سأقيم في الضفة الأخرى، حيث يرميني القدر في المحطة الأخيرة كما أتمنى، اللجوء طريقي الأبيض، طريق بدون معالم وبأشواك كثيرة، أحمل حقيبة مكسرة الأطراف، وذكريات لا تنام ولا تتعاطى التعب ولا تعاقر الكلل، لا أذهب إلى الشمال فالشمال هو الجنوب، والشرق غربٌ في عالم اللجوء، لا أغادر شمس الصحراء ولا أقيم بجانب الجليد الصلب، فلا ميزان لحرارة المشاعر هنا.
وصايا اللجوء
التقيتُ بسوريين كثر، نساء ورجال، شباب وكهول وحتى أطفال ورضّع. خيطٌ واحد يربطهم جميعاً في مخيلتي، أنهم أغراب ولا أعرفهم، ولا أعرف لماذا أنا وهم سوريون، لا شيء واضح سوى بقايا الأوراق الثبوتية السورية التي سندفعها للدوائر الحكومية الفرنسية لنحصل على أوراق أخرى باعتبارنا لاجئين.
غربتي معهم تزداد، أشكُّ ويشكون هم أيضاً، في مستقبلي ومستقبلهم، في تاريخي وتاريخهم، وحتى حاضري وحاضرهم. لن يثقوا بالزمن حتى لو أشعل دقائقه وساعاته ناراً، وسوف يدققون جيداً في كل ما يُقال لهم، من كيفية متابعة أوراقك الرسمية بدايةً، حتى توصيف ما يجري في سوريا نهايةً، هل هي أزمة، ثورة، حرب أهلية؟ ولكنهم يجمعون أن السنوات الماضية، كما هي وكما يروق لأي أحد أن يسمي ما فيها من أحداث، كانت سنوات باطشة القسوة، سنوات البطش السوري، كأن الزمان أضحى مطرقة ضخمة هوت على رؤوسهم فدفنتهم في مصطلحاتِ ومناهجِ التفسير، تفسير ما حدث وكيف حدث، وما كان يجب أن يحدث.
أنتقلُ إلى مدينة أخرى، وأجاور نهراً آخر. تخترق الأنهار هذه البلاد، كما يخترق رصاصٌ بيت جارنا حاج رزوق. كثيرةٌ وتحفر عميقاً في الأرض. النهر الجديد أقل برجوازية من الأول، نهرٌ يصلح لأحلام البسطاء، نهر بلا قناطر ولا أسمنت ولا حجر، رائحته شبيهة برائحة ساقية قريتنا، وأقول لصديقي في الرسالة الإلكترونية «ليس للفرات من رائحة» عندما يحاول أن يجد قاسماً مشتركاً بين نهرنا وهذا النهر الغريب. الفرات لا رائحة له، كميتٍ غسله الرجال العابسون في الفجر، ذكريات ميتة. قل لي يا صديقي: «من يتذكر حناجر النشطاء الخمسة التي اقتلعها الجنود هناك؟»، ومن يتذكر منا «أطفال المازوت المكرر يدوياً» على جانبي الطريق إلى تركيا؟، من يتذكر؟ لقد نسي الناس هنا ذكرياتهم، تعبوا منها أو أصابهم الملل الشديد، واعتنقوا وصايا العهد الجديد، ليست عشرة بل ثلاث فقط، وصايا اللجوء: لا تتذكر كثيراً وطنك الواحد، أكرم المطر فالغيوم دائمة الحضور في أيامك، ولا تقرب ذكرياتك الشخصية إلا بالتي هي أحسن.
الوجوه العابسة
موظفة القنصلية الفرنسية في اسطنبول، فارعة الطول، سمراء البشر، أنيقة المظهر، تتحدث العربية وتبتسم بشكل مفرط. اسمها صوفيا ويعرفها معظم السوريين اللاجئين إلى فرنسا، الذين خرجوا عن طريق القنصلية. نظرت إلى الأرواق عدة مرات قبل أن تدفع لي بوثيقة السفر من فتحة في الزجاج الذي يغطي مكتبها ومكاتب الموظفين الآخرين، وقالت: أتمنى لك حياة سعيدة في فرنسا.
