ظهيرة الثامن عشر من آذار عام 2011، وفيما كان آلافٌ من السوريين يتظاهرون في مدينة درعا هاتفين للحرية، لم يتخيل أحدٌ من هؤلاء أنّ قوات الأمن والجيش المنتشرة في درعا البلد ستفتح ناراً عشوائياً عليهم، وأن سقوط شهداء سيُعلن عن جريمة سيستمرُّ النظام في ارتكابها وممارستها بشكلٍ علنيٍّ فاضح أمام العالم. ستتدفق صور ومقاطع فيديو ستشكل مشهداً ساحراً عن الثورة السورية في بداياتها، ثم ستتحول هذه الصور وثيقةً تعكسُ وحشية النظام في قصف المدن وتعذيب وتشريد أهلها. نحنُ أمامَ سلسلةٍ من صورٍ تبدو ذات دلالةٍ مكثّفة، أحد جوانبها أنّ الضحية تُدين القاتل، لكن الجانب الآخر يبدو أكثر تعقيداً، ثمّة شُركاء في الجريمة، لا يقتصرون على النظام فقط.

في المسلسل الأمريكي «توين بيكس»، الذي أخرجه ديفيد لينش بموسمين بداية التسعينات، والذي أخرج منه مؤخراً موسماً ثالثاً بعد خمسة وعشرين عاماً، بالتزامن مع مرورِ ست سنوات على الثورة السورية، يبدو أن ثمّة صلة مشتركة بين الرؤية التي قدمها لينش في مسلسله وبين الأحداث التي تخللت الثورة. رؤيةٌ يطرحها لينش في محاولة فهم عوالم الجريمة الغامضة، والصلةُ الأكثر ارتباطاً بين العالمين «الخيالي/توين بيكس» و«الواقعي/الثورة السورية»، هي الإجابة على سؤال: من المسؤول والمتورط في الجريمة، وما هي دوافعه؟!

يتجه المحقق «كوبر» إلى «توين بيكس»، للكشف عن ملابسات جريمة وقعت في مدينة صغيرة على الحدود الأمريكية الكندية. مدينةٌ تقع وسط طبيعة بدائية ونائية، يعيش سكانها بسلام وسكينة. تسحر المدينة «كوبر» الذي ينجذب اهتمامه إلى جمالها وطبيعة سكانها الطيبة، وعلى الرغم من حَدسِهِ بأن قتل واغتصاب «لورا بالمر» جريمة غير عادية، إلا أنه يستغرب وقوع هذه الجريمة غير المألوفة في هذا المكان. يبدأ كوبر بالتحقيق للكشف عن مرتكبي الجريمة، إلا أن توين بيكس تُظهر وجهاً آخر للمحقق «كوبر».

تبدو سورية في مخيلتنا الجمعية، المخيلة التي جهدنا في تصديرها خلال السنوات الماضية عبر حنين دائم إلى زمن جميل لا ينتمي بصلة لواقع ما بعد سنة 2011، تبدو بلداً هادئاً آمناً يعيش فيه أناس بسطاء يمارسون حياتهم بأكثر الطرق سلاماً. شعب محب، مرحب بالغرباء، لديه عادات وتقاليد جميلة. لكن ثمة صورة أخرى كانت محجوبة في ذلك الحنين الذي نمارسه، صورة تختصر بلداً قُمِعَ على مدار عقود كاملة، تحلّل فيها المجتمع، ومورست عليه كل أساليب الترهيب. من كل ذلك يتبادر سؤالٌ إلى الذهن: كيف سمح السوريون باستمرار كل ذلك القمع والتنكيل؟ كيف مرَّ تسليم البلد من دكتاتور الى دكتاتور بسلام؟

يتتبع «كوبر» عدة قرائن وشهادات تدل على أن قاتل «لورا» شخصية غامضة تدعى «بوب»، يُشير إليها العديد من شخصيات المسلسل بطريقة غائمة. يصبح سؤال كوبر من هو «بوب»؟ يستعينُ بأحلامه وخيالاته وخبرته في ملاحقة هذه الشخصية الغرائبية السفاحة، بعد أن تتحول جريمة قتل «لورا» إلى جرائم متسلسلة تُرتَكَب بذكاء شديد. يكتشف كوبر أن «بوب» هو ذاته والد «لورا»، الذي يعترف في حالة إنهيار تراجيدية أنه اغتصب ابنته ثم قتلها. تبدو الجريمة عند هذه النقطة قد حُلَّت، لكن «كوبر» يكتشف أن هذا الحل ما هو إلا الوجه الظاهر للجريمة، وأن ثمة لغراً أعمق وأكبر يكتنفه مقتل لورا، وهو مرتبط بشخصية «بوب» التي تظهر في المسلسل على أنها التجسيد الحقيقي للشر، ثم يتحول سؤاله من هو «بوب» هذا؟!

