يفترض كاتب هذه السطور أنه ينتمي إلى جيل وسط بين جيلين من الكتاب، «العلمانيين» المنتجين السوريين، جيل الأساتذة، وهم ستينيون وما فوق، وجيل الشباب وهم أربعينيون فما دون. لكن هناك تداخلات شأن كل ما هو اجتماعي. ستحاول هذه المقالة الربط بين هذا التمايز الجيلي وبين تمايز أنماط إنتاج الأفكار. وأقصد بهذه تحديداً شيئين: أولهما مدى حضور المشهود من معاينات شخصية وتجارب مباشرة وخبرات حية في النتاجات المكتوبة، ويتصل الثاني بالمفاهيم المبتَكَرة أو المُعاد هيكلتها لتمثيل التجارب والخبرات. وسيُبنى تصور الجيل هنا حول مساحة تقاطع نمط الإنتاج الفكري مع العمر، وليس حول الاعتبارات العمرية وحدها. وفي الخلفية نتساءل عن العلاقة بين أنماط تمثيل المَشهود والمُعايَن وصِيَغ التمثيل السياسية، أو عن العلاقة بين المعرفة والسياسة عموماً.
جيل التاريخ
ينتمي إلى الجيل الأول أسماء مثل أدونيس وطيب تيزيني وبرهان غليون وعزيز العظمة وغيرهم، ومنهم الراحلان صادق جلال العظم وجورج طرابيشي. هناك كاتباتٌ معروفاتٌ من هذا الجيل أيضاً، لكن مساهماتهن ظلت في أغلبها مشدودة إلى قضايا الأدب والفن، مما لا تتناوله هذه المقالة.
ينحدر المذكورون من شرائح الطبقة الوسطى المتعلمة، المؤمنة بالتعليم كقناة للترقّي الشخصي والعام، ولمعظمهم تكوّنٌ أكاديمي، وعاش كثيرون منهم سنوات من أعمارهم خارج سورية، عقود في بعض الحالات.
في شبابهم اعتنق مثقفو هذا الجيل إيديولوجيات عمل أو تغيير كبيرة، مثل الماركسية أو القومية العربية أو القومية السورية، وحادوا عنها كثيراً أو قليلاً على مرّ العقود. يتعلق الأمر بنحو أربعين عاماًمن العمل في مجال الكتابة الفكرية، وهذا زمن طويل لا يتعذر ألا يُغيِّر الناس فيه أفكارهم فقط، وإنما ليس مرغوباً ولا هو بالأمر الطيب ألا يُغيروا ويبدِّلوا.
غير أن العلاقة بين أفكار جيل الأساتذة وواقع الحياة الاجتماعية في بلدهم قلما تغيرت، ولم تتجاوز إلا لماماً حدود الانطباع العام. التجارب الشخصية لا تجد طريقها إلى ما يُكتب، ليس حتماً لندرة ما هو دال منها، وإنما لترتيب داخلي للتفكير منقطع بقدر كبير عن التجارب ولا يُعنَى بها. إذ ليس بين الناس من هم بلا تجارب وخبرات يمكن أن تكون موضوع تفكّرٍ ونظر، لكن ربما تحضر تجاربنا كإشارات مجملة وتلميحات غير محددة، فلا توصّف ولا تُفصّل ولا تُربط بإطار زماني مكاني، أو بأوضاع شخصية وعامة. وقد يعود ضعف تمثيل التجارب في تفكيرنا إلى مفهوم للتفكير يُعلي من شأن ما نتعلمه في الكتب مثلاً على حساب ما نخبره في الحياة. هذا كان مهيمناً في تفكير جيل الأساتذة الذي هيمنت فكرة التقدم في تفكيره، وكانت تتضمن القراءة من «كتاب» سبق تأليفه والتعلم منه.
عند الجيل الأكبر من المفكرين السوريين لا نجد إلا نادراً صفحات أو حتى سطوراً تستعيد حدثاً شخصياً ذا دلالة عامة أو تصف تجربة مشتركة أو تشهد على وقائع وأحداث دالة، أو تتذكر مسار تعلم شخصي يمكن أن يكون جمعياً، أو تُمَوضِعُ خبرةً خاصةً في سياقٍ أكثر عمومية، أو تتبين أثراً لسياق عام على مسارات شخصية وخاصة.جيل الأساتذة، دون استثناء يُذكر، لم ينكبّوا على تجاربهم وخبراتهم وسيرهم تحليلاً ومساءلة، ولم يكتب أي منهم سيرة ذاتية.
