تم الإعلان في تاريخ 9/7/2017 عن هدنة في جنوب غربي سوريا، تضمنت تجميد القصف والغارات على مناطق المعارضة، بهدف الوصول لاحقاً إلى مناطق لخفض التصعيد هناك. وحتى لحظة كتابة هذا المقال، لا يزال الغموض يلف تفاصيل الهدنة، ولا تزال آليات تطبيقها غير واضحة. وقد أثارت العديد من التساؤلات عن مدى صدقيتها ونجاعتها في فتح الطريق أمام حل سياسي، وعن إمكانية اعتبارها بداية النهاية لصراع ومعارك درات رحاها على مدار أكثر من ست سنوات.

لكن قبل الحديث عن خطوط الهدنة العريضة، والخوض في إشكالياتها ومعرفة مدى الرضى عنها، ومدى تقبل المدنيين والعسكريين المتواجدين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام لها، لا بدَّ من استعراض حدثين هامين كان لهما صدىً ووقعٌ كبير في المنطقة المستهدفة بالهدنة قبل الإعلان عنها: وثيقة عهد حوران، ومعركة الموت ولا المذلة.

وثيقة عهد حوران

انتشرت في أواخر عام 2016، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي بدايةً، تسريباتٌ عن عدة اجتماعات ضمت وجهاء وشخصيات سياسية وأكاديمية واقتصادية، وضباطاً منشقين وقادة ألوية من درعا، وأسفرت تلك الاجتماعات عن إصدار ما سُميَّ «وثيقة عهد حوران».

يقول المحامي «س. الرفاعي»: «وثيقة عهد حوران هي أقرب إلى المشروع الانفصالي، وربما تكون خطوة نحو التقسيم أو إقامة حكم فيدرالي، لأنه بالرغم من أن من بين أهدافها المعلنة الحفاظُ على وحدة سوريا أرضاً وشعباً، إلا أن الوثيقة تحدثت عن تفصيلات تتعلق بالأفراد وحدود حرياتهم، والتعليم والقضاء والملكية، وتحدثت عن وجود مجالس وهيئات تنفيذية وتشريعية، وهذا أقرب إلى وضع تنظيمٍ أو دستورٍ لدولة مستقلة».

ومن وجهة نظره فإن الوثيقة كانت «محاولة لجس النبض، ومعرفة مدى تقبل الشارع لها، أو للمحافظة على المكاسب الحالية تخوفاً من أن يُكتَب للجنوب سيناريو مشابه لسيناريوهات حلب والمناطق الأخرى التي أقلّت مسلحيها وأهلها الباصات الخضراء».

معركة الموت ولا المذلة

أعلنت غرفة عمليات البنيان المرصوص في 12/2/2017 إطلاق معركةٍ حملت اسم «الموت ولا المذلة»، وكانت غايتها السيطرة على حي المنشية في درعا وانتزاعه من قبضة النظام. ولم يؤدِ الإعلان عن تلك المعركة إلى شعورٍ بالتفاؤل لدى أغلب الناس، بل كان شعوراً بالخوف ناتجاً عن الحكم المسبق عليها بالفشل، خاصة عندما تقدم وسيطر جيش خالد بن الوليد المبايع لتنظيم الدولة الإسلامية على خمس قرى إضافية في حوض اليرموك بعد ما يقارب الأسبوع من بدء المعركة. لكن الأخبار التي بدأت تتوارد من أرض الميدان أعادت الشعور بالتفاؤل ورفعت المعنويات، وجعلت البعض يؤمنون بأن السيطرة على كامل مدينة درعا ليس وهماً أو حلماً غير قابل للتحقق.