أشاهدُ الورقة وأعيدُ النظر إلى وجهها الباسم، وأستذكرُ وجوهاً متجهمة وشوارب كثة سوداء وحمراء ولحى حليقة ولكنها خشنة، ومكاتب يعلوها الغبار، منافض سجائر ممتلئة، وحواجز في الصحراء. أرى موظف شعبة التجنيد وموظف النفوس ومسؤول التدريب الجامعي، وأسمعُ كلمات زاجرة وأخرى عنصرية وقهقهات جنود ونكات ذكورية فاقعة يطلقها الأشخاص عادة للتغطية على ضعفهم. أتذكرُ عندما يمرّ الأمر بلطف، لن أتحدث عن ذلك كثيراً، لكل حال أسبابه ولكل بلاد ظروفها وسيروراتها، وأتذكرُ جملة «وأني أحذركم من عذاب الحسد» لمحمود درويش وأبتسمُ بعمق. ولكنني رغم كل ذلك ما زلتُ أكره الدوائر الرسمية، كنتُ أصابُ بإحباطٍ عند الذهاب إلى إحداها.
أقطعُ ذكرياتي لكي أسمع ما تقوله الموظفة لي، سوف أكملها في شارع الاستقلال، سوف يكون هناك متسع من الوقت.
– شكراً لقد قدمتِ لي الكثير.
– العفو، باب الخروج على يمينك.
أدلفُ من الباب شبه السري باتجاه شارع الاستقلال في وسط اسطنبول، شارعٌ يعرفه معظم السوريين، واحدٌ من أهم المعالم التي مرت بثورتهم ونكبتهم وهجرتهم. سمعتُ من السوريين في مقاهي هذا الشارع قبل عدة سنوات جملاً من قبيل «مثل بلدنا ما في»، أو «طالع لأسبوع وراجع للداخل». لم أعد أسمع هذه الأحاديث منذ نهاية العام 2013، أما قبل ذلك فقد كان الداخل جميلاً والهاربون يعودون، ولكن لم يستمر الأمر طويلاً ليخرج معظمهم لاحقاً من سوريا.
كثرٌ قالوا لي إن فرنسا سوف تكون محطتك الأخيرة، ولكن فكرة أنني سوف أرحل إلى الأرجنتين بعد فرنسا ما زالت تقفز في مخيلتي كلما أكد لي أحدهم أن آخر محطاتي هي المحطة المقبلة. ربما نفترض نحن البشر أن محطاتنا تأتي وتأتي ولا تختفي، لذلك نحن ننسى أننا سوف نموت يوماً ما، ونستمر بالحياة يوماً بعد يوم دون كلل ودون ملل.
كيف ستكون فرنسا عند إقبالك عليها، لا بدَّ أن جميع المهاجرين تخيلوا كيف سيعيشون هناك، كيف هي البلاد الجديدة، أما أنا فقد تخيلتُ باريس بناءً على القليل الذي قرأته عنها، وتخيلتُ أماكن مثل قوس النصر واللوفر وغابة بولونيا. قرأتُ في إحدى الروايات عن معتقل سياسي سابق من الشرق الأوسط جاء إلى باريس بغرض العلاج والفرار، وأتذكرُ بوضوح ذلك المقطع من الرواية الذي يصف لقائه بصديقه القديم في الحزب في غابة بولونيا. يمشون كثيراً فيها، ويفصحُ فيها صديقه ورفيقه السابق عن روايته الخاصة بشأن اختراق السلطة في ذلك البلد المشرقي للحزب، وكيف أوقعوا بالرفاق واحداً بعد آخر. بعد أشهر عاد المناضل إلى بلده المشرقي أشبه بجثة هامدة، أو لنقل عاد عندما شعر بدنو الأجل ليموت هناك، كما لو أنه كان مقدراً له أن يكون في السجن أو القبر إن كان في تلك البلاد. لم يحتمل الحقائق التي سمعها في الضفة الأخرى من المتوسط، في الغربة تتعرى الحقائق ويتعرى الإنسان أمام ضعفه، ويتعرى العالم أمامك ويكشف وجهه القبيح.
