تعيش العائلات في مناطق درعا الخارجة عن سيطرة النظام، التي لديها أبناء في عمر التقدم للشهادتين الإعدادية والثانوية، ظروفاً نفسية بالغة الصعوبة مطلع كل صيف، إذ يقطع الخوف أنفاسهم في كل مرة يذهب فيها أبناؤهم الى أحياء درعا الخاضعة لسيطرة النظام للتقدم للامتحانات الرسمية، ولا ينتهي هذا الخوف إلّا مع انقضاء فترة الامتحانات دون تعرّض أبنائهم للاعتقال.
عائلاتٌ أخرى فقدت نهائياً الأمل بحصول أبنائها على شهادات معترفٍ بها، ومن بينها عائلة «أبو العبد» النازحة من بلدة النعيمة، إحدى قرى وبلدات خط الجبهة. ويشعر أبو العبد بالأسف الشديد على المصير المجهول الذي آل إليه حال ولديه، إذ توقفَ ابنه البكر عن متابعة دراسته الجامعية، في حين خسرَ الثاني فرصة الحصول على الشهادة الثانوية، لأن أبو العبد وإخوته وأغلب أولاد عمومته مطلوبون للنظام، ما يجعله غير قادر على السماح لأبنائه بالذهاب إلى مناطق سيطرته للتقدم للامتحانات. ويرى أبو العبد أن الثورة لا تكون قد انتصرت إلا بتحقق أمرين: أولهما خروج كافة المعتقلين من سجون النظام، وثانيهما أن لا يرى أبداً ختم وزارة التربية السورية التابعة للنظام على وثائق وشهادات الطلاب.
هذان ملمحان من ملامح انهيار العملية التعليمية في مناطق درعا المحررة، ولكن ما هي أسباب هذا الانهيار وخلفياته؟ وما هي ملامحه الأخرى؟
هل هي عملية انهيار ممنهجة؟
يعتقد أبو أيهم، أستاذ مادة الرياضيات من قرية معربة، وهو مفصول من عمله منذ عام 2015، أن هناك عملية ممنهجة ومنظمة تهدف إلى جرّ التعليم والطلاب في مناطق درعا المحررة إلى حافة الانهيار. وهو يقول إنه «يشترك في هذه العملية عن قصد وعن غير قصد كل من النظام وحلفائه، والمعارضة المسلحة وغير المسلحة، الداخلية منها والخارجية، والدول الصديقة وغير الصديقة، والمنظمات الإنسانية والمدنية، وحتى الأهالي والمدرسون والطلاب أنفسهم!».
يثبت أبو أيهم اعتقاده فيقول: «ست سنوات من القصف، استخدمَ فيها النظام كافة أنواع الأسلحة، وأدت إلى إخراج العشرات من المدارس عن الخدمة، إما لأنها دُمّرت بشكل كامل، أو لأنها أصبحت مأوى للنازحين. وتلك التي لم يطلها القصف بشكل مباشر، تكسرت شبابيكها وأبوابها وتضعضعت جدرانها حتى أصبحت بحاجة للترميم والصيانة.
جميع المدارس لم تتم إعادة صيانتها أو تأهيلها منذ عام 2011، ولا يتوفر فيها الماء ولا الكهرباء وسبل التدفئة، مقاعدها وسبوراتها وكل أجهزتها وأدواتها اللازمة للعملية التعليمية قديمة ومهترئة، كما تعاني شُعَبُها من ارتفاع أعداد الطلاب في الشعبة الواحدة، خاصة في المدارس الابتدائية بسبب النزوح والتهجير.
هناك أيضاً نقصٌ حادٌ في كوادرها التعليمية، لا سيما المدرسون الذكور، فالنظام ألغى بطاقات الصرافات للكوادر التي تعمل في المناطق الخارجة عن سيطرته، وأصبح يسلّم رواتب المدرسين لأصحاب العلاقة فقط وفي مناطق نفوذه، الأمر الذي جعل العديد من المدرسين يفضلون عدم استلام رواتبهم خوفاً من الاعتقال، أو خوفاً من سحبهم للخدمة الاحتياطية في الجيش النظامي.
كذلك ترك قسم من المدرسين مهنة التدريس بسبب انخفاض مردوها المالي، ليجدوا عملاً آخر بمردود مالي أفضل، بالإضافة الى أن قسماً لا بأس به من الكوادر التعليمية هاجر خارج البلاد، خاصة من أولئك الذين هُجّروا من قراهم».