يقول أحد الناشطين الإعلامين ممن تواجدوا في أرض المعركة: «تعد معركة الموت ولا المذلة من أفضل المعارك التي خاضتها فصائل درعا المسلحة على الإطلاق، نتيجة للمكاسب التي حققتها خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً. بين شهري نيسان وأيار استطاعت الفصائل السيطرة على ما يقارب 70% من حي المنشية، وكبدت النظام خسائر كبيرة في الأرواح، إذ سقط حوالي 300 قتيل و500 جريح بينهم ضباط وصف ضباط، بالإضافة لقتلى من مليشيات إيرانية ومليشيات تابعة لحزب الله، الأمر الذي يفسر الرد العنيف جداً للنظام وحلفائه، واستخدامهم لكثافة نارية شديدة لم تشهدها درعا منذ بداية الثورة. وقد وثّقَ تجمع أحرار حوران إحصائية شاملة للبراميل المتفجرة والغارات الجوية وصواريخ الفيل خلال شهر حزيران فقط، بلغ فيها عدد البراميل المتفجرة 1190 برميل، وعدد الغارات الجوية 353 غارة، وعدد صواريخ الفيل 876 صاروخ».

واصلت الفصائل تقدمها في حي المنشية خلال شهر حزيران وبدايات تموز، وسيطرت على 90% من حي المنشية، ولم يعد يفصلها عن حي سجنة والضاحية سوى بضعة كيلو مترات، وعندها اشتدت الغارات الجوية، وارتكب الطيران الحربي الروسي والطيران المروحي مجازر بحق المدنيين، في طفس وداعل ونصيب وأم المياذن بريف درعا، وأحياء درعا البلد وطريق السد في درعا المدينة، راح ضحيتها أطفال وعائلات بأكملها. كما قصف الطيران معبر نصيب عشرات المرات، وتسبب بدمار هائل في المنازل في حي المنشية ودرعا البلد، واستخدم قنابل النابالم الحارقة، حتى أنه نزح نحو 95% من أهالي درعا البلد وقرية النعيمة المجاورة لها إلى القرى والبلدات والسهول المجاورة.

حاولت قوات النظام قطع الطريق الحربي الواصل بين ريفي درعا الشرقي والغربي، الخاضع لسيطرة الفصائل، إلا أن الأخيرة تمكنت من إفشال المحاولة، بل والتقدم وزيادة تحصينها باستيلائها على كتيبة الصواريخ المطلة على الطريق الحربي.

 

كانت تلك مقدمات أساسية لا بد من أخذها في الاعتبار، قبل الحديث عن تفاصيل وإشكالات هدنة تموز والاتفاق الثلاثي في الجنوب.

الخطوط العريضة لاتفاق الهدنة

جاءت هذه الهدنة نتيجة اتفاق ثلاثي (روسي- أمريكي- أردني) أصلاً، لم يكن النظام ولا فصائل المعارضة أطرفاً مباشرةً فيه، كما أنه لم تتم إعلان بنوده بشكل رسمي أبداً، لكن أبرز الخطوط العريضة التي تداولتها وسائل الإعلام عبر تقارير صحفية وتسريبات: تحديد عمق المناطق الآمنة التي سيشملها خفض التصعيد بدءً من الحدود الأردنية، فتح معبر نصيب وعودة تبادل تجاري، عودة اللاجئين والمهجرين، أن تكون الإدارة لمجالس محلية منتخبة، تقديم المساعدات الإنسانية والطبية، بالإضافة إلى محاربة التنظيمات الإرهابية.

الأمر الوحيد الذي تمت ملاحظته على أرض الواقع من بين كل تلك الخطوط، هو وقف العمليات القتالية بين قوات النظام والقوات الحليفة له من جانب، وقوات فصائل الجيش الحر والفصائل الإسلامية من جانب آخر، وتوقف سلاح الجو عن قصف مناطق المعارضة. ويؤكد لنا أبو البراء، وهو أحد عناصر الجيش الحر الذين شاركوا في معارك المنشية، أنه «طُلِبَ منا وفي اليوم الذي تلا إعلان الهدنة مباشرةً العودة إلى منازلنا ومقراتنا حتى إشعار آخر، وكذلك سحب عدد من الآليات الثقيلة».

