يُرثى لما جرى للأسلاف [اليهود]، لكنهم يُلامون أيضاً على أنهم تركوا أنفسهم يقادون مثل الخراف إلى الذبح. فكيف يمكن أن يلام ذراريهم على تشمم رائحة مسلخ مستقبلي في كل شارع أو مبنى يبدو عدائياً؟ أو إذا هم اتخذوا إجراءات وقائية لإضعاف الذابحين المحتملين؟ قد لا تكون لأولئك الذين يجري إضعافهم وقائياً أي علاقة بمرتكبي الهولوكوست، وقد لا يمكن اتهامهم بأية مسؤولية قانونية أو أخلاقية عن دمار أسلاف يهود اليوم (ففي النهاية، وراثةُ «المظلومين الوراثيين» [للمظلومية]، وليس استمراريةُ موقعي الظلم المفترضين، هي ما تصنع الربط واتصال السلسلة السببية)؛ ومع ذلك فإنه في عالم تقض مضجعه ذكرى الهولوكوست، هؤلاء الناس مذنبون سلفاً، مذنبون بـالنظر إليهم كنازعين إلى ارتكاب إبادة أخرى فيما لو تسنت لهم الفرصة. كونهم متهمين، أو مجرد مشتبه بهم، هو جريمتهم، وفقاً للرسالة المشؤومة في رواية كافكا: المحكمة، وهو الجريمة الوحيدة اللازمة لتصنيفهم كمجرمين، ولتبرير إجراءات عقابية قاسية ضدهم. أخلاقية المظلومية الوراثية تقلب منطق القانون، من حيث أنها تقضي بأن كل متهم مجرم حتى تثبت براءته. ولما كان المتهِمون والمدّعون العامون هم أنفسهم من يديرون جلسات المحكمة، وهم من يقررون صلاحية الحجج المقدمة، ففرصة المتهمين ضئيلة في أن يؤخذ بحججهم من قبل القضاة، الفرصة كبيرة بالمقابل في أن يبقوا مذنبين لزمن طويل، أياً يكن ما يفعلون.
وعلى هذا النحو يمكن لوارث المظلومية أن يوجه النقمة على ظلم قديم لإيقاع ظلم جديد، يُرتكَب هذه المرة من أجل محو ضعف موروث. إنها لحقيقة مبتذلة أن العنف يولّد العنف، ولأنها لا تقال كفاية فإنها أقل ابتذالاً الحقيقةُ القائلةُ بأن المظلومية تولّد المظلومية، وأنه ليس مضموناً أن يكون الضحايا أرفع أخلاقياً من الظالمين، وهم قلما يخرجون مما وقع عليهم من ظلم بأخلاقية أرفع.
الاستشهاد، سواء كان واقعياً أم افتراضياً، ليس ضمانة للقداسة. وذكرى المعاناة ليست كفالة لأن يتكرس من عانوا مدى الحياة ضد المعاملة غير الإنسانية أو القسوة أو إيقاع الألم، أينما وقع وأياً يكن من يقع عليهم. الحصيلة المحتملة بالقدر نفسه للاستشهاد هي الميل إلى استخلاص الدرس المعاكس: أن البشرية منقسمة إلى ضحايا مظلومين وظالمين يضحون بهم، فإن كنتَ ضحيةً، أو كان متوقعاً أن تكون كذلك، فواجبكَ هو قلب الطاولات [على المعتدين المحتملين]. نواجه المنطق المنحرف مرة تلو المرة: نراه في العنف المتأرجح في رواندا (ولا نكاد نبذل جهداً لكسر أنشوطة الشر)، نراه يغطي ذلك الجزء من أوروبا الذي كان يسمى يوغسلافيا، نراه في السودان، في الكونغو، في الصومال، في أنغولا، في سريلانكا، في أفغانستان ومواقع أخرى لا تحصى. ذلك الدرس المعاكس هو الذي يهمس به طيف الهولوكوست في آذان كثيرة. ولقد رفع بعض القادة الإسرائيليين الدرس إلى مرتبة سياسة رسمية للدولة، وأرفع حجج دبلوماسيتها. ولهذا السبب، لا، لسنا متأكدين مما إذا لم يكن ميراث الهولوكوست هو الباقي النقيض التام لما أمل كثيرون ولما توقع بعضهم: صحوة أخلاقية أو تطهر أخلاقي للعالم ككل، أو لأي جزء منه.
