«… لدى الكشف الطبي المعتاد الذي يجريه الجسم الطبي في الجيش بإشراف القضاء المختّص، تبين أن عدداً منهم يعاني مشاكل صحية مزمنة قد تفاعلت نتيجة الأحوال المناخية، وقد أُخضِعَ هؤلاء فور نقلهم للمعاينة الطبية في المستشفيات لمعالجتهم قبل بدء التحقيق معهم، لكن ظروفهم الصحية ساءت وأدّت إلى وفاة كل من السوريين…»

لم «يعذّب» نفسه الجيش اللبناني بصياغة عذر مقنع لتغطية حدث الوفاة أو القتل، مكتفياً ببيان مقتضب عن أحوال مناخية وأمراض مزمنة، يعيد إلى الذاكرة تبريرات الأنظمة الاستبدادية. وكان محقاً في اقتضابه. فأقنع التبرير «الأسدي» معظم الرأي العام اللبناني الذي واكبَ العذر الرديء من خلال حملة تضامن مع الجيش، فاحت منها رائحة الدم والعنف المكبوت. أمّا المعترضون أو المشككون القلّة، فكان مصيرهم التشهير والتهديد والسجن، و«لازم يتعبوا بسيارات وعالعدلية» حسب تصريح نائبٍ عونيٍ موتور. في لبنان المأزوم، لم يعد مقبولاً الاعتراض على حادثة التعذيب أو حتى السكوت عنها، بل أصبح مطلب المشاركة في عملية التعذيب وبيانها واجباً «وطنياً».

«… لدى الكشف الطبي المعتاد الذي يجريه الجسم الطبي في الجيش بإشراف القضاء المختّص، تبين أن عدداً منهم يعاني مشاكل صحية مزمنة قد تفاعلت نتيجة العنصرية المستجدّة، وقد أُخضِعَ هؤلاء فور نقلهم للمعاينة الطبية في المستشفيات لمعالجتهم قبل بدء التحقيق معهم، لكن ظروفهم الصحية ساءت وأدّت إلى وفاة كل من السوريين…»

التعذيب لم يكن وليد العملية العسكرية الأخيرة ومتطلباتها، كما أنّه ليس نتيجة عنصرية أزلية عند اللبنانيين. فكما أن للإرهاب «بيئة حاضنة» حسب أرباب الحرب عليه، فللتعذيب بيئة حاضنة أيضاً وسياق تاريخي وتراكم كره. فلهذه العنصرية المستجدّة تاريخ يبدأ عام 2012 مع تحوّل الواقع السياسي والأمني تجاه الثورة، كما كتبت ريان ماجدريان ماجد، موجة جديدة من الكراهية بحق اللاجئين السوريين بعد تفجيرات بلدة القاع اللبنانية‏، جريدة الحياة، 07/07/2017.. وكان بطل هذا التاريخ «الرجلُ القوي» في العهد الجديد، صهر الرئيس، الذي طالب باكراً «بترحيل النازحين» وأفكارهم «الغريبة والشريرة التي تأكلنا». آنذاك، كان باسيل وحيداً مع تياره في استعمال هذه اللغة، ولكنّ سرعان ما انتشرت لغّته، أولاً في الممارسات، قبل أن تصبح الخطاب الرسمي لحكومة العهد الجديد. فبدأت المخيمات تحترق، والأزمات المناخية تنقض على السوريين، «وذلك قبل بدء التحقيق معهم».

«… مع قيام العهد الجديد بإشراف القضاء المختّص، تبين أن عدداً منهم يعاني مشاكل صحية مزمنة قد تفاعلت نتيجة العنصرية المستجدّة، وقد أُخضِعَ هؤلاء فور نقلهم للمعاينة الطبية في المستشفيات لمعالجتهم قبل بدء التحقيق معهم، لكن ظروفهم الصحية ساءت وأدّت إلى وفاة كل من السوريين…»

تقاطعت «الكراهية» العونية مع الواقع «الحزب اللهي»، وشكّلا ميزة «العهد الجديد». قبضةُ حزب الله الأمنية في الداخل اللبناني تتلطّى بخطاب عوني، ليصبح التعذيب هو الممارسة الأكثر تمثيليةً لفائض القوة والاستياء اللذين يمثّلان هذا التقاطع. نجح العهد بتحويل العنصرية تجاه اللاجئ إلى نقطة ارتكاز التحالف الحاكم، فالعنف شبه اليومي تجاه السوريين هو المنفذ الأخير للعنف المكبوت بين الطوائف اللبنانية جراء انسداد قنوات الصراع الداخلي. وهذا ما يجعل الالتحام مع الجيش، كما تطالب به أبواق العهد الجديد، واجباً ليس بالرغم من التعذيب، بل لأنّه عَذَّب. فعنف الجيش أو حتى تعذيبه مطلوب لامتصاص فائض العنف الكامن في المجتمع، والمشاركةُ فيه هي اختبار الدخول إلى جنة العهد الجديد.