الأستاذ (ع)، مدرسٌ سابقٌ لمادة الفيزياء في المدارس الإعدادية والثانوية التابعة للنظام، ومسؤولٌ منذ سنة ونصف تقريباً عن المكتب التعليمي في أحد المجالس المحلية، يقول: «لا أستبعدُ أبداً خروج بعض المدارس الحكومية النظامية في درعا المحررة عن عملها في غضون عامين على أكثر تقدير إذا بقي الوضع على ما هو عليه، وذلك مردّه إلى أمرين اثنين، هذا إذا استثنيا الجانب الأمني.
الأول غياب الدعم المادي اللوجستي عن تلك المدارس من جانب النظام، ومحدوديته وقلته من قبل المعارضة السياسية والمجالس المحلية، فالأخيرة ذات إمكانيات مادية ضعيفة لا تستطيع سد النقص اللوجستي التعليمي الشديد. أما الأمر الثاني فهو عدم خضوع تلك المدارس للرقابة والإشراف والتوجيه والمتابعة، على صعيد كفاءة وكفاية الكوادر التدريسية، أو على صعيد مدى ارتفاع أو انخفاض المستوى العلمي للطلاب والتلاميذ، فالنظام بحكم خروج قرى وبلدات تلك المدارس عن سيطرته لم يعد مهتما بأمور الإشراف والرقابة عليها ومعرفة مدى نجاحها أو فشلها، والمعارضة السياسية لم تقدر على انتزاع الاعترافات الدولية بها ككيان بديل للنظام، ما جعلها بعيدة عن أداء وظيفة الاشراف والتوجيه على تلك المدارس».
بدائل، ولكنها أقرب إلى فقاعات الصابون
هذا فيما يتعلق بالمدارس التي لا زالت تحت إشراف وزارة التربية التابعة للنظام في المناطق المحررة، لكن ثمة منظمات تعليمية بديلة، يعدد أسماء بعضها أبو أيهم: غصن الزيتون، أورانتيس، أضواء، بسمة، رابطة أهل حوران، وغيرها.
يصف أبو أيهم المدارس التي أحدثتها هذه المنظمات لأبناء الشهداء والمعتقلين، وغيرها من المراكز ودور الأنشطة التعليمية، بأنها فقاعات صابون! فهي من وجهة نظره ركزت بشكل أساسي على مسألة الدعم النفسي للطفل، ودورها كان غير كافٍ للنهوض بالعملية التعليمية من ناحية تقديم المعلومات للطلاب ومن ناحية عدم وجود منهاج خاص بها. وهو يرى أنها لم تستطع أن تكون بديلاً للنظام بسبب أمرين. الأول: يتعلق بمسألة استمراريتها واستدامتها، فوجودها مرهون بالدعم المالي المقدم لها، الذي سيؤدي توقفه إلى تفككها وإنهاء وجودها. والأمر الثاني: هو مسألة عدم قدرتها على منح شهاداتٍ مُعترفٍ بها دولياً، ولعل هذا هو السبب في أن أغلب مشاريعها استهدفت طلاب المرحلة الابتدائية.
ويشير أبو أيهم الى ملاحظة هامة جداً تتعلق بالمنظمات، وهي أن «أغلب المنظمات، بل جميعها، تدّرسُ المنهاج الرسمي (منهاج النظام)، وهي لا تسعى ضمنياً للحصول على تراخيص تمكنها من منح الشهادات للطلاب، خوفاً من استعداء النظام الذي قد يقصف منشأتها أو يلاحق كوادرها، إذ أن بعض كوادر المنظمات لا يزالون قائمين على رأس عملهم في مدارس النظام، ويذهبون إلى مناطق نفوذه لاستلام معاشاتهم».
ويتحدث أحد المسؤولين التعليميين في منظمة غصن الزيتون قائلاً: «تغطي روضات ومدارس منظمة غصن الزيتون الابتدائية ومراكزها الثقافية ومراكز الدعم النفسي للأطفال أغلب قرى وبلدات ريفي درعا الشرقي والغربي المحررين، بالإضافة لوجود فرق تعليمية جوالة تغطي مخيمات النازحين. ظهرت منظمة غصن الزيتون كغيرها من منظمات المجتمع المدني، رداً على الواقع المتردي الاجتماعي والنفسي والإنساني والتعليمي، وكضرورة وحاجة ملحة لمواجهة ظروف متدهورة فرضتها الحرب.
استهدفت غصن زيتون الجانب التعليمي والنفسي للأطفال في سن الروضة والمرحلة الابتدائية، مُحاوِلةً إنقاذ الآلاف منهم، بغض النظر عن خلفيات أهاليهم السياسية أو الدينية، من براثن الأميّة وتدني المستوى العلمي والمعرفي، خاصة النازحين منهم. وقد ركزت الغصن بشكل أساسي على ضرورة تقديم الدعم النفسي للطفل لإخراجه من أجواء الحرب، قبل أن يصل إلى مرحلة تتطلب العلاج النفسي التي يصعب معها إيجاد أجيال قابلة للتعلم.