منذ نهاية سنة 2012 كشفت الثورة وجهاً آخر عن سورية، عندما تحوَّلت الجريمة في سورية، من جريمة يقوم بها النظام متمثلاً برأسه بشار الأسد، إلى جريمة متسلسلة يضيع فيها وجه القاتل. ففي بداية الحراك المدني للثورة أُثيرت كثيرٌ من التساؤلات حول فساد ناشطين وارتباطهم بجهات خارجية، وبعضهم تحدث عن تعاون هؤلاء الناشطين مع النظام الذي استطاع ابتزازهم ثم تجنيدهم. انقلب الحراك المدني، ولأسباب كثيرة، إلى حراك مسلح اندرج فيه منشقون عن الجيش ممن رفضوا قتل المتظاهرين، لتنتقل الثورة إلى مسار آخر استطاع فيه المنضوون تحته أن يحرروا مساحة واسعة من سورية، حيث وصولوا الى حدود العاصمة دمشق. في ذلك التاريخ بدا أن سقوط النظام مسألة وقت، وأن المجرمين على موعد ليساقوا إلى المحاكمات، ولكن هذه الانتقالة سوف تزيد من العنف والدموية، وتحديداً مع تصدر الفصائل الاسلامية الواجهة، والتي مهدت لظهور داعش، بالتزامن مع فساد واسع للمعارضة السياسية والعديد من منظمات المجتمع المدني، بحيث سوف يبقى النقاش حول من هو المسؤل عن ذلك التحول، وما هي أوجه الصراع بالضبط، ومع من تتصارع؟  لتتوالى الاتهامات التي يكيلها كل طرف إلى الآخر حول مسؤليته عن هذا الخراب والدمار، ولنجد أنفسنا أمام سؤال آخر: هل إزاحة بشار الأسد ومحاكمته بالاضافة إلى المتورطين في المجازر، وهو أمر لا مجال لنقاشه، سيعني حلاً لهذه الجريمة؟

تُظهِرُ تحقيقات كوبر وعلاقته بشخصيات المسلسل وجهاً آخر لسكان «توين بيكس»، أبرزه الفساد الذي يكتنف كثيراً من الشخصيات التي تبحث عن مكاسب مادية، يتجلى ذلك في صراع حول أراضي كبيرة يحاول من خلالها «بين هورن»، وهو مالك فندق المدينة، أن يمتلكها ويستثمر فيها. لاحقاً نكتشف أن هنالك كثيراً من الجهات الخارجية التي ترتبط بهذا الصراع، الذي يحركه المال والرغبة بالسيطرة. ثم يدخل الفساد دائرة أصغر الشخصيات في المسلسل وأبسطها. حتى مشاعر الحب البريئة لا تنجو من الرغبات المشوهة، التي يكشف عنها مقتل «لورا». يتوه «كوبر» بين الخيال والواقع، ففي بحثه العميق حول «بوب» يصطدم بتاريخه الشخصي وتكوينه النفسي، ثم يصطدم بمحركات الرغبة الإنسانية التي قامت على تاريخ طويل من العنف. في هذا البحث يجد كوبر نفسه في منطقة غرائبية، يبدو أنها ترمز إلى أعماق كوبر وأحلامه المتصلة بعوالم أخرى موازية. هذه المنطقة التي جسدها لينش في واحدة من أجمل مشاهد اللاوعي والأحلام في السينما، والتي يختتم بها الموسم الثاني من المسلسل.

مع ظهور داعش وسيطرتها على مساحات واسعة من سورية، يبدو أننا دخلنا الجانب الأكثر غرابة في هذه السلسلة الطويلة من الجرائم المرتكبة منذ انطلاق الثورة السورية. وعلى الرغم من الإشارة إلى أيادي خارجية بما فيها النظام في التورط في خلقها، إلا أن كثيراً من السوريين انضموا تحت لواء داعش وساعدوا في إقامة دولتها، ذلك ما سيكشف جانباً آخر من العنف المتوارث في دواخلنا، والذي يحتاج تفسيره إلى البعد «التاريخي/الديني» والبعد «النفسي» للتركيبة السورية خلال العقود الماضية. أظهرت داعش خلال ذلك أقسى جوانب النفس الإنسانية وأكثرها غرابة وقتامة، حيث سنبدو أننا تائهون في مخاوفنا ومظلومياتنا، وإنكارها تارةً وموجهتها بمعارك طاحنة مدمرة تارةً أخرى.

بالتزامن مع العديد من المجازر والمعارك الطاحنة التي خاضتها مليشيات متعددة في سورية، كان ديفد لينش ينتج الموسم الثالث من مسلسل توين بيكس بعد خمس وعشرين عاماً، وكان الموسم الثاني قد انتهي بتقمص المحقق «كوبر» شخصيةَ «بوب»، وتحولهما شخصيةً واحدة. تبدو هذه النهاية الدرامية ذات بعد نفسي عميق، إذ أن الاقتراب من العنف ومحاولة فهمه ومواجهته يدفع إلى الغرق فيه. إنه ودون أن نشعر يتسلّل إلى دواخلنا، يتسرب كالماء الهادئ ليخلق فينا غضباً وخيبةً تجعل منا متوحشين دون أن نشعر. في الموسم الثالث من المسلسل ثمة شبيهان للمحقق كوبر، أحدهما ما زال غائباً في عالمه غير الواقعي، فيما شبيهه الآخر يستمر في ارتكاب الجرائم، تحركه قوة خارقة خفية تستطيع أن تتجاوز كل القوانين.

في النقاشات التي تُخاض على مختلف المستويات لمحاولة فهم ما حدث منذ بداية الثورة، تبدو الحقيقة ضائعة كلياً، ويبدو مشهد الثورة منذ ست سنوات كأنه مجرد خيال أو ذكرى بعيدة غائمة، أذ أننا أضعنا بالضبط الصورة الحقيقة والبوصلة لما حدث، ويبدو أننا جميعاً نتصارع مع صورة مختلفة كلياً لنا. صورة عن عالم من الممكن تغييره ضمن بواعث أخلاقية، فيما تحركنا صورة أخرى واقعية تحاول النجاة في عالم لا يحترم القانون، بل يشرع الفساد والقتل ويصدر الإرهاب بكل اشكاله. هذان النقيضان اللذان نحاول جمعهما في عالم غرائبي يشبه عالم «توين بيكس»، حيث يحاول لينش في موسمه الثالث تجاوز سؤال من قتل «لورا»، لتتحول فيه الجريمة الي شيئ كوني غرائبي تضيع فيه قصة القتلة والضحية، ولا تبدو فيه تفاصيل حياة الشخصيات مهمة. يتمازج فيه الحاضر والمستقبل مع الماضي، في سياق لا يرتبط بقصة محددة أو صورٍ ذات تأويلٍ واضح. إنها الجريمة والعنف فقط.

في رواية غسان كنفاني التي تحمل سؤال «توين بيكس» نفسه، الشيء الآخر «من قتل ليلى الحايك»، تدور الأحداث حول جريمة وقعت لليلى الحايك، فيُتَهَم بقتلها محامٍ محترفٌ بالقانون. يعترف المحامي لزوجته بأنه لم يقتل ليلي الحايك، ولكنه يقرر الصمت أمام المحكمة وعدم الدفاع عن نفسه، ويشرح لزوجته في رسالة عن أسباب صمته، فيقول في جزءٍ منها:

هذه قصتي كلها… إنها الجواب على هذه الأسئلة التي حيرت الجميع وحيرتكِ أنتِ خصوصاً، وحيرتني أنا. في البدء، أكثر من أي انسان آخر، لقد كان صمتي إعلاناً راعداً عن «شيء آخر» في حياتنا عشنا دائماً في معزل عنه، فإذا به فجأة أقوى ما في حياتنا. من الذي قتل ليلى الحايك إذاً؟ أجيبكِ ببساطة: شيءٌ آخر هو الذي قتل ليلى الحايك. شيءٌ لم يعرفه القانون ولا يريد أن يعرفه… شيءٌ موجودٌ فينا، فيكِ أنت، فيَّ أنا، وفي كل شيء أحاط بنا جميعاً منذ مولدنا. نعم أنا جزء من الجريمة، وأنتِ كذلك… ولكن الذي نفذ الجريمة هو وحش غامض ما زال وسيظل طليقاً.