«… مع قيام العهد الجديد بإشراف القضاء المختّص، تبين أن عدداً منهم يعاني مشاكل صحية مزمنة قد تفاعلت نتيجة العنصرية المستجدّة، وقد تحوّلَ هؤلاء إلى كبش فداء، فساءت ظروفهم الصحية وأدّت إلى وفاة كل من السوريين…»

على من عارضَ النظام البعثي في الماضي أن يشارك في العنف، وإن كان دوره ثانوياً، ليبرهن عن ولائه للعهد الجديد. وهذا ما حصل مع الحريري، الذي تم «توبيخه» من قبل جريدة الممانعة لعدم دعمه عملية «تحرير» جرود عرسال، فتراجعَ وقدّمَ الدعم للجيش مصرحاً: «أن التشكيك في التحقيق الذي تقوم به قيادة الجيش أمرٌ مرفوضٌ أيضاً»الحريري: ممنوع على الجيش تحرير الجرود، جريدة الأخبار، 10/07/2017. رئيس الحكومة يتراجع: كلّ الدعم للجيش، جريدة الأخبار، 11/07/2017.. وهناك اختباراتٌ قادمة من مظاهرات ومعارك، سيتبعها قمعٌ داخلي واختيارٌ لمن يحق له البقاء في العهد الجديد. فالخيار المتاح اليوم هو إما أن تكون الجلاد، أو أن تُعامَلَ كالنازحين. ليس من خيار آخر متاح.

«… مع قيام العهد الجديد بما يشبه الانقلاب العسكري، تبين أن عدداً منهم يعاني مشاكل صحية مزمنة قد تفاعلت نتيجة العنصرية المستجدّة، وقد تحوّلَ هؤلاء إلى كبش فداء، فساءت ظروفهم الصحية وأدّت إلى وفاة كل من السوريين…»

ليس من ترحيلٍ يمكن أن يضع حداً لهذه المعادلة الجديدة، وليس الترحيل ما هو مطلوب أصلاً. فكما أشار حازم الأمين: «إعادتهم إلى سورية تعني للنظام ولـ «حزب الله» أن السنّة الذين تخلّصت منهم «سورية المفيدة» قد عادوا، واللاجئون هم البيئة التي انتفضت على النظام، والأخير لن يأمَنَ لهم بعد اليوم»حازم الأمين، «المستقبل» رفَعَ الغطاء… فدَهمَ الجيش المخيم وقضى نازحون في السجن ‏، جريدة الحياة، 09/07/2017.. كما أنّ المطلوب ليس مجرّد إعادة التواصل الرسمي مع النظام البعثي والتنسيق الأمني معه، والعودة عن القطيعة التي نجحت أحداث 2005 بفرضها بين الحكومتين. المطلوب هو انضمامُ لبنان إلى معادلة الجلاد والنازحين التي تمتدّ من الموصل إلى بيروت، وتحوُّلُه إلى طرف في الصراع الأهلي في المنطقة. وفي هذا التحوّل، بات الجيش اللبناني هو المكلّف بقمع المعارضة الداخلية، بينما حزب الله والطيران البعثي يقومان بالمعارك. لبنان يشهد حالياً ما يشبه الانقلاب العسكري، يقوم به العهد الجديد للقضاء على أية إمكانية اعتراض داخلي.