تناولُ الأساتذة للشأن السوري كإطار تفكيرٍ وحياةٍ (وموت) تحسّنَ في السنوات المنقضية من هذا القرن، قبل ذلك كان أقرب إلى الصفر. لكن حتى بعد التحسن ظلت التجربة الحية، الشخصية وغير الشخصية، ضعيفة الحضور، والملاحظات الشخصية شحيحة. التفاصيل المأخوذة من مصادر سورية قليلةٌ جداً، والإحالة إلى أعمال سورية جديدة عارضةٌ جداً.
عن ماذا كان يدور الكلام، إذن، في كتب جيل أساتذتنا ومقالاتهم؟ قبل الثورات، عن الفكر والعقل والثقافة، عن العقلانية والعلمانية والحداثة، وعن الحركات الإسلامية وعن الأصولية، وعن الدولة والديمقراطية وثقافتها، وعن الاستبداد. في أزمنة أبكر كان الكلام يجري على التقدم والوحدة العربية وتحرير فلسطين والاشتراكية ومقاومة الإمبريالية.والمُحال إليه هو عموماً «الوطن العربي» أو «العالم الثالث» أو «البلدان النامية». بعد «ربيع دمشق»، وفي بعض الحالات بعد الثورة فقط، أمكن لبعض الأساتذة أن يذكروا سورية في مضامين كتبهم، وأن تحضر حتى في عناوينها.
في جذر هذا الوضع عنصرٌ مهمٌ قلّما حظي بالدرس. المثقف في سورية وفي معظم البلدان العربية، كان يتعرَّفُ بالثقافة العربية التي ينتمي لها ويعمل في إطارها، أكثر مما ببلد محدد ومشكلاته الاجتماعية والسياسية، وكيانه وتكوينه. إنه «مثقف عربي»، يُعبِّر عن نفسه أساساً باللغة العربية، وأكثر من ذلك تشغل قضايا العالم العربي أو «الوطن العربي» اهتمامه. كانت الفروق بين بلداننا العربية قليلة الاعتبار، والفروق بيننا وبين البلدان المتقدمة ليست مهولة كما تبدو اليوم. كان التقدم مسألة وقت. وبما أننا نتكلم على مثقفين بدأ تكونهم في ستينات القرن العشرين أو أبكر، أي وقت صعود القومية العربية والماركسية، فقد كانت المشكلات تحضر أمام الذهن مرتبطة بالوطن العربي ككل، أو بالبلدان التي كانت مستعمرة، ودوماً بشاغلٍ عملي موجه نحو الاستقلال ومقاومة الاستعمار والوحدة والاشتراكية والتقدم.
كان مُدرَك المثقف يحيل إلى ثقافة عابرة للدول أكثر مما إلى بيئات اجتماعية وسياسية دنيوية نعيش فيها. ولم يكد يظهر أن هناك تناقضاً بين الأمرين أصلاً، وبقدر ما أعلم لم يُثَر نقاشٌ قط حول هذه النقطة. عبدالله العروي اليوم مغربيٌ أساساً (وربما بقدر مبالغ فيه: يصف المغرب بأنه «جزيرة»)، وهو الذي لم يكن «مثقفاً عربياً» فقط، وإنما صانع مثقفين عرب، لكن لا يبدو أنه تناول هذا التحول. وهو ما ينطبق على المثقفين السوريين الذين يعرضون ميلاً سورياً أكثر بدورهم، دون نظر في العملية، ودون ما قام به المثقف المغربي المرموق من تنقيب في التاريخ الثقافي والاجتماعي والسياسي للمغرب (كتبه: تاريخ المغرب، الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية، المغرب والحسن االثاني، من ديوان السياسة).
من لهم تكوين «المثقف العربي» كانوا في عمومهم أقرب إلى النظام في سورية سياسياً. قد يعود ذلك إلى عقيدة قومية مشتركة، لكن في أساسه بنيةً واحدةً للتمثيل: تمثيل الواقع معرفياً وتمثيل السكان سياسياً. المواطنة المعرفية للوقائع في الفكر تنسخ بنية المواطنة السياسية للأفراد في السياسة. في هذا الشأن، أدونيس مثل حافظ الأسد، وتبخيرُ الشاعر لواقع حياةَ السوريين في مجردات أثيرية، له البنية ذاتها لتبخير دولة حافظ الأسد السوريينَ أنفسهم في عناوين أثيرية هو مرجع تعريفها (الثورة، التقدم والاشتراكية، القطر الصامد…). ليس كل جيل الأستاذة أثيريّون بقدر الشاعر المشهور، لكن تمثيل وقائع معاينة وتجارب وخبرات حية في فكر الأساتذة محدود، والتفكير فيه غائب.
