يحظى حي المزة/فيلات شرقية في العاصمة دمشق بحراسة أمنية مشددة نتيجة وجود عدد من السفارات فيه، أهمها السفارة الإيرانية، إضافة إلى وجود المركز الرئيس للجمعية غير الحكومية المعروفة باسم «الأمانة السورية للتنمية»، أو الاسم الذي يتناقله السوريون «منظمة السيدة الأولى»، إذ تشغل أسماء الأسد منصب رئيس مجلس الإدارة فيها.

الشارع الذي يتواجد فيه المركز الرئيس للجمعية مغلقٌ بعدد من الحواجز الأمنية، التي تقوم بتفتيش الداخلين عبر جهاز لـ «تفييش» هويات المطلوبين أمنياً أو للخدمة الإلزامية، ويعمل فيه 6 عناصر أمنية على كل، مدخل يتناوبون على الحراسة طوال 24 ساعة في اليوم.

يتميز الحراس المفرزون من القصر الجمهوري ببدلاتهم الرسمية ومنظرهم الأنيق، ويقتصر سلاحهم على مسدسات فردية مخفية. وبحسب مصادر من داخل الأمانة، فإن هذا كان بطلب شخصي من أسماء الأسد، التي لا تحبذ اللباس العسكري. ويرتبط الحراس البالغ عددهم 24 عنصراً بالعقيد في الحرس الجمهوري أحمد سليمان، المسؤول عن تأمين الحماية للجمعية ومراقبة نشاطاتها، مع وجود تعليمات صارمة بالحفاظ على اللباقة والاحترام والتعامل بشكل لائق ومحترم مع جميع الزوار.

فيما تغيب اللهجة الساحلية عن العناصر الأمنيين للأمانة، وهي التي تعتبر رمزاً للسلطة والولاء للعائلة الحاكمة، يتم الحفاظ على اللهجة السورية البيضاء، مع إخفاء أي علامات أو رموز أو كلام طائفي بتعليمات من أسماء الأسد كما يردد العناصر الأمنيون هناك، وجميعهم من حملة الشهادات الجامعية.

استطاعت الجمهورية الدخول إلى جمعية الأمانة السورية للتنمية، والتقت بالعديد من العاملين فيها، الذين رفضوا الكشف عن أسمائهم خوفاً من الملاحقات الأمنية. وبحسب المصادر، فإن هنالك مرحلتين أساسيتين في تاريخ الجمعية، منذ تأسيسها.

إبراز وجه سوريا المدني

بدأت الجمعية أعمالها عام 2001، أي بعد تسلم الأسد الابن السلطة ووصول أسماء الأسد إلى القصر الجمهوري، التي كانت تسعى إلى إبراز نفسها كسيدة عصرية تعمل على إنشاء وجه مدني جديد لسوريا يمحي آثار البزة العسكرية التي ارتدتها سوريا طوال حكم الأسد الأب.

وبحسب المصادر، فإن أسماء كانت ترى وجوب استجلاب استثمارات أجنبية إلى البلاد والانفتاح على السوق، وإتاحة مجال أكبر من الحريات لرؤوس الأموال المحلية والأجنبية، وهذا لن يكون بوجود مجتمع غير مؤهل ومغلق طوال ثلاثين عاماً، ولهذا كان هدفُ الأمانة السورية للتنمية العملَ على إبراز الوجه المدني لسوريا، وزيادة الانفتاح مما يشكل إغراءً لأصحاب رؤوس الأموال الذين يرغبون بالاستثمار، وذلك بحسب المصدر الذي نقل عن أسماء الأسد في أحد الاجتماعات كلامها: «لا يمكن أن نخاطب رؤوس الأموال بمجتمع غير مؤهل مثل المجتمع السوري هذا».

تقسم الأمانة فريقها إلى أربعة مجموعات: مجموعة الموارد البشرية، وهي التي أسست ما كان يعرف بعيادات العمل، نواة الأمانة. وقسم الأبحاث والإعلام، وهو الذي قدم لليونسيكو ما عُرِفَ بمشروع التراث اللامادي لسوريا. إضافة إلى قسم العلاقات الخارجية، الذي أصبح من أنشط الأقسام بعد الحرب السورية والمقاطعة التي فرضت على النظام والمقربين منه. أما القسم الأخير فهو المالية. وتجتمع هذه الأقسام في مجلس أمناء تترأسه أسماء الأسد.