إشكاليات الهدنة وتساؤلات عن آليات تطبيقها

لا تزال الهدنة في بدايتها، واحتمال نقضها أمرٌ قائم، وبالفعل وقعت خروقات متفرقة على أكثر من جبهة، ولعل أبرز الإشكاليات والمسائل الخلافية التي لا تزال كيفية التعامل معها مبهمة تماماً:

الرقابة على وقف إطلاق النار

تم تسجيل خرق للهدنة في اليوم الثاني لإعلانها من قبل النظام والمليشيات التابعة له، حيث تعرضت صيدا والغارية الشرقية ودرعا البلد لقصف براجمات الصواريخ، كما تعرضت اللجاة وكذلك قرية الصمدانية في القنيطرة للقصف أيضاً، وهو ما يؤكد أنه لا تزال مسألة الرقابة على وقف إطلاق النار غامضة حتى الآن، وأنه لا توجد جدية في تطبيقه أو معاقبة مخترقيه. علماً أن الجانب الروسي هو الضامن لالتزام النظام بالهدنة وفق الاتفاق الثلاثي، وثمة تقارير صحفية تتحدث عن بدء الشرطة العسكرية الروسية انتشارها لمراقبة وقف إطلاق النار، لكن فصائل المعارضة المسلحة تنظر إلى روسيا على أنها طرف في الصراع وليست ضامناً، فهي من تقوم بعمليات القصف الجوي، ويمكن اعتبارها قوة احتلال من وجهة نظر كثيرين.

المناطق الآمنة

يدور الحديث عن أن المناطق الآمنة تبدأ من الحدود الأردنية، في جيب عمقه 30 كم، وفي معلومات أخرى يقال إن المعارضة طالبت بأن يصل إلى 50 كم، مما سيعني ضمه لمناطق خاضعة لسيطرة النظام مثل إزرع وقرفا (مسقط رأس رستم غزالي). وتبقى التساؤلات: هل ستضم المناطق الآمنة قرى خربة غزالة ونامر والكتيبة وعتمان الواقعة تحت سيطرة النظام أيضاً؟ وهي قرى قريبة من مدينة درعا ومن الأوتوستراد الواصل بينها وبين دمشق، وخالية تماماً من سكانها منذ ما يقارب الأربع سنوات. ذلك بالإضافة إلى تساؤلات عن شمول الهدنة لمناطق في القنيطرة وقرى من محافظة السويداء.

معبر نصيب الحدودي

من ضمن ما تم تداوله عن الاتفاق، أنه سيتم فتح معبر نصيب الحدودي أمام إعادة التبادل التجاري بين سوريا والأردن، وأنه سيشرف على إدارته موظفون مدنيون. لكن الطرح الذي لقي رفضاً شعبياً صاخباً، ورفضاً من قبل فصائل الجيش الحر والفصائل الإسلامية، هو رفع علم النظام على المعبر كنصر رمزي له.

محاربة الجماعات الإرهابية

محاربة جيش خالد بن الوليد التابع لتنظيم الدولة الإسلامية أمرٌ مفروغٌ منه، فالجيش الحر يخوض المعارك ضده أصلاً قبل الاتفاق، لكن المشكلة في جبهة النصرة، لأنه في حال تم الإعلان عن محاربتها بشكل صريح، فإن المشكلة التي ستواجه فصائل الجيش الحر هي أن مقاتلي الجبهة لا يتمركزون في منطقة واحدة، وأن لها أذرعاً وجيوباً وفصائل منضوية تحت قيادتها ومؤيدة لها في مختلف مناطق درعا المحررة. كما أنها تسيطر على مواقع استراتيجية مثل تل الجابية بالريف الغربي، ولها حاضنة شعبية لا بأس بها، ولا سيما في قطاع الجيدور (نوى – إنخل – جاسم)، وقد عملت الجبهة ومنذ سنوات على استقطاب اليافعين والشباب الصغار وجذبهم نحوها من خلال إقامة دورات ومعسكرات تدريبية لهم، ولا ينكر الجيش الحر مشاركة الجبهة في معارك حاسمة ومفصلية، كمعركة المنشية مؤخراً، ومعارك مدينة البعث في القنيطرة.