العلاقة بين نمطي التمثيل ليست سببية ولا هي حتمية، لكن كان من شأن احترامٍ أكبرَ للمشهود والعياني أن يُتَرجَمَ نظراً أكبر إلى تحت، إلى الأرض، واعتناءً أكبر بشروط الحياة على الأرض، بدل النظر إلى فوق، إلى السلطات والسموات والمركز الغربي.
وهذا مظهرٌ لما يعاينه الملاحظ من تدهور المسؤولية الاجتماعية للمثقفين، الذين ظلت هويتهم تتعرف بثقافة انزاحت عن وقائع الاجتماع والسياسة، لا بهذه الوقائع. كان المثقف مسؤولاً حين كان هناك تطابق بينه وبين «الثقافة العربية»، وهذا زالَ منذ ثمانينات القرن العشرين على الأقل، لكنه لم يُحَلَّل حتى من قبل مثقفين أظهروا انتباهاً لهذا الواقع.
ثم إن جيل الأساتذة الذي تكوّن في ستينات القرن العشرين عاشَ معظم حياته المُنتِجة بينما سورية واقعة في ظل نظام يحبس ويعذب ويقتل، وهو مستمرٌ في حكم البلد منذ 47 عاماً بفضل قدراته هذه. لقد صار المشهود سياسياً، وخطراً. وهكذا تحالفت طريقة في التمثيل تتجنب المشهود مع شحنة خطرة في هذا المشهود، على جعل الشاهد غائباً.
جيل الدولة
تكون الجيل الثاني، جيلي، في سبيعنات القرن العشرين وثمانيناته. والتجربة الأساسية لهذا الجيل تحيل إلى «الاستبداد»، إلى التجربة الشخصية والعامة مع «الدولة» التي قد توصف بالدكتاتورية أو الطغيان أو الشمولية، وهي فعلاً تطغى وتتحكم بكل أوجه الحياة العامة،وتهين وتحبس وتعذب وتقتل. الجيل الأكبر هم أبناء الزمن المفتوح (التقدم، الثورة، الكونية…)، نحن أبناء المكان المغلق. مثقفو جيل الوسط إن لم يكونوا «خريجي سجون»، فهم خبروا وطأة الدولة الأسدية في زمن الأب، وشكلت تجاربهم هذه حجر الزاوية في إنتاجهم الثقافي.
ورغم أن معظم ممثلي هذا الجيل المعروفين ينحدرون من خلفيات يسارية معارضة للنظام، أي هم ماركسيون بصورة ما، إلا أن تجاربهم السياسية المباشرة هي ما تشكل مركز الثقل في عالمهم كمنتجي أفكار أكثر من عناوينهم الإيديولوجية. لا يعني ذلك أن تلك التجارب هي موضوع معرفتهم الوحيد، لكن لعلها شدت أنظارهم إلى واقع مُعايَن، إلى ثقل وقائع الدولة والسياسة، إلى الأوضاع والممارسات الاجتماعية المتصلة بتجاربهم، أي إلى الوقائع السورية.
هذا الجيل «سوري»، سورية ليست بلداً صادفَ أن ولِدَ فيه، بل هي موضوع تفكيره وممارسته المعرفية والسياسية، وهذا رغم أن جذوره الإيديولوجية السياسية الأقدم لم تكن كذلك حتماً. وهذا متولد عن كون سورية أرض المشهود أو التجربة، وليس عن نزعة وطنية سورية حصراً. هناك نزعة وطنية سورية أقوى في أوساط الجيل الثاني، لكنها أوثق صلة بتشكيل الإطار السوري للتجارب الأقوى حضوراً في حياة هذا الجيل، وليس فقط بتحولات إيديولوجية فوقية.
إطار الحياة يفرّق سورية عن لبنان القريب مثلاً، الذي وقع خلال معظم العمر الناضج لهذا الجيل تحت الوصاية السورية، ومن باب أولى عن بلدان عربية أخرى. أما أوروبا فتبدو عالماً أبعد، قد نلجأ إليه سياسياً، لكن بالضبط لأنها اختفت من ناظرنا ولم تعد مستقبلاً مرئياً لبلدنا. اللجوء السياسي هو تجربة تكاد تكون حصرية لهذا الجيل الثاني. الجيل الأكبر اختار أفرادٌ منه العيش في أوروبا، وتعلم كثيرون منهم في جامعاتها. ليس هذا حال جيلنا. من هم في الأكاديميا من هذا الجيل موالون للنظام، المعارضون والمستقلون من جيل الوسط خارج الجامعات تماماً.