في البداية تم إنشاء مشروع «عيادات العمل» الذي كان مقره في أبو رمانة، ويقدم دورات للموارد البشرية، دورات على الحواسيب واللغات، وكيفية صنع السيرة الذاتية، والمتطلبات للعمل بالشركات الكبرى، كما تم إرسال العديد من الكوادر في رحلات إلى عدد من البلدان الأوربية للاطلاع على عمل الشركات الكبرى هناك، والاستفادة من خبرتها.

كذلك عملت الأمانة على إنشاء مشروع «وردة مسار»، الذي يستهدف شريحة تمتد من سن (5 _ 21) عاماً، ويهدف إلى إنشاء جيل مهتم بالموسيقا والمسرح، إضافة إلى اتقان التعامل مع وسائل الاتصالات الحديثة، وفق رؤية تحددها رئيس مجلس إدارة الجمعية، أسماء الأسد.

توجهت الأمانة أيضاً إلى الفلاحين بإنشاء الصندوق السوري لتنمية الريف، الذي قدمَ قروضاً صغيرة دون فوائد للفلاحين في مناطق أرياف حماة واللاذقية وطرطوس وجنوب سوريا. كان هدف الأمانة السورية، وفق المخطط الذي ترسمه أسماء الأسد، هو إنشاء سوريا العصرية وفق نظرة قيادة النظام.

تطرح الأمانة السورية نفسها من خلال قوائم وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل منذ عام 2007 على أنها مؤسسة غير حكومية وغير ربحية، تسعى إلى تنفيذ مشاريعها من خلال ثلاث منافذ، التعلم والتنمية الريفية والثقافة والتراث، وهي مسجلة في الوزارة المذكورة بحسب القانون 93 الصادر في عام 1958.

لكن الأمانة السورية تخرق القانون الذي سُجِّلَت على أساسه في الوزارة، لأنه بحسب هذا القانون: «يحظر على الجمعيات المندرجة بترخيصها تحت هذا القانون، القيام بأنشطة ذات طابع عسكري أو سياسي»، وذلك من خلال النشاطات التي تقوم بها دعماً للنظام الحاكم، كالمشاريع الدعائية التي قامت بها بدءً من المسيرات التي حشدتها دعماً للأسد، وصولاً إلى المبادرات الاعلامية لإعادة تلميع صورته، فضلاً عن الأنشطة الداعمة لجيش النظام.

الفساد والحروب الداخلية

خلال السنوات العشرة الممتدة من عام 2001 إلى عام 2011، خاضت الأمانة العامة العديد من الصراعات بينها وبين عدد من رموز الأجهزة الأمنية التي كانت تعارض عمل الجمعية، والانفتاح الذي تعمل على إحداثه.

بحسب أحد منسقي المشاريع في الأمانة: «كثيراً ما كنا نشهد حروباً بين نشاطات الجمعية والأفرع الأمنية، التي كانت تعرقل الحصول على الموافقات الأمنية اللازمة لبعض المشاريع، وكان يتدخل حينها المكتب الرئاسي في القصر الجمهوري». وأضافت المصادر أن جميل الحسن رئيس المخابرات الجوية آنذاك، طالب بإغلاق الأمانة العامة، أو الحد من عملها وتحويلها إلى جمعية تشرف على عمل الجمعيات الخيرية المرخصة في دمشق، الأمر الذي رفضته أسماء الأسد.

الحرب الثانية التي خاضتها الأمانة السورية كانت ضد وزارة الدفاع عند إنشاء مشروع «وردة مسار»، إذ قامت الأمانة بالاستيلاء على أرض كانت تحت سيطرة وزارة الدفاع، عبر استخدام نفوذها الواسع داخل القصر الجمهوري للحصول على إذن لإنشاء مشروع وردة مسار فيها.

راجعت الجمهورية المصالح العقارية في دمشق في شارع الثورة للتأكد من الأمر، وتبين أن الأرض المعروفة باسم المربع الثقافي، والممتدة من مكتبة الأسد إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون، وصولاً إلى دار الأسد للثقافة والفنون والمعهد العالي للفنون المسرحية، ثم إلى الأرض القديمة لمعرض دمشق الدولي، مسجلةٌ على أنها بساتين وأراضٍ زراعية لعدد من العائلات الدمشقية، أهمها بيت الحمصي وبهلول. وبحسب المصالح العقارية، فقد تم الاستيلاء على هذه الأراضي لصالح وزارة الدفاع عام 1980، وبالتحديد لصالح سرايا الدفاع التي كان يرأسها آنذاك رفعت الأسد شقيق الأسد الأب.