وعملت غصن الزيتون على رفد الجانب العلمي الذي يتلقاه التلميذ في المدارس الحكومية النظامية، لكنها لم تستبدل في مدارسها المنهاج الحكومي النظامي بمنهاج آخر خاص بها، لأن هذا الأمر سيؤدي إلى تشتت وضياع المعلومات العلمية عند الأطفال، كما أن المرحلة الحالية لا تسمح بخطوة كهذه، لأن مناهج النظام لا يزال معترفاً بها رسمياً ودولياً، ثم لأن المنظمة ليس لديها أي توجهات أو أهداف سياسية، فهي لم تسعَ لتكون بديلاً عن أي كيان مؤسساتي يتبع للنظام أو المعارضة، وعملها وهدفها إنساني مدني بحت».
حكومة مؤقتة، وإجراءات مؤقتة ومحدودة
يرى أبو أيهم أن الحكومة المؤقتة ذات تمثيل وقرار سياسي ضعيف، سواء في الداخل أو الخارج، وبالتالي فإن كل ما ستقدمه أو تفعله على أي صعيد سيكون ضعيفاً ومؤقتاً كاسمها: «على صعيد التعليم في مناطق درعا المحررة، كان نصيب القرى والبلدات من المنشآت والمدارس التابعة للحكومة المؤقتة قليلاً وغير مدعوم مادياً مقارنة مع مناطق الشمال في سوريا، ولعل ذلك مردّه إلى الموقع الجغرافي، فمناطق الشمال ذات حدود شبه مفتوحة مع تركيا، في حين أن حدود مناطق درعا المحررة مع الأردن مغلقة بإحكام. وتعاني هذه المنشآت التعليمية من نقص في الأمور اللوجستية، كالقرطاسية والأثاث المدرسي والمستلزمات المساعدة، بالإضافة إلى نقص في كوادرها التدريسية، خاصة التخصصية كالرياضيات والفيزياء، وهي تستعين بطلاب جامعين لم يحصلوا على إجازتهم الجامعية بعد لسدّ النقص الحاصل في الكوادر، وهذه الكوادر غالباً كوادر تطوعية، فهم لا يحصلون على رواتب في أغلب الأحيان. مثلاً صديقي من بلدة جاسم يعمل مدرساً لمادة الرياضيات في إحدى مدارس الائتلاف بدون راتب، ويؤمن قوته عن طريق عمله كلحّام!».
لكن إذا تغاضينا عن كل تلك الأمور، فإن الاجحاف الأكبر بحق طلاب مدارس الحكومة المؤقتة هو عدم اعتراف أيٍ من الدول العربية والأجنبية، عدا تركيا، بالشهادتين الإعدادية والثانوية التي يحصلون عليها من تلك المدارس! علماً أن مدارس الحكومة المؤقتة تدرّس المنهاج الرسمي للنظام، مع تعديل مادة التربية الوطنية وكل ما يتعلق بحزب البعث والأسرة الحاكمة في سوريا.
عقبات بالجملة
لا يمكن القول إن هناك جوانب سلبية في العملية التعليمية في درعا المحررة فحسب، بل إن هناك عقبات كبرى، باتَ اجتيازها يتطلب سنوات وقوى اجتماعية وسياسية منظمة وقادرة على النهوض بالتعليم.
يتحدث أبو أيهم عن هذه العقبات: «المعارك الدائرة والهجرة والنزوح ونقص الكوادر واللوجستيات التعليمية والقصف المتواصل على مدار ست سنوات، أدى الى تعطيل المدارس لفترات طويلة، وإلى وصول نسبة دوام طلاب المدارس إلى 30% فقط من أيام الدوام الفعلي للمدرسة، فمثلاً عطلت مدارس قرى وبلدات ريف درعا الشرقي لمدة شهر تقريباً بسبب قصف النظام على تلك القرى والبلدات تزامناً مع المعارك الدائرة في حي المنشية بدرعا الربيع الماضي. وتكرار هذا الأمر أدى إلى وجود عدد كبير من الأطفال والمراهقين المتسربين من المدارس، والمتأخرين عن أقرانهم، والرافضين أحياناً لفكرة التعليم من أساسها!».