ليس هذا الجيل بمنأى عن تحولات إيديولوجية أصابت الجيل الذي سبق، ومحرك التحولات سياسي أيضاً، لكنه متصل هنا بأوضاع محسوسة وتجارب شخصية. هذه الأوضاع والتجارب المتصلة بالدولة هي العنصر الأبرز في تشكيل هوية جيلنا، ولها أثرٌ في نمط إنتاج المعرفة وتمثيلٌ أكثر ديموقراطية للمشهود والمعاين.
ورغم أن تصور جيل الوسط لم يوضَّح بصورة منظمة، ولم يُبن مفهوم استقلاله سياسياً ومعرفياً عن الجيل الأكبر، إلا أن هناك ما يؤشر فعلاً إلى استقلالية واختلاف، يشير إليه بوجه خاص زوال إشكالية التبيئة، أو تكييف المفاهيم. كان الكلام على «تبيئة» المفاهيم، وعلى «تعريب الماركسية» مثلاً، يقال كثيراً في سبعينات القرن العشرين وثمانيناته، وكان يُقصَد بمجتمعنا شيءٌ يحيل إلى عالم اجتماعي ثقافي، وربما اقتصادي، مختلف. عالمٌ عربي، ومتخلف، وقت كان مُدرَكُ التخلف يحيل إلى الاقتصاد وأنماط الإنتاج، قبل أن يحال إلى سجل ثقافوي في تسعينات القرن الماضي وما بعد. هذا العالم مختلف عن مصدر المفاهيم الكونية، الغرب، ولذلك التبيئة واجبة.
هذه الإشكالية اختفت كلياً منذ نحو ربع قرن. من جهة، يحتمل أن هيمنة المنهج الثقافوي قادت إلى اعتبار الكلام على التبيئة تنازلاً استراتيجياً أمام «الأصولية»، لكن من جهة ثانية صارت الكتابة أقرب إلى الواقعي والسياسي، متبيئةً ولاديّاً. ورغم أن الوافد الفكري لم يَقِلّ، إلا أنه لم يعد على شكل نظرية كلية كالماركسية، ولم يعد بخاصة معرفاً للذات (أنا ماركسي…)، وتحول إلى نصاب أدوات ومفاهيم نجيد أو نسيء استخدامها، لكنها غير مشكلة لهويتنا ودورنا، وقلما تكون معروفة كفاية على نطاق عام حتى يثور الجدل حول ملاءمتها وتبيئتها. ما كان يحتجب وراء مطلب تبيئة المفاهيم، هو تطلع حملة المفاهيم إلى الانغراس في بيئاتهم الاجتماعية.
الوسيط الكتابي الأبرز لجيل الوسط هو مقالة الرأي، بينما كان الكتاب هو الوسيط الذي عُرِفَ به جيل الأساتذة. للأمر صلة هنا بأن جيل الأساتذة ذوو تكون أكاديمي عموماً، خلافا لجيل الوسط، والكتاب (أو المقالة البحثية)، هي الوسيط المعترف به للأكاديمين، بينما مقالة الرأي النضالية كثيراً أو قليلاً هي الوسيط الذي يميز جيلنا، المنحدر من تنظيمات سياسية، كانت تعبر عن نفسها في نشرات ومقالات موقفية. ثم أن مقتضيات العيش تدفع من ليس لهم عمل «عند الدولة»، بما فيها الجامعات، إلى الكتابة في الصحف غير السورية، فتدفع نحو مقالة الرأي. وأخيراً، سهلت شبكة الانترنت الكتابة في الصحف والمواقع الإلكترونية، والمواقعُ العربية لا تزال تتداول مقالات الرأي أساساً.
وبفعل حضور أكبر للمشهود، فإن الكتابة هنا مسكونة بالناس أكثر، خلاف لجيل الكبار. تظهر عناصر من السيرة ومن البيئة الاجتماعية، ومن التجارب السياسية، ومن حكايات الأشخاص، حكايات مع «الدولة» بخاصة. هذا مُمَثّلٌ على نحو خاص في الصنف الكتابي الذي ظهر بخاصة في العقد الأول من هذا القرن، «أدب السجون»، أو أفضل «كتابة السجن».