الأوراق والريح
باريس خضراء جداً من الجو، أكثر مما يجب، وأكثر ما اعتادت عيني على رؤيته من قبل. لا تعنيني هذه الخضرة كثيراً، إذ لطالما أحببت البادية الجرداء حيث يكون الهواء نقياً وكثيفاً، وبارداً جداً عند الفجر حتى في الصيف. أسندُ رأسي من جديد على كرسي الطائرة وأحاول أن أفكر بأي شيء ريثما تهبط، إلى متى سوف تصمد ذكريات بادية دير الزور في مخيلتي أمام كل تلك الخضرة التي تلفُّ المكان هنا. يقطع سلسلة أفكاري ضجيج الطفلين التركيين بجانبي، لقد أزعجاني طوال الرحلة بصوتهما العالي وفضولهما المفرط. لم يستدعِ ذلك من والدتهما أي اهتمام، فقد نامت منذ أن أقلعت الطائرة، شأنها شأن معظم المسافرين الآخرين، معظمهم من الأتراك، ولم ألاحظ بينهم أي سوري ولا حتى عربي. يبدو أن السوريين ليسوا وحدهم من يأتون إلى هنا بحثاً عن شيء ما. أعودُ لأفكاري وأكفُّ عن الغضب من الأطفال، السفر معهم بالتأكيد أفضل من قطع المتوسط بقوارب التهريب، يجب أن نظهر بعض الامتنان تجاه ظروفنا، دائماً هناك أسوأ، دائماً هناك الأكثر تعباً والأكثر مشقة والأكثر ألماً. إنني في نزهة مقارنة بغيري من اللاجئين، ساعتان من الضجر في الطائرة وسوف ينتهي كل شيء، سوف تحط في المدينة الغريبة، ليس لدي فضول لمشاهدة ما فيها من عجائب، لا شيء يثير عجبي تقريباً. تهبطُ الطائرة كما كل الطائرات، أسيرُ مع مئات الأتراك من المسافرين، أنتظرُ في الطابور، أتأخرُ قليلاً لعدم وجود جواز سفر معي، يتأكد الأمن من وثيقة السفر التي أحملها، يجري اتصالاً، يتحدث بالفرنسية.
بعد خمس عشرة دقيقة من الانتظار يعطيك الورقة ويطلب منك الذهاب، لقد تمّ الأمر، أنت في الضفة الأخرى، لقد وصلتَ إليها كما تصلُ أوراقٌ كنستها الريح ورمتها بعيداً، أمام مدن لا تكترث بك ولا بتاريخك ولا من أي بلد جئت، مدن ضخمة يزورها كثيرون من كافة البلدان: سياح، سياسيون، أدباء، ورجال أعمال، وكذلك لاجئون من جنسيات كثيرة.
بعد عدة أيام من اللجوء، أعودُ بعد يومٍ مضنٍ من متابعة أوراقي في الدوائر الحكومية الفرنسية، وأكتبُ منشوراً على صفحتي على فيسبوك. تمنيتُ وقتها لو توافرت لدي الشجاعة كي أقول إنني أخطأت بالخروج من تلك القرية الصغيرة على ضفاف الفرات، كم كانت تليق تلك القرية بوطن، وطن صغير له أساطيره وله حنينه وله ما له من شغف الروح. سألتُ كثيراً خلال سنوات الثورة: هل سوريا وطن بمعنى الوطن، أليست خريطةً لسايكس وندِّه من الدولة الأخرى؟ ولكن لم يساورني الشك تجاه تلك القرية الصغيرة، كانت وطناً ناضجاً، وقمراً مكتملاً.
«هنا في باريس وبعيداً عن الشانزليزيه ونوتردام وإيفل، تستطيع أن ترى قهر شعوب العالم الثالث، مغاربة، أفارقة، وعرب مصريون وعراقيون وسوريون، مسلمون محتارون ما بين تسجيل أنفسهم كمسيحيين وتسهيل إجراءات اللجوء، أو الالتزام بهويتهم ودينهم وقد يتعرضون للترحيل قبل تسليم أوراقهم بدقائق –كما عاينته من شاب عراقي-. على أبواب مراكز اللجوء ينام المهاجرون لليلة أو أكثر تحت المطر والبرد، وقد يضطرون للنوم ليلة أخرى إذا نشب عراك بين الأفغان والأفارقة، وأوقفَ المركزُ العملُ قبل الوصول إلى كوة الموظف».
المنافي هي ذاتها المنافي، تقفُ قليلاً ثم تكمل كأنها بدأت للتو، كمسيرة أخرى في تيه يكاد لا ينقضي. ويبقى المنفى الجديد كالمنفى القديم، يحييك، يبتسم لك بملامح معدنية ويقول: وَهَبَتكَ الحياةُ منفىً جديداً، ولكنني أعتذرُ إن كررتَ منفاكَ القديم ذاته بتفاصيله وساعاته ودقائقه، منفىً بأوراق ثبوتية جديدة، بأسماءٍ جديدة وأوانٍ جديدة، فالمنافي أماكن غاية في التناقض مثل البشر تماماً. يجب أن نكون معقدين ومتناقضين كي نكون بشراً، كما ينبغي للمنافي كي تكون منافياً. أما الانتقال من منفىً إلى آخر، فهو أشبه بخطوة لا ينظر فيها المنفي إلى أسفل القدم.