قامت وزارة الدفاع بتأجير القسم الجنوبي من الأرض لوزارة السياحة، لتقيم فيه معرض دمشق الدولي، وكذلك كانت تؤجره لوزارة الثقافة لتقيم فيه معرض الكتاب، قبل أن تستولي عليه الأمانة السورية للتنمية دون وجود أي عقد، وتأخذه لتبني عليه مشروع «وردة مسار».

عندها بدأت الحرب بين أسماء الأسد وبين الجناح العسكري المتمثل بعدد من ضباط المخابرات ووزارة الدفاع، إذ استطاعت أسماء الأسد عبر نفوذها السطو على الأرض، لكن مناقصة بناء المشروع، الذي كان على شكل وردة ضخمة تتوفر فيها جميع تقنيات الاتصالات وعدد من المسارح التفاعلية، ربحتها مؤسسة الإنشاءات العسكرية التابعة لوزارة الدفاع بعد عمليات فساد شارك فيها ضباط من داخل القصر الجمهوري، وقد تعهدت بإتمام البناء خلال مدة أقصاها 290 يوماً، لكن حتى يومنا هذا لا يزال المشروع على الورق تقريباً، إذ تم رفع الهيكل الخارجي للبناء الضخم فقط.

وقد تم اكتشاف العديد من ملفات الفساد التابعة لعدد من الضباط أصحاب النفوذ، تتعلق بميزانيات صرفها منسقو مشاريع مرتبطون بعدد من الضباط، وبهذا عادت المنصة التي أنشأها النظام لإبراز وجه سوريا المدني لتصبح نافذة للفساد، تعود أموالها إلى جيوب العسكر من ضباط الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة التي يرأسها ماهر الأسد.

في الشهر التاسع من عام 2011، اجتمعت أسماء الأسد بعدد من منسقي الأعمال في الجمعية، وطلبت إعادة هيكلتها واستبعاد الأشخاص التي لا تثق بولائهم للأمانة، أي لأسماء الأسد شخصياً.

الأمانة والثورة السورية

كانت أسماء الأسد تسعى قبل عام 2011 إلى إنشاء مؤسسة مدنية، تتخلص من اللون العسكري الذي صبغ سوريا طوال ثلاثين عاماً، لكن سرعان ما تلاشى كل هذا بعد انطلاق الثورة السورية ضد الأسد، لتتحول الأمانة من مؤسسة تسعى لإفساح مجال للعمل المدني وفق وجهة نظر النظام، إلى مؤسسة تسعى إلى تبيض صورة النظام بشقيه الأمني والعسكري.

وتفيد مصادر من داخل الأمانة أن تحولها إلى منظمة أهلية داعمة للجيش والجهاز الأمني، كان بوصول الإعلامية لونا الشبل إلى القصر الجمهوري برتبة مستشارة إعلامية للأسد، إذ نصحت الأسد وعقيلته بأنه حان الوقت الآن لتفي «الأمانة السورية» بالمعروف الذي قدمته لها السيدة الأولى، وتُظهر مدى تمسك الفعاليات المدنية والشباب بالأسد.

عندها كشفت الأمانة السورية عن وجهها الأمني، تمت إعادة من كان قد تم استبعادهم، وبدأ العمل على خلق حاضنة مدنية شبابية للأعمال التي يقوم بها النظام، من خلال إقامة العديد من المسيرات المؤيدة للأسد، وإقامة الفعاليات تكريماً لجرحى وقتلى جيش النظام, وتحولت الأمانة السورية إلى واجهة مدنية للأجهزة الأمنية التابعة للنظام من خلال السيطرة أيضاً على جميع النشاطات الشبابية داخل الجامعات، فأصبح متطوعو الأمانة هم وعناصر الأمن يداً بيد لقمع أي احتجاجات تقوم داخل الأبنية والساحات الجامعية.

النشاط الثاني الذي واظبت الأمانة على القيام به، ويعد أبرز أعمالها إلى الآن، هو مكتب طبي إغاثي لمعالجة المتضررين من الحرب السورية، ومعظمهم من قوات النظام وأبناء البيئة الحاضنة له.

تم إنشاء مكتب لتركيب الأطراف الصناعية في مشفى «حاميش» في دمشق، يتم فيه تركيب أطراف صناعية للمصابين من قوات النظام، يرافق ذلك مواد إعلامية ترويجية. وتسعى الأمانة إلى تقديم مادة بصرية احترافية مؤثرة، لكسب تأييد وتعاطف الرأي العام الداخلي والدولي.