التركة الخبيثة للهولوست تتمثل اليوم في أن مضطهدي اليوم قد يوقعون آلاماً جديدة، ويخلقون أجيالاً جديدة من الضحايا يتلهفون بدورهم إلى فرصةٍ لفعل الشيء ذاته، هذا بينما يفعلون ما يفعلون وهم على اقتناع تام بأنهم إنما يثأرون لآلام الماضي ويبعدون آلام المستقبل، أي بينما هم مقتنعون بأن الأخلاق في صفهم. لعل هذه هي اللعنة الكبرى بين لعنات الهولوكست، والانتصار الأكبر من انتصارات هتلر الميت. تلك الحشود التي احتفت بمذبحة غولدشتاين ضد مُصلين مسلمين في مدينة الخليل المحتلة [شباط 1994]، أولئك الذين تجمعوا في مأتمه ومضوا في كتابة اسمه على راياتهم السياسية والدينية، هم الأشد إصابة باللعنة، لكنهم ليسوا حملتها الوحيدين. فهم يعتمدون على تعاطف ضمني، يحدث أن يكون عالي الصوت من قوى سياسية حاكمة. تريد هذه القوى إدامة واقعٍ يتوافق مع رؤية المظلومية الموروثة، وتبذل كل جهدها لإبقاء الواقع أسير هذه الرؤية. ومن شأن قنبلة أخرى أو انتفاضة أخرى أن تلبي هذه الحاجة تماماً. وفي صيغ أخف، لكن خبيثة بدورها، تنتشر لعنة الهولوكست على نطاق واسع، وتصيب قطاعاً كبيراً من الإسرائيليين الذي جرت تربيتهم على العيش في قلعة محاصرة.
في نهاية دراسته الرائدة عن حماسة كثير من الناس العاديين المنضمين إلى كتيبة البوليس الاحتياطية 101 لتنفيذ أوامر القتل، يتساءل كرستوفر ر. براوننغ: «إذا أمكن للمنضمين إلى الكتيبة 101 أن يصبحوا قتلة، فما الذي لا تقوم به مجموعة بشرية؟». وخلافاً لطالبه اللاحق دانيال جوناه غولدهاجن، الذي عمل على أطروحة الدكتوراه تحت إشراف برواننغ، كان الأخير منذهلاً، بل مرتاعاً، من واقعة أن أناساً عاديين، مثل جميعنا، يمكن أن ينقلبوا إلى قتلة إن واتت الظروف. ولم يلتمس براوننغ عزاءً من فكرة أن معادي السامية هم المستأثرون بهذا التجسد الإعجازي لآلهة القتل، وأنه يكفي أن يكون المرء غير معاد للسامية حتى يكون حائزاً على الترياق المانع من المشاركة في جريمة قتل جمعية.
في إطار تقليب النظر في التاريخ المسموم لما بعد الهولوكست، تساءل باحثان إسرائيليان، أرييلا أزولاي وأدي أوفير، ماذا تعني «نحن» في اللغة السياسية الإسرائيلية اليوم. كتبا:
نحن آخر مكان في أوروبا حيث الماضي النازي لا يزال مُجزياً، وهذا لأن الدولة حولت تدمير اليهود الأوروبيين إلى ملكية وطنية [خاصة]، إلى رأسمال رمزي… نحن موقع التجارب التي تختبر قابلية التعميم العالمية universalizability للشر، هذا بالنظر إلى أن مبدأ قابلية التعميم العالمية هو من التركة الأوروبية، وممارسات إنتاج الشر مستوردة من أوروبا محددة لم تعد على قيد الوجود. الفرضية التي يتعين إثباتها (ولما تدحض بعد) هي: «يمكن للواقعة [الهولوكست] أن تقع لأي كان»، وضحايا الأمس يمكن أن يكونوا مرتكبي اليوم. يمكن لأي شخص أن يجد نفسه مشاركاً في كراهية «الآخر» أو إذلاله أو قمعه، في التمييز العنصري، في التطهير العرقي لأحياء ومدن، وقد ينتهي الأمر بأيٍ كان لأن يتعاون مع نظام ينتج الشر ويوزعه منهجياً.
«المظلومية الوراثية» هي الوسيلة النفسية-الاجتماعية الرئيسية الموظفة في خدمة الإنتاج والتوزيع المنهجي للشر. على المرء أن يحاذر الخلط بين ظاهرة المظلومية الوراثية والقرابة الوراثية أو التراث العائلي المحفوظ من خلال التأثير الوالدي على تكوين الأولاد التربوي. الوراثة في المظلومية الوراثية متخيلة، تفعل فعلها عبر الإنتاج الجمعي للذاكرة وعبر أفعال فردية من الانضمام والتماهي. ولذلك فإن حالة «أبناء الهولوكست»، أي الضحايا الوراثيين، مفتوحة لكل يهودي، أيا يكن ما كان يفعل أبواها أو أبواه في الحرب [العالمية الثانية، وقت وقوع الهولوكوست]، وأياً يكن ما وقع لهما في الحرب.
أنجز أطباء نفسيون دراسات عديدة حول الأبناء البيولوجيين لمن كانوا نزلاء في معسكرات الاعتقال أو مقيمين في الغيتوات (و/أو حول المتربين على أيديهم)، لكن مما لا يزال بانتظار دراسة شاملة هو العدد المتضخم لـ «أبناء وبنات الهولوكوست» ممن لم يكونوا أطفالاً لأي منهما [لا لمعتقلين سابقين، ولا لمقيمين في الغيتوات المعزولة]. هناك مع ذلك دلائل كثيرة على ما يمكن لدراسة كهذه أن تكشف. قد تكشف أن مُركّبات [نفسية] لأولئك «الأولاد المتخيلين» للهولوكوست، الأولاد الذين عينوا أنفسهم بأنفسهم أولاداً للهولوكوست (وهم بالتالي «أولاد ناقصون»)، ليست أقل قسوة وشراً، ولعلهم محملون بعواقب أشد شؤماً من أولئك الذي وصفهم الأطباء النفسيون حتى اليوم. قد يقول المرء: هذا معقول (أياً يكن ما يعنيه العقل في عالمنا الممسوس بذكرى الهولوكوست). فالموقع الذي يشغله الأولاد الناقصون في العالم، الموقع الذي يرون منه العالم والموقع الذي يريدون أن يراهم فيه العالم، هو عالم الاستشهاد. لكن في واقع الأمر هم ليسوا اليوم، ولم يكونوا يوماً، مستهدفين بحنق أي كان أو للإيذاء من أي كان. يبدو العالم متفادياً لإيذائهم والتسبب بأي معاناة لهم، وفي الظروف الحالية هذا عالم لا يكاد حتى يُحلم به، بالنظر إلى أن واقعية عالمٍ لا يؤذي تعني لاواقعية الحياة التي تستمد معناها مما يلحق بها من أذى، ومن الأذى الذي سيقع لاحقاً.
العيش في عالم غير عدائي وغير مؤذ، لا بل في عالم مضياف ومريح، يعني [لهؤلاء الأولاد الناقصين] خيانة السلالة المانحة للمعنى. كي يبلغوا الكمال، كي يحققوا مصيرهم، كي يتخلصوا من نقصهم الراهن، وكي يمحوا صفة النقص من مكانة ذريتهم وورثتهم، عليهم أن يعيدوا صوغ الاستمرارية المتخيلة لمظلوميتهم بما يجعل منها استمرارية فعلية للظلم في «العالم القائم هناك» [في ألمانيا النازية]. وهذا يتحقق فقط عبر التصرف كما لو أن موقعهم الحالي في العالم هو حقاً وفعلاً موقع الضحايا، وعبر التمسك باستراتيجية لا تكون معقولة إلا في عالم من الاضطهاد والظلم. لا يكتمل الأولاد الناقصون إلا إذا أظهر العالم الذي يعيشون فيه العداء لهم، إلا إذا تآمر ضدهم، بل إلا إذا احتوى إمكانية هولوكوست آخر.
الحقيقة المريعة هي أن الأولاد الناقصين، خلافاً لما يقولون ولما يظنون أنهم يتمنونه، غير مؤهلين للعيش في عالم لا إمكانية فيه للهولوكوست، وأنهم يشعرون بأنفسهم غرباء في عالم كهذا. يشعرون براحة أكبر في عالم يشبه ذلك العالم الذي يسكنه قتلة كارهون لليهود، لن يقصروا في إلحاقهم [إلحاق الأولاد الناقصين] بالضحايا لو تعاضدت أيدي هؤلاء القتلة المخضبة بالدم. وهم يستخلصون عبرة مانحة للمعنى من كل علامة عداء ضدهم، ويتملكهم توق إلى تأويل كل حركة يأتيها من حولهم باعتبارها تعبيراً صريحاً أو كامناً لذلك العداء (قال عنوان مقالة تعرض دراسة حديثة تفيد بزوال معاداة السامية في الولايات المتحدة كلَّ ما هو مهم: هل يقبل اليهود بذلك؟ العرض نشر في مجلة Tikkun، اليهودية نصف الشهرية). المفارقة الرهيبة في كونك مظلوماً وراثياً تتمثل في أنك تطور مصلحة قوية بعدائية العالم، في تحريضك عدائية العالم، وحرصك على بقاء العالم عدائياً. تكاد تسمع تنهيدة ارتياح بعض القادة السياسيين في البلد [إسرائيل]، وكذلك صوت تنفس الصعداء من قبل ألوف مؤلفة من الرجال والنساء الذين صوتوا لهم، حيثما زرع ضحاياهم الذين بلغوا أقصى الطاقة من التحمل قنبلة إرهابية.
لا يعيش الأولاد الناقصون من أبناء الشهداء في بيوت، يعيشون في قلاع. ومن أجل أن تكون بيوتهم قلاعاً، فلا بد من أن تحاصر وتكون تحت النار. إذ أين يدنو المرء من أحلامه أكثر مما حين يكون بين الفلسطينيين المُجوّعين المملقين، اليائسين والمستميتين، قاذفي اللعنات والأحجار… هنا [في فلسطين]، تُغايرُ البيوتُ المريحةُ والفسيحة، المزودةُ بكل ما يسهل الحياة من مستحدثات تكنولوجية، البيوتَ التي تركها الأولاد الناقصون، تلك البيوت المريحة الفسيحة، المزودة بالمستحدثات نفسها هناك، [لكن] المتعفنة والمملة، في مدن أميركية آمنة جداً ومريحة، يُلزَم الأولاد فيها بأن يبقوا كما هم، أولاداً ناقصين. هنا يمكن تسوير البيوت بأسلاك شائكة، يمكن بناء أبراج مراقبة في كل زاوية، ويمكن للمرء أن يمشي متكبراً من منزل إلى آخر، وهو يداعب البندقية التي تتدلى من كتفه. العالم العدائي، المتصيد لليهود، دفعهم يوماً إلى الغيتوات. وعبر جعل الوطن شبيهاً بغيتو (وإن يكن مسلحاً أثقل السلاح هذه المرة)، يمكن جعل العالم عدائياً ومتصيداً لليهود. وأخيراً، وبعد طول عناء في هذا العالم الناقص حقاً وتماماً، لن يكون الأولاد الناقصون ناقصين. وفرصة الاستشهاد التي ضاعت على جيلهم، يسترجعها ممثلوهم المختارون، الذين يريدون أيضاً أن يُعتبروا الناطقين الرسميين باسمهم.
كيفما نظرت إلى هذا الواقع، لاح لك شبح الهولوكست متجدداً ومتكاثراً. لقد جعل من نفسه حاجة لا غنى عنها لكثيرين بحيث يمتنع عليهم التعوذ منه. البيوت المسكونة بالشبح اكتسبت وحازت قيمة، واستحواذ الشبح على كثيرين تحول إلى صيغة حياة قيّمة وواهبة للمعنى. في هذا يرصد المرء أعظم انتصار لمصممي الحل النهائي Endlosung [بالألمانية في النص]. وما أخفق هتلر وأتباعه في تحقيقه في حياتهم، الأمل باق في أن يتحقق لهم بعد موتهم. لم ينجحوا في قلب العالم ضد اليهود، لكن يمكن لهم في قبورهم أن يستمروا في الحلم بقلب اليهود ضد العالم، وهو ما يجعل التصالح اليهودي مع العالم، بصورة أو بأخرى، ومعه التعايش السلمي مع العالم، صعباً كل الصعوبة، إن لم يكن مستحيلاً كل الاستحالة. ليست نبوءات الهولوكست ذاتية التحقق تماماً، لكنها بالفعل تحقق (أو تنقل إلى مجال المعقولية) تصوراً للعالم لا يكف الهولكوست فيه عن أن يكون نبوءة مؤذية، لها عواقب جسدية وثقافية وسياسية، لا بد أن ينجبها تنبؤ مثله، وأن يعممها.