أنوّه مجدداً أني أبني تصور الجيل من مساحة تقاطع نمط إنتاح الأفكار، وتحديداً مدى حضور التجربة الحية في المعرفة المنتجة، مع العمر. هناك في الجيل الوسط من ينتجون أفكارهم بمنهج جيل الأساتذة، منهج يحضر فيه الغائب أكثر من الشاهد. العادات القديمة تموت بصعوبة، حسب قول انكليزي مأثور. ولعل حضور الغائب هذا يُضعف قدرة نتاجاتنا الفكرية على مواجهة نتاجات الإسلاميين التي تعتمد جوهرياً على الغائب. «الوعي» المُتلقّى من الغرب لا يصمد في مواجهة «الوحي» المُتلقّى من الغيب. وسياسةٌ ربما يكون شعارها الضمني: لن نتقدم ونتجاوز تأخرنا إلا بما تقدم به غيرنا! ليست في موقع أصلب لمواجهة سياسةٍ شعارها: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها!
قلما تترك الشروط الاقتصادية والسياسية لجيل الوسط، تجربة الدولة والكتابة الصحفية، مجالاً للنظر المعرفي والأخلاقي والتاريخي. ليس هناك الكثير عند جيل الأساتذة بفعل التضييق الإيديولوجي والحضور الضاغط لدواعي العمل، لكن ليس هناك الكثير في جيلنا أيضاً، ولأسباب مماثلة (وإن تبدل نطاق العمل من «الوطن العربي» إلى سورية). لذلك بقي فكرنا فكراً مباشراً، لا يفكر في نفسه، وغير منتج للمفاهيم تالياً.
جيل المجتمع
الجيل الثالث تشكّلُ الثورة السورية والصراع المركب خلال السنوات الستة الماضية تجربته المركزية، مثما الدولة هي تجربة جيلنا المركزية، مثما القومية العربية والتقدم العربي قضية الجيل الأكبر. هذا الجيل الأصغر كان بعضُ أفرادِه أطفالاً وقت مات حافظ الأسد، وأكبرهم كانوا في أوائل عشريناتهم. وفي بداية الثورة كانت أعمارهم تتراوح بين عشرين وثلاثين. لم تشدّهم في الغالب منظمات سياسية، ولم يعتنقوا إيديولوجيات عمل تغييرية. بالمقابل، عاشوا في مجتمع كانت إيديولوجيات الهوية، الدينية، الإثنية، الطائفية، الجندرية، تسجل حضوراً محسوساً فيه.
الملمح الأبرز في التكوين الفكري لهذا الجيل هو حضور كبير للمشهود والمُعايَن والتجربة الشخصية. لدى عدد كبير من شابات هذا الجيل وشبانه تجارب شخصية هائلة، في مجتمع شهد اتساع حقل التجربة فيه على نحو هائل: من أقصى الغيرية إلى أقصى التوحش الأناني، ومن أقصى الثقة والشراكة إلى أقصى التعصب والكراهية، ومن تنوع الحياة وظهورها العلني إلى تنوع تجارب الموت، ومن تناثر السوريين في العالم إلى انتشار العالم في سورية.
فإن كان لي أن أمثّلَ على هذا الجيل بشخص واحد فهو رزان زيتونة، الكاتبة المرموقة، والناشطة الحقوقية والسياسية الشجاعة، والمخطوفة منذ أكثر من ثلاثة أعوام ونصف من قبل إسلاميين. في كتاباتها الشخصية، رزان أحالت إلى تجارب وخبرات حية عاينتها غالباً بنفسها. وفي عملها العام، أظهرت وعياً حاداً بأهمية التوثيق والتدقيق في وارد المعلومات المتدفق. وبالمناسبة، هناك حضورٌ متزايدٌ لمساهمات نساء في إنتاج الأفكار، وحضورٌ أكبر أيضاً للشاغل الجندري ضمن هذا الجيل. وفي هذا ما يغري المرء بالتساؤل عما إذا كان هناك نمط ذكوري لإنتاج الأفكار، تغلب فيه المجردات ويقل فيه حضور التجربة والعياني، وأن الحضور الكبير للعياني مميز لنمط نسوي من إنتاج الأفكار، وأن تطورنا الفكري الجيلي سار، تالياً، باتجاه قطب الأنوثة. هناك شواهد على العكس، لكن لعلنا اليوم أكثر تصالحاً مع الأنثوي فينا.