آراء وملاحظات، وشائعات

منذ إعلانها كانت الهدنة موضوعاً دسماً للنقاش بين الناس، وقد تختلف الآراء وتنشط الإشاعات حولها، لكن هناك مسلمات يتفق عليها الجميع، أبرزها أن النظام وروسيا لا يؤمن طرفهما أبداً، وهناك مخاوف من أن تكون الهدنة مجرد خدعة ليستجمع فيها النظام وحلفاؤه قواهم، وفي الوقت نفسه يردد أغلب الناس عبارة: «يا ريت تخلص… بدنا نعيش».

المدرس «ع. الحاج علي» من قرية خربة غزالة يقول: «أرحب بالهدنة وبضرورة الوصول إلى حل سياسي، فأغلب الصراعات والحروب على مرّ التاريخ انتهت بالجلوس حول طاولة المفاوضات، وأنا شخصياً لا أعتقد أن رفع علم النظام على معبر نصيب هو المشكلة الأساسية، لأن المشكلات الكبرى والحقيقية ستظهر في حال استمرار الهدنة، وأستطيعُ أن أحصي بعضها. على سبيل المثال: مشاكل السلاح وإمكانية انتزاعه من المقاتلين، قدرة المناطق على استيعاب اللاجئين في حال عودتهم وسبل العيش الممكنة وتوافر العمل. وهناك مشاكل تتعلق بأسماء الشخصيات التي ستدير المجالس المحلية أو المؤقتة، ومدى نزاهتها وكفائتها وبُعدها عن القبلية والعشائرية، ولا أستبعدُ حصول تصفيات واغتيالات، وربما نزاعات مسلحة أيضاً بسبب هذا الأمر».

أما أسامة، وهو مقاتل في الجيش الحر عمره 20 سنة، فيقول: «لا يوجد هدنة، هي كذبة فقط. لم نقاتل لكي نتوقف دون الوصول إلى هدفنا. ثم ماذا سيحلّ بي في حال توقفت المعارك؟ ماذا سأفعل؟ أنا لا أحمل شهادة وليس بيدي صنعة أو مصدر رزق. أنا أنكر الهدنة وأنكر وجودها».

وبصرف النظر عمّا ستحمله الأيام القادمة، فإن ثمة أموراً تمت ملاحظتها قبل وبعد الهدنة، منها تهافت المنظمات الإنسانية والمدنية على أرياف درعا، وإعادة هيكلة بعضها وفتح مراكز جديدة لها في مناطق وقرى مختلفة في درعا والقنيطرة. وحدوث تغيرات في بعض المجالس المحلية، والحديث الدائم عن انتخابات جديدة لهذه المجالس. كما أن هناك حديثاً عن توحيد فصائل وكتائب الجنوب، ومبادرات لتأسيس جيش وطني موحد يضم جميع الفصائل، لم يبدأ تنفيذ أي منها حتى اللحظة على الأرض.

وبالتزامن مع الهدنة، سَرَت شائعات كثيرة بين السكان في ريف درعا، لعل أوسعها انتشاراً أنه ستتم إقامة مخيمات للاجئين العائدين من الأردن في قرية المتاعية القريبة من الحدود السورية الأردنية، وأن بعض المراكز في الأردن بدأت بتجهيز اللاجئين من خلال إعطائهم توجيهات في حال عودتهم إلى بلداتهم وقراهم.

 

على أي حال، هل هي هدنة طويلة الأمد أم أنها استراحة محاربين فقط؟ هل هي بداية للتقسيم؟ هل هي وليدة اللحظة أم أنها خطة موضوعة سلفاً؟ خيرٌ هي أم شر؟ لا يزال أهالي درعا ومقاتلوها بانتظار الأجوبة التي ستحملها الأيام والأحداث القادمة.