تبذل الأمانة جهداً كبيراً في الترويج الإعلامي لعملها ووجهة النظر التي تخدمها بناء على توجيهات من أسماء الأسد ولونا الشبل، وحققت إنجازات أهمها الفوز بجائزة التراث اللامادي المقدمة من اليونسكو عام 2014، بعدما قدمت مشروعاً بحثياً عن العادات والتقاليد السورية، كما تم استخدام الأمانة كأحد أسلحة النظام لكسر العزلة الدولية التي فرضتها المنظمات والدول عليه.

في الجانب الإغاثي كانت الأمانة السورية حاضرة، بعد اشتراط النظام منع العمل للعديد من المنظمات غير الحكومية، لتكون الأمانة هي الشريك الذي من خلاله يتم تنسيق عمل المنظمات غير الحكومية التي منعها النظام من العمل بشكل مستقل. وهكذا تحولت الأمانة السورية إلى عين النظام التي تراقب العمل الإغاثي في مناطقه، وكذلك العصا الأمنية التي تُسيّرُ عمل تلك المنظمات بحيث تخدم جزءً كبيراً من حاضنة النظام.

من يمول الأمانة؟

لا تكشف الأمانة السورية مصادر تمويلها، وهي تعرّفُ عن نفسها بأنها منظمة غير ربحية تهدف إلى تنمية المجتمع السوري فقط، ودون الكشف عن الجوانب التمويلية. وقد تابعت الجمهورية مصادر تمويل الأمانة السورية، فتبين أن أبرز ممولي الأمانة هي منظمة world links المملوكة لجيمس وليفنسون المدير السابق للبنك الدولي، والتي تأسس فرعها العربي عام 2003، ويضم مجلس إدارتها أسماء الأسد إضافة إلى عدد من الوجوه النسوية البارزة على الساحة العربية، منها رانيا ملكة الأردن وبهية الحريري، إضافة إلى زوجة جيمس وليفنسون.

المصدر الثاني للتمويل هو شركة المقاولين المتحدين، العاملة في مجال النفط والبناء، إضافة إلى عدد من شركات النفط التي كانت تعمل في سوريا قبل عام 2011، وتربطها علاقات قوية مع رموز السلطة الحاكمة وعلى رأسهم أسماء الأسد.

بعد عام 2014، عندما فرضت عقوبات دولية على الأسد وعائلته ومنها أسماء نفسها، استمر عدد من الممولين في ضخ الأموال إلى الأمانة حسب مصادر داخلية. وعن سبب تمويل هذه الشركات للأمانة السورية، قالت المصادر إن جانباً من الأمر يتعلق بوعود من قبل رموز السلطة بالحصول على امتيازات، وبالارتباط بعلاقات شخصية مميزة ومصالح أعمال تمتد إلى خارج سورية، والجانب الثاني هو هروب تلك الجهات الممولة من الضرائب التي تنهكها في الدول الأوربية وأمريكا.

ويتم التحايل لإيصال الأموال بشكل غير مباشر إلى الأمانة، المتهمة بتلميع صورة النظام، فهي تستلم الدعم والتمويل على أنها جهة وسيطة بين الجهة الغربية التي تنوي إقامة مشاريع تنموية في سوريا ويمنعها النظام، وبين الأمانة التي تطرح نفسها كجهة مستقلة. وبهذا تلعب الأمانة السورية دور السمسار، لأنها هي التي تؤمن القبول القانوني للفرق العاملة داخل سوريا، والتي لا يُسمح لها بالعمل داخل البلاد إلا إذا كانت شريكاً للأمانة السورية للتنمية.

لاقى اصطفاف الأمانة السورية مع النظام، وتأييدها لعملياته العسكرية، العديد من الانتقادات، كان أبرزها تقرير لمجلة الغارديان البريطانية نشرته في شهر آب/أغسطس عام 2015، اتهمت فيه الأمم المتحدة بالتعاون مع نظام بشار الأسد، من خلال صرف أموال بلغت ثمانية ملايين دولار ونصف للأمانة السورية للتنمية التي أسستها عقيلة الأسد.

عند إجراء هذا التحقيق ودخولنا إلى الغرف المغلقة في الأمانة السورية، اكتشفنا حجم التذمر الكبير حتى بين أعضاء الأمانة السورية، فالأمانة التي تُعدُّ من أقدم المنظمات في سوريا، وترأسها السيدة الأولى للنظام، أصبحت الآن في مواجهة منافسة العديد من المنظمات على النفوذ والسلطة، وخاصة المنظمات الأهلية العراقية واللبنانية ذات الغطاء الشيعي، التي دخلت مع التدخل الإيراني في سوريا. ويعكس انحسارُ دور الأمانة انحسارَ الدور السياسي للنظام، لحساب من يعتبرهم الآن حلفاءه، إيران وأذرعها العسكرية والدينية.