«… تبين أن عدداً منهم يعاني مشاكل صحية مزمنة قد تفاعلت نتيجة العنصرية المستجدّة، وقد تحوّلَ هؤلاء إلى كبش فداء، فساءت ظروفهم الصحية وأدّت إلى وفاة كل من السوريين…»

حاول البعض الاعتراض من داخل المنظومة القانونية القائمة، مطالبين الجيش بتحقيق بحدث الوفاة. وتمّ تبرير هذا المطلب انطلاقاً من مصلحة الجيش نفسه، فالتعذيب «غير المبرّر» يؤدي إلى تطرف، قال البعض، والهمجية تضرب هيبة الجيش، أكّد البعض الآخر، والعنف يُضعف الثقة بالجيش، تمتم القانونيون. فالمطلوب تحقيقٌ يمنع تكرار هكذا تصرف في المستقبل. لم يتأخر الجيش بالرد على هذه المطالب. فكما صرَّحَت مصادر عسكرية، الجيش «مستعدٌ للردّ على استفسار أي جهة دولية» (وهي الجهات الممولة)، ولكنّه غير معني بمطالبات بعض الناشطين المحليين. وإذا كان هناك من إمكانية لبداية تحقيق، فمخابرات الجيش حاضرة لتصادر «عينات تشريح موقوفي عرسال». وإذا كان هذا لا يكفي، فهناك مظاهرات يمكن تنظيمها لتبرير أي وقوع مستقبلي. قد يكون مطلب «التحقيق» أكثر المطالب جرأة في ظل هذا العهد، ولكّنه غير كافٍ في غياب سياسة تحيط به. وتجربة لبنان مع لجان التحقيق والمحاكم الدولية غير مشجعة، كما تُظهر صورة الحكم الحالي. القانون خارج سياق سياسي غير قادر على الاعتراض على سياسة خارجة على القانون.

«… تبين أنهم مجرّد نازحين، فساءت ظروفهم الصحية وأدّت إلى وفاة كل من السوريين…»

بهذا المعنى، الاعتراض على التعذيب لن يجدي طالما بقي حقوقياً ولم يتحوّل إلى معارضة للعهد الجديد كمنظومة حكم ومشروع إقليمي. ربطَ الشهيد سمير قصير مصير لبنان وسورية بعبارته الشهيرة «ديموقراطية سورية واستقلال لبنان». قد لا تصلح تلك المفردات للحاضر، وربّما بات الأصح قلبُها، أي ربط استقلال سورية بديموقراطية لبنان. ولكن كيفما قلبنا التوصيفات، يبقى الرابط موجوداً. وفي غياب أي تسييس لهذا الرابط، تتحوّل المسألة إلى سؤال أخلاقي بحت، مرتبط برفض أقليةٍ العيشَ في ظل نظام يُعذِّب.

سقطَ اللاجئون في الفجوة التي خلفتها الثورة السورية، ليتحولوا من ثوار إلى لاجئين ومن ثمّ إلى نازحين، وبالتالي إلى كائنات خارجة عن السياسة وخاضعة لمعايير حسن الضيافة. وفي ظل الفراغ السياسي، غالباً ما يتدهور النقاش عن التضامن إلى صراعات داخلية حول لياقات الضيافة، هذا عندما لا ينحدر إلى عنصريات وتعميمات طائفية.

«… فساءت ظروفهم الصحية وأدّت إلى وفاة كل من السوريين…»

بيدَ أن صفة «النازحين» لم تعد استثناءً خارجاً عن السياسة في منطقة تشهد بعضاً من أكبر عمليات اللجوء والنزوح ونقل السكان. ما حدث في بيروت قد لا يختلف عما يحدث في سورية أو العراق، وقد يكون ميزة النظام الإقليمي الصاعد. فربّما الثورة كانت «سورية» في انطلاقها، غير أن «الثورة المضادة» التي قضت عليها كان طابعها إقليمياً، وتتحرك على إيقاع آلاف العناصر الذين يمتدون من الموصل إلى بيروت، تحت شعارات مختلفة من «حشد شعبي» إلى «عهد جديد» مروراً بـ «سورية المفيدة». وبالرغم من إقليمية هذا النظام الصاعد، بقي المشروع الآخر، أي مشروع الثورات، محصوراً بحدوده الوطنية، ومخيلاته قائمة على حدود ودول وشعوب لم يعد يعترف بها إلا الثوار أنفسهم. وفي هذا السياق، شكّل انعدام التضامن بين الثورات (خارج مكونها الإسلامي) إحدى ميزاتها، أو بكلام أدّق إحدى أخطائها المميتة.

«… وفاة كل السوريين…»

لا عودة إلى مخيلات الثورات الوطنية، ولا إمكانية لمقاومة معادلة الجلاد والنازحين من خلال التمسّك بلياقات الاستقبال المحلية. خارج مشروعٍ لنبذ العنف الإقليمي، مستقبلنا سيكون مجرّد تعذيب وبيانات تبريرية ونزوح أكبر.

«… وفاة كل…»