دفعت الظروف الاقتصادية المتمثلة بالفقر الشديد والسعي الدؤوب نحو لقمة العيش، والظروف الأمنية المتجلية بالخوف على الطلاب من الاعتقال، كثيراً من الأهالي لإخراج أبنائهم من المدارس وزجهم في سوق العمل، أو تزويج بناتهم قبل حصولهن على الشهادة الإعدادية أو الثانوية. ويتحدث أبو أيهم عن الطلاب اليافعين الذكور على وجه الخصوص: «الدول الصديقة لا تعترف بشهاداتهم التي يحصلون عليها من الحكومة المؤقتة، وحواجز النظام لهم بالمرصاد، وهم يعانون التهجير ووضعاً اقتصادياً سيئاً جداً، ومستقبلاً مبهماً، وهذا كله يدخلهم في متاهات تفضي محاولة الخروج منها إلى اللاشيء، أو إلى ساحات القتال والسلاح».
يقول الأستاذ (ع): «كان من مفرزات استمرار الصراع القائم ظهور كوارث تعليمية، من أهمها وأصعبها مسألة التسرب من المدارس، وفي جميع المراحل التعليمية، إذ يزداد عدد الطلاب المتسربين بسبب الظروف الأمنية والاقتصادية، كما أن كثيراً من النازحين لم يتمكنوا من تسجيل أبنائهم في مدارس القرى والبلدات التي نزحوا اليها، بسبب فقدان أوراقهم الثبوتية كدفاتر العائلة والهويات الشخصية، ناهيك عن ضياع الأضابير المدرسية للطلاب».
وهو يقول إن هناك مئات وربما آلاف المتسربين من المدارس في قرى ريف درعا الغربي بين عامي 2015 و2016، خاصة الذكور من طلاب المرحلتين الإعدادية والثانوية، وهو افتراضٌ غير مبني على أي إحصائيات، لكن يمكن استنتاجه من أنه في قرية الجيزة مثلاً كان هناك شعبة صف عاشر واحدة عام 2016، من أصل تسع شعب كانت في السنوات الأولى من الثورة.
يضيف الأستاذ (ع): «ثمة كارثة أخرى هي انخفاض المستوى المعرفي والتعليمي للتلاميذ في المرحلة الابتدائية، فقد نجد نسبة لا بأس بها منهم لا يعرفون حتى كتابة اسمهم! ولا يستطيعون إجراء أبسط العمليات الحسابية! ويتجلى انحدار المستوى التعليمي في المدارس الحكومية النظامية بصورة واضحة في المراحل الانتقالية (السابع – الثامن – العاشر – الحادي عشر)، إذ ليس هناك تدريس فعلي للمناهج ولا دوام نظامي للكوادر أو الطلاب، حتى أن الامتحانات غالباً ما تكون شكلية، وتأكلُ نارُ المدافئ أوراقَها الامتحانية، إن وجدت!».
يمكن رد ذلك كله طبعاً إلى حالة الفوضى والخراب التي نشرها النظام في المناطق الخارجة عن سيطرته بشكل عام، ولكن أيضاً إلى عدم وضع مسألة التعليم على سلّم أولويات المعارضة والدول الصديقة والمحافل والاجتماعات الدولية التي تُعقَد حول الوضع في سوريا، بحجة أن الاستقرار الأمني والحل سياسي في مناطق النزاع هو الأولوية حالياً.
الحصاد للبنادق
تقول إيمان ذات السابعة عشر عاماً من الشيخ مسكين، والحامل في شهرها الخامس: «منعني والدي من الحصول على الشهادة الثانوية، كي لا أكون ورقة ضغط عليه أو عقوبة قاتلة له في حال تم اعتقالي من قبل النظام، لأن اسم والدي معروفٌ للنظام، وهو مطلوبٌ لأفرعه الأمنية. أتمنى أن تنتهي الحرب وننتصر، كي لا يكون مصير ابنتي القادمة كمصيري».
راشد من طفس كان طالباً جامعياً يدرس الهندسة: «لم يعد في هذه البلاد أمل لأي شيء، الهجرة هي الحل الوحيد للحالة النفسية البائسة التي أشعرُ بها».
يقول أمجد المتكئ على بندقيته، من نوى مواليد 1999: «الشهادة التي أسعى للحصول عليها هي الموت في ساحات القتال والمعارك!».
أما وسيم، التلميذ في الصف الرابع، النازح من بلدة عتمان: «لا أحبُّ آنستي فهي تغيب كثيراً، وعندما تأتي تعطينا أربع دروس دفعة واحدة، ولا أحبّ المدرسة لأن دورات المياه فيها قذرة جداً ولا يوجد فيها ماء، وعندما أصل للصف التاسع سأترك الدراسة وأشكل كتيبة مع اصدقائي لأنتقم ممن قتلوا أخي!».
كانت نسبة التعليم، والجامعي على وجه الخصوص، مرتفعةً جداً في محافظة درعا قبل قيام الثورة، فهل يمكننا القول بعد هذ كله إن انهيار التعليم في درعا المحررة سيكون إصابةً دقيقةً لها في مقتل؟!