الأكبر سناً ضمن هذا الجيل، ومنهم رزان التي تدخل الأربعين هذا العام، أخذوا يدخلون مجال العمل العام أيام «ربيع دمشق». ليسوا أبناء التقدم والزمن المفتوح، ولا أبناء تنظيمات سياسية مناضلة، وهم يبحثون بمشقة عن أطر للعمل العام، وقلما يجدون. في الثورة بنوا بأنفسهم أطر عملهم المميزة، التنسيقيات. رزان هي الاسم الأبرز في تأسيس لجان التنسيق المحلية.
التحدي الذي يواجه الجيل الشاب يتمثل في حجم مهول للتجارب الحية، المفعمة بالحياة، وبالموت، بما يتجاوز المتاح من أنماط التفكير والتعبير المتاحة، ما يدفع أحياناً إلى الصمت.أو إلى الهرب في كل اتجاه: كان الدين في أشكاله المتشددة أحد المهارب من عنف التجربة، لكن المخدرات وعوالم الثقافة الشبابية التحتية المتاحة لشبان سوريين وشابات يعيشون في بلدان اللجوء، هي أيضاً من المهارب المحتملة. التجربة يمكن أن تكون محطِّمة، ونحن كنا ولا نزال نفتقر إلى مؤسسات وحواضن اجتماعية ولغة تعبير تساعد على تنظيمها وضبطها.
وبصورة تخطيطية، يمكن القول إن ما يميز جيل الأساتذة هو مفاهيم وفيرة وتجارب قليلة، فيما جيل الشباب لديه تجارب هائلة ومفاهيم مجردة قليلة، والجيل الوسط في منزلة بين المنزلتين. ليس القصد أن جيلنا هو جيل التوازن، القصد درجة أكبر من التقارب بين التجربة الحية والمفهوم المجرد.
والتساؤل الذي يفرض نفسه في مواجهة فيض المشهود، هو كيف تتطور أدواتنا ومناهجنا بحيث يمكن أن تستوعب هذه التجارب المنفلتة، فلا تنوء تحت ثقلها وتتحطم، ولا تتركها خاماً، محاصرة في ذاكرات شخصية، فتُنسى وتضيع؟ وكيف نحوّل تجاربنا إلى أفكارٍ ومعانٍ، إلى ثقافة، كي لا نتحطم نحن تحت وطأة ثقلها الخام؟ وربما كي نساعد غيرنا في تنظيم تجاربهم والنجاة من هولها؟ وبنظرة أوسع، كيف يمكن تنظيم حضور المشهود بحيث يمكن أن يحدث ثورةٌ في الثقافة؟ يتواتر أن يعقب الثورات والصراعات الاجتماعية الكبرى والحروب تغيرات ثورية في التفكير والثقافة والحساسية، وهو ما يؤمل أن يتحقق في سورية. والمؤهل لذلك هو جيل الشباب الذي تشكّلُ الثورة تجربته المكونة.
خلال سنوات من اليوم ربما يفرضُ نفسَه جيلٌ جديد، مميزٌ بنمطه الخاص في إنتاج الأفكار، وبتكوين المنتجين المغاير، وبحضور أكبر للمعاناة الشخصية والعامة في الكتابة، وبمشاركة وسائل تعبيرية أخرى (الصورة، الصوت، اللون…) للكلمات في إنتاج الأفكار، وربما بفضاءات أوسع للتخيل. التحدي هنا هو مَفهَمَة التجارب، إذا جاز التعبير، تحولها إلى كلمات ومفاهيم. الجديد أو «الحدث» فيما يخص الجيل الشاب هو تجربة الاعتقال والتعذيب والقتل، وهو القصف والتدمير والموت والأشلاء، وهو الخطف والغياب، وهو اللجوء وتقطع أوصال الأسرة الواحدة بين عدة بلدان، وهو الحجز في بلدان غير مرحبة، وفي مطارات أو معسكرات لجوء لشهور طوال. هذا الحدث بانتظار أن تُصنَعَ منه مفاهيم وفكر. وهو في ذلك يشغل موقعاً مقابلاً لتجربة الجيل الأكبر، حيث كان «الحدث» هو المفهوم الوافد الذي كان يلزم تنزيله أو تبيئته أو تعريبه.
على أن من هو من جيلي، الخمسيني، لا يستطيع، ولا يحق له، أن لايبدي مخاوفَ من تبدد احتمال التغير الثقافي الثوري. مخاوف تتولد من تراجع قراءة الكتب، من الاستغناء بالتجربة الشخصية الواسعة عن التعلم والاطلاع على تجارب غيرنا، والإحاطة أفضلَ بأوضاع عالمٍ نحن منه وهو منا أكثر من أي وقت مضى. وهذا شرط تُفاقِمه اليوم مواقع التواصل الاجتماعي وإيقاعها السريع وذاكرتها القصيرة. يعاكس مفعول هذه المواقع مفعول الشتات، الذي هو شرط عدد كبير من الشابات والشبان السوريين، ويتيح لكثيرين منهم أطراً للتعلم والمقارنة. هذا يتجاوز مفعول اللجوء السياسي الذي بقي نطاقه محدوداً بعشرات أو مئات. لا يمكن أن نعلم ماذا يمكن أن تكون المحصلة، لكن من تجربة شخصية مع كتابات الجيل الشاب، أُقدِّرُ أنه لو تيسرت لهن ولهم أدوات و«مقولات» مناسبة لتنظيم تجاربهم ومشهوداتهم وتعميمها واستنطاقها، لكان لها أثر كبير في إعادة بناء تصورنا للإنساني ومفهومه، وليس فقط في التعبير عن إنسان جزئي في أوضاع مخصوصة بعينها.
فإن كان لي أن أحاكي صيغةً لكانط عن العلاقة بين الحدوس والمقولات، يمكن القول إن التجارب بدون كتب بكماء، وإن الكتب بدون تجارب فارغة. نحتاجهما معاً: أن تنطق التجارب بالكلمات الواضحة، وأن تمتلئ الكتب بالخبرات الحية. حضور وسائل التواصل الاجتماعي مقلقٌ على هذا المستوى، فهي تضيّقُ قاعة قراءة الكتب، وحتى المقالات. وتصبح الكتابة أقرب إلى الانفعال المباشر، وأكثر تمركزاً حول الشخص واللحظة والمزاج، أي حول ما لا قيمة عامة له.
لا يتحتم أن تتغلب الآثار السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي، ولا يبعد أن تتطور بعد حين أدوات وممارسات تطور الاستفادة منها على نحو أكثر إنتاجية وأكثر اجتماعية، مع البناء في الوقت نفسها على ما تتيحه لكل فرد من أن يكون مصدر معلومات وأفكار ومبادرات عملية.
على أي حال، هناك اليوم ملامح كتابية جديدة: حضور أكبر للمحكية في المكتوب، ولمفردات أجنبية، وكذلك للتعبيرات غير الكتابية. بفعل صيرورة العالم الافتراضي مجالاً أساسياً للتواصل والحضور والاجتماع يشغل ساعاتٍ كل يوم، وربما نصف اليوم أحياناً، فهناك حضور للصوت والصورة أكبر مما في الجيلين السابقين، ولفنون جديدة تولدت مع العالم الافتراضي.
هناك من وجهٍ آخر حضور أكبر لما هو محليٌ وتحتيٌ عند الجيل الأفتى قياساً للجيل السوري السابق. فإذا كان الجيل الأكبر هو جيل العالم المفتوح، والأوسط جيل الدولة المغلقة، فالأصغر هو جيل المجتمع/ المجتمعات الكثيرة إذا جاز التعبير، جيل المدينة والحي والبلدة والقرية والجماعة الأهلية والمجتمع المحلي. لكن هناك حضوراً للعالمي كبيراً أيضاً، وإن ليس على طريقة الجيل الأكبر، جيل الوعي، بل على طرقٍ مجزأة متنوعة، يتصل بعضها بتجارب الشتات، وبعضها بالمنظمات غير الحكومية، وبعضها بشبكات تضامن دولية.
يبقى أن شرط الشتات يمكن أن يكون فرصة لنقلة مهمة في التفكير نحو النظر المقارن، وضع قضايانا في إطار مقارن مع ما يقاربها ويختلف عنها في بلدان الشتات، ومع ما قد يُتَاح لنا الاطلاع عليه بلغات أجنبية من شؤون بلدان أخرى. نحتاج إلى تدريبٍ وتمَرّسٍ أفضل بمناهج المقارنة، لكن الجيل الأصغر، وجيل الوسط أيضاً، في وضع أنسب سلفاً على هذا المستوى.
عناصر استمرارية؟
نلخص ما تقدم بأن تكوين الجيل الأكبر أفسح مجالاً محدوداً للتجربة الشخصية في تفكيره، وكان فوق سوري، معنياً بالوعي، ويؤلف كتباً. جيل الوسط سياسي، سوري، تجربته الأساسية هي الدولة، يكتب مقالات وفي عمله حضور أكبر للتجربة الشخصية. الجيل الأصغر لديه تجارب هائلة تتصل بالمجتمع والدين والطائفة، والدولة، يتحرك بين ما تحت سورية وفوقها، لكن ليس واضحاً أن كان سيطور أدوات لتملّك التجربة ونقلها.
فوق صفة تخطيطية لهذا التناول، يجب الإقرار أيضاً أنه اختزالي، يبني تصور الجيل حول تيار رئيس فيه: التيارُ القومي اليساري بخصوص الأساتذة، والمثقفون اليساريون المعارضون والمستقلون بخصوص جيلي، والشابات والشبان المنخرطون في الثورة في الجيل الثالث. هذا يترك كثيرين خارج هذه التناول، بخاصة من الجيل الثالث. لكن هذا ليس تاريخاً، إنه محاولة عقلنة، إدخال شيء من التنظيم في التفكير في أجيالنا الثقافية.
هل من عناصر استمرارية خلال ثلاثة أجيال، فيما وراء الاختلافات المرصودة أعلاه؟ يمكن التفكير في ثلاثة أشياء. أولها أن تاريخ التفكير والكتابة في الشؤون العامة في سورية هو بقدر كبير تاريخ أفراد معزولين بقدر كبير أو أكبر، بمن فيهم من كانوا طوال سنوات عمرهم أساتذة في الجامعات. أعمالهم قلما تنال رعاية من الجامعات التي يُدرِّسون فيها، أو تستند إلى أبحاث ميدانية دعمتها هذهالجامعات، وقلما تُدرّس مساهماتهم الفكرية الشخصية في جامعاتهم أيضاً. وليس هناك مؤسسات ثقافية أخرى ترعى عملهم أو تسهل لهم التفرغ للبحث. حال الجيل اللاحق، جيلنا، أسوأ بعد على هذا المستوى. إذ قلما جرى حتى الانتفاع من دور النشر الحزبية أو شبه الحزبية في نشر أعمالنا، خلافاً لجيل الأساتذة. ولا تبدو بعدُ مؤشراتٌ واضحةٌ على تمأسس أكبر لعمل الجيل الأصغر، لكن تجربة الشتات اقترنت بانكسار احتكار المال من قبل الدولة، وتوفر جهات مانحة متنوعة، بالجيد في ذلك والسيء.
هذه الصفة الفردية الغالبة لتاريخنا الفكري المعاصر هي ما تفرق أجيال المثقفين العلمانيين المستقلين والمعارضين عن الإسلاميين منذ سبعينات القرن العشرين. الإسلاميون استفادوا بقدر كبير من مؤسسات وشبكات دينية، محلية أو عربية، وعالمية أحياناً، تتيح نشر أعمالهم، وإن قلما تجاوزت بيئاتهم الخاصة.
عنصر الاستمرارية الثاني يتمثل في الارتباط الوثيق بين تاريخ الأفكار في مجالنا والتاريخ السياسي. قد يكون الحال كذلك لدى غيرنا، فالحربان العالميتان تركتا أثاراً كبيرة على التفكير في الغرب، وأيار 1968، وكذلك انهيار الاتحاد السوفييتي ومعسكره، و11 أيلول 2001. لكن ما قد يميزنا هو تدني تحكمنا بتاريخنا السياسي قياساً إلى الغرب، وكون التغيرات السياسية تغيرات تجرفنا من خارج عموماً، دون سيطرة لنا عليها، الأمر الذي يجعل تحولات تفكيرنا أقرب إلى التخبّط، ويعطل الأثر التراكمي للفكر في مجالنا. حرب حزيران هزّتنا بعنف، لكن لا يبدو أننا تملكناها بالفكر في أي وقت. والصراعات الاجتماعية والسياسية في سورية في أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات تركت آثاراً عميقة في نفوسنا وأذهاننا حتى اليوم، ولم نمتلكها هي أيضاً، ولم يُثَر نقاش علني في شأنها في أي وقت لأسباب سياسية معلومة. هذا جعل من حدثٍ داخليٍ كبيرٍ حدثاً خارجياً، لم نخرج منه بأفكار وتنظيمات اجتماعية وسياسية جديدة. وكذلك انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشرقي، ثم حدث 11 أيلول 2001 وصعود أجندة مكافحة الإرهاب.
ولا يكفي أن يكون الحدث السياسي الكبير، