّ قسراً «الجيش السوري».

هذا ما بدأ به أبو خالد حديثه، مشترطاً عليَّ أن أخفي اسمه الحقيقي، خجلاً وليس خوفاً، فلم يبقَ شيءٌ يمكن أن يخيف الإنسان «الرقاوي». خجلاً من أن يدون اسمه على لوائح الإغاثة أو تذاكر المعونة، ولذلك أصرَّ أن يُنادى بهذا الاسم، أبو خالد، أما اسمه العتيق فقد ذهب مع المدينة، وإن عادت عاد.

مرَّ زمنٌ طويلٌ منذ آخر مرة سمعت فيها صوت هذا الرجل الطيب، صاحب الهمة العالية، رفيق الهتافات الأولى، الذي بقي ثابتاً على مواقفه ولم يبدل أو يغير رغم ما حدث ويحدث. قد تكون ثلاثة سنوات أو أربعة منذ ذلك الوقت، والآن لم تمرّ إلا أيام قليلة على خروجه من الرقة حتى سمعته مجدداً في محادثة هاتفية تجاوزت نصف الساعة، لخّصَ فيها ما يصعب تلخيصه.

يروي العم أبو خالد أحداث أسبوع مضى كان الأقسى عليه وعلى من معه، منذ بدأ يتردد على ألسنتهم الكلام عن مشروع النزوح إلى الشمال، بعد تعنت أعمى لأشهر: أريد الموت هنا في المنزل، ليس هناك سبب إلا أن هذه الأرض المذبوحة لا يمكن أن تُترك، وإن رحلتم نحن حراسها وشهودها وضحاياها.

***

نداءات أطفالي وبكاء والدتهم في التسجيل الأخير قبل نحو 15 يوماً كانت أنيسي، وكانت ما يدفع عني أصوات المدافع وغارات الطيران. كانت هي الدافع الوحيد نحو الصمود، في الوقت نفسه الذي كانت تجبرني فيه على التفكير بالخروج، إلا أن كلمة الرجال لا تُثنَّى. لكنها ثُنيّت وتكررت نتيجة الرعب والخوف الذي خلع الجبال المحيطة بالمدينة، لكن كيف ومتى بعد أن أُغلِقَت الأبواب، وأحكمت «وحدات حماية الشعب» حصارها على المدينة بالتزامن مع زرع تنظيم داعش آلاف الألغام في محيط المدينة، في المناطق التي من المتوقع أن يخرج منها المدنيون. إلا أن قصاصة ورقية أرسلها الله كي تحمل أرواح خمسة رجال، كان من المفترض أن تُحمَلَ جثثهم، أو لا تُحمَلَ فتُدفَنَ في ركام المنازل المهدمة والأبنية المدمرة.

قصاصات ورقية ألقاها طيران التحالف الدولي على المدينة، تحمل خريطة مبسطة لمن يود الفرار بنفسه إلى خارج المدينة، وكانت من نصيب باب منزلنا الذي لم أكن قد رأيته منذ أيام، لأننا كنا نقضي وقتنا في القبو. الكتابة ركيكة جداً لشخص لم يتعلم العربية إلا حديثاً، أو لجاهل بها أساساً واستعان بالترجمة الإلكترونية. هذه التفاصيل البسيطة، رغم تفاهة الحديث عنها، إلا أنها تنذر بالشؤم حول من سيخلف الخليفة، وكيف يمكن أن يتم تغيير بنية المنطقة ديموغرافياً. بمعنىً آخر، هي ورقة انتداب وعلى الجميع أن يوافق عليها بالخروج، وسيعني الرفض البقاء والموت، كما أخبرنا مبعوث الولايات المتحدة إلى التحالف الدولي بريت ماكغورك، عندما تحدث عن ألفي داعشي سيموتون في الرقة، مع أن عناصر داعش في المدينة لا يتجاوزون الـ 500 عنصر، حسب تقديرات الأهالي، والباقون غيرهم مدنيون عُزّل من صلب هذه المدينة وفراتها.

تشير القصاصة «الخريطة» إلى منفذ بري لمن يود الخروج من الرقة عبر نهر الفرات، في المنطقة الواقعة بين الجسرين جنوب المدينة، تلك المنطقة التي تفرشها الجثث بعد مقتل العشرات بانفجار الألغام التي زرعها داعش. ولكن لم تكن تلك المرحلة صعبة بقدر ما كان الوصول إليها أصعب، فالخروج من المنزل أو حتى الوقوف على العتبة قد يودي بحياة الإنسان، إن لم يكن باستهداف عشوائي أو مباشر فقد يكون بشظية عابرة، فما بالك بالمسير من الثكنة حتى نهر الفرات مسافة تقدر بـ 3 كم على الأقدام، على أرض تعج بالألغام، تطل عليها دورٌ يعتليها القناصون، ناهيك عن المراقبة الدورية من قبل التحالف الدولي.

لا شيء يحيط بنا غير الموت، ولكن رغم هذه المخاطرة كلها، وفرصةُ النجاة فيها لا تتجاوز الـ %1، إلا أنها خيرٌ من الموت الحتمي هنا، حتى وإن كان في الرقة، لكن ليس في منزلي الذي ترعرعتُ فيه وكبرت، وكبرت أيامي معه، بعد أن هُجِّرتُ منه بالقوة ليكون مربطاً لمسلحي داعش في قتالهم، ثم لينتهي به المطاف بغارة جوية.

الساعة 11 ليلاً، دون أي موعد واتفاق كان الجميع قد حزموا أمتعتهم التي لا تتجاوز «الكلابية والصندل». خلسةً بمحاذاة جدران الحي المهدمة، انطلق تسعة رجال في أخطر رحلة عرفتُها وعايشتُها، ذكرتني بمشاهد من الأفلام الأجنبية أو الوثائقية التي تحاكي الحرب العالمية الثانية. المشاهد كانت مرعبة جداً، كل شيء مُدمر، لم أعرف الشوارع والأزقة، إذ تم محو جميع معالم المدينة الحديثة والقديمة، حتى وصل بنا الحال للتوقف عدة مرات لنبحث عن الطرق المؤدية إلى شارع «النور»، وسط الظلام الدامس وأزيز الرصاص وصوت المدافع والطائرات الحوامة والنفاثة، وكل شيء قاتل اخترعه الجنس البشري.

لم نبتعد كثيراً حتى دوى انفجار قوي هزّ أركان المدينة، كان نتيجة غارة جوية استهدفت المكان الذي كنا نقيم فيه، بعد تحديد موقعه من قبل طائرات الاستطلاع الأمريكية إثرَ إطلاق عناصر داعش قذيفة هاون من جانبها وفرارهم فوراً. كان هذه طبعاً من أخطر أنوع الاستهدافات، وذهب ضحيته أناس كثر، حتى بتنا شبه متأكدين من أنه عمل مقصود من قبل داعش، الذي يريد زيادة فاتورة الدم من المدنيين مقابل الحصول على بروباغندا إعلامية مناصرة له على حساب أرواح الناس. قتلت الغارة الجوية قرابة خمسة أشخاص حسب ما تداوله ناشطون على الإنترنت، ومنهم أصدقاء لي فضلوا الموت على أن تلصق بهم صفة «نازحين».

استغرق الطريق من حي الثكنة حتى كورنيش الرقة المتاخم لنهر الفرات خمس ساعات، تناقص عددنا خلالها إلى ثمانية رجال، بعد أن قضى أحدنا برصاصة قناص لا ندري من أين جاءت وكيف، إلا أنه سقط في شارع النور على مفترق أوتوستراد حلب، المكان المحشو بالقناصين من الجانبين. لا بدَّ من دفع ضريبة هناك، أو ندبة في القلب تعيش ما عشتَ وسمعتَ عن هذا المكان أو رأيته، هذا إن رأيته مجدداً!

تُرِكَ الرجل بدمائه التي تسيل، لا نقوى على سحبه، ولا طاقة عندنا لنحتملَ موتاً آخر. تُرِكَ الرجل ميتاً للوحوش الضارية، تُرِكَ ليتم دفن ما تبقى من عظامه لاحقاً بعد شهور أو سنين، ويبقى وصمة عارٍ وذلٍّ في جبيني وجبين من معي بعد خذلاننا له ولعائلته التي تنتظر. هكذا هي الحروب والنكبات، تحول الإنسان من كأن رحيم إلى وحش لا يهتم إلا لنفسه وخلاصه الفردي، تنحدر به القيم والمبادئ إلى القاع حيث صراع البقاء مع كل شيء. لذلك علينا أن نتخلى عمّا نصفه بالمشاعر المرهفة والآدمية، ونعيش بطبيعتنا العضوية بعيداً عن كل ما خصنا به الله دون خلقه من غير الأجناس، ومن الأجناس التي أوصلتنا إلى هذا الحال.

لم تنقضِ ساعةٌ أخرى حتى تمكنا من الوصول إلى كورنيش الفرات، الذي علينا تجاوزه خلال رفع أذان الفجر، كما نصت قصاصة العبور، عن طريق قوارب صغيرة بواسطة نهر الفرات. خلال تلك الساعة كانت الوجوه شاحبة، وصورة الرجل لم تفارق مخيلتنا، ولا ألسنتنا بالسؤال سهواً أو الحديث معه بعد أن ظن كثيرون منا أن ما حدث كان مجرد حلم أو خيال، حتى تجاوزنا الكورنيش الذي استقبلنا بلوحة صغيرة كتب عليها «احذر الألغام»، وهي منطقة بمسافة 300 متر يجب علينا تجاوزها للوصول إلى القوارب المرمية على النهر.

خلف تلك اللوحة عشرات من الجثث الناقصة، غالباً كان ينقصها النصف السلفي. هناك جثث بدا من تحللها أنه قد مرّ عليها أكثر من 15 يوماً، وهناك أخرى سبقتنا بساعات. من أمامك الموت ومن خلفك وطائرات تعلو قامتك، فأين المفر!! لا يمكن لكائن من كان أن يتصور وقاحة الجريمة التي يعيشها الإنسان في هكذا ظروف، يخيرونك بين أن يتم قتلك أو أن تقتل نفسك، ولك الخيار في احتمال بقائك حياً بنسبة لا تتجاوز الـ 1%، فكيف لعقل بشري أن يتصور هذا أو أن يحتمله!

كان لا بدَّ من العثور على منفذ نتجاوز به هذه المسافة، ولا بدَّ أن غيرنا ممن سبقونا قد فكروا بهذه الطريقة، وغالباً أن كثيرين منهم قد قضوا نحبهم، لكن ماذا عمّن تمكن من العبور؟ هذا ما حلّ المعضلة التي وقعنا فيها. ورغم كل ذلك الخطر، لم نكن نادمين على ما نحن فيه، خاصةً كلّما تذكرنا ما قد يجري لمن تركناهم خلفنا.

الحاجة أم الاختراع، استطاع من سبقنا أن يتعلم من تجارب غيره التي لا يحتمل الخطأ فيها التكرار، وكان الحل عبر جذوع من الأشجار تمَّ وضعها على الأرض ليسير الناس فوقها، فهي تخفف الضغط عن الألغام وتقلل احتمالية انفجارها بالضغط على صمام الأمان. عدم التوازن يرفع احتمالية الموت إلى أضعاف مضاعفة في حال سقط أي منا، وكأنك على الصراط المستقيم. لم تستكن الحناجر من ذكر الله والشهادة، لم يقبض أحدنا على كفه فالجميع رافعٌ سبابته بانتظار الموت، ولا شيء غيره. بيننا رجال يزيدون في البدانة على 100 كيلو غرام، ورغم ذلك كانوا أرشق منا نحن أصحاب الأوزان الخفيفة. تلك هي غريزة البقاء التي أجبرتنا على الوصول إلى هنا وتجاوز حقل الألغام، لنلامس مياه نهر الفرات بعد غياب طويل وثقيل.

مع وصولنا بدأت التكبيرات تعلوا في سماء المدينة معلنة صلاة الفجر، خلال فترة الأذان علينا العبور من ضفة الفرات الشمالية «الجزيرة» إلى الضفة الجنوبية «الشامية». إنه وقتٌ ضيقٌ بالنسبة لقوارب صغيرة لا تتسع للجميع، ولهذا انقسمنا قسمين، أربعة في المركب الأول الذي انطلقنا به بواسطة التجديف، لينطلق الآخر خلفنا على عجل حاملاً الأربعة الآخرين. للمرة الأولى أعرف أن التجديف صعبٌ إلى هذه الدرجة، ويحتاج قوة بدنية عالية، وهذا ما توجب علينا استحضاره لننجو بأنفسنا قبل أن تنتهي المدة المحددة للعبور إلى الضفة الأخرى.

حصل ذلك من حيث لا ندري، قبل أن يختفي قارب أصدقائنا ويبتلعه نهر الفرات، ويبتلع من معه. كان المشهد حيوانياً نوعاً ما، حين تشاهد أرواحاً تزهق أمامك وبأم عينيك، تناجيك وحدك وتطلب منك العون وأنت لا تقوى على شيء، إلا محاولة الخلاص من العذاب النفسي الذي سيرافقك مدى الحياة. في كل مكان هنا داخل المدينة وخارجها هناك جرح لا يندمل وذاكرة تأبى النسيان، هناك شعور بالسفالة يلبسك كل ما حاولت العودة إلى الوراء، لذلك يتوجب عليك النسيان.

تناقص العدد الكلي من 9 إلى 4 رجال خلال رحلة النجاة هذه، التي تُعاد حبكتها في كل ليلة مع أشخاص جدد وأماكن جديدة في محيط المدينة ومن أهلها. بعد حين وصلنا إلى كراج «الكسرات» الذي تم إنشاؤه حديثاً بعد أن تحولت المنطقة إلى مدخل للمدينة وريفها الغربي والشرقي تحت مراقبة عناصر «وحدات حماية الشعب»، هنا وفي ساعات الصباح الأولى بعد أن وجدنا ما يُؤكل ويُشرب ممّا قدمه أهالي المنطقة، ينادي علينا صوتٌ من بعيد، إنه أبو محمد عائداً من الموت بعد أن غرق مركبهم، ينادي وبعضنا يتهم البعض الآخر بالجنون والخرف نتيجة تكرار السؤال: «هذا اللي جاي أبو محمد!!». فعلاً إنه أبو محمد، نجا بنفسه تاركاً خلفه ثلاثة يناجونه ويقابلهم بظهره، ليسبح إلى الضفة الجنوبية متابعاً طريقه. يبكي قائلاً: لا أعرف السباحة جيداً، ولا أعرف كيف وصلت إلى هنا أصلاً، ما أعرفه أن الموت كان أحق من حياة كهذه.

نازحون، منذ الآن أصبحت هذه الكلمة هويتنا الجغرافية وإطارنا الاجتماعي، مصطلحٌ جديدٌ دخل في سيرتي الذاتية وأصبح لصيقاً بي كظلي واسمي. حتى بعد وصولي إلى القرية التي تعود أصولي إليها في الشمال، «وحدات الحماية» تناديني بالنازح، الأهالي كذلك، سائقو سيارات النقل، المزارعون وأصحاب البقاليات، وكل من يقيم هناك. حتى أولاد عمومتي يجمعون لي ما احتاج تحت اسم «للنازحين الجدد»، هكذا تحولت الأيام وأصبحنا نستخدم مصطلحات لم يستخدمها أبناء المنطقة طوال تاريخهم.

تنحدر الحياة في حالات النزوح إلى أدنى الدرجات، تصبح حينها كأناً غريباً يُرثى له ويستحق الشفقة، وقد يكون هذا أحد الأسباب التي حالت بيني وبين الخروج من الرقة حتى ذلك الوقت. هنا في الشمال أرى جميع «النازحين» كما التصقت بهم هذه التسمية، أرى من بدأ حياة جديدة هنا كتلك التي سمعنا عنها بعد نكبة 48، حين يبني النازح حول الخيمة جداراً ويزرع أمامها، يطبع بقدميه طريقاً جديداً ويسمي أسماء جديدة. تبدأ الذاكرة المريرة بالتلاشي ويتحول إلى مخلوق آخر يشعر بنشوة النصر على كل أسلحة البشرية التي كانت مسددة عليه. هنا بدأ الناس بنسيان المدينة والتأقلم مع الوضع الجديد، بعد الأخبار التي تنذر بالشؤم، وبأنه لا عودة في الوقت الحالي، أو حتى خلال السنوات القادمة، إلى المدينة. وحتى إن حصل ذلك، سيعود كل منا إلى خيمة وحياة أكثر بؤساً من هذه نتيجة تدمير المدينة بشكل منظم وممنهج، بحيث لا يبقى فيها غرفةٌ واحدةٌ للحياة، أو حتى متسعٌ للممات.

***

فرَّ من مدينة الرقة نحو 300 ألف مدني خلال العام الأخير، جرّاء مضايقات داعش وقصف التحالف الدولي بشكل جنوني، لكن بقي نحو 50 ألفاً في الشهر الأخير، وحوصروا جميعاً إلا من تمكنوا من الفرار، كما فرّ أبو خالد، إلى الشمال مرغمين تحت التهديد. بقي هؤلاء في المدينة بعد أن تقطعت بهم السبل، وضاقت بهم الأرض بما رحبت في مخيمات النزوح ودول اللجوء، دون اكتراث من أصحاب القرار وأمراء الحرب، وهو ما يبين أن القضية ليست مع داعش بقدر ما هي مع المدينة التي تشكل عائقاً أمام كيان جديد في الشرق الأوسط يقوم على تغيير الطبيعة الديموغرافية للمنطقة لصالح «الدولة» القادمة، التي بدأت بتثبيت أعمدتها وطرح نفسها بما يليق بالثقافة الغربية الداعمة لها، والتي قد تعترف بها لاحقاً على حساب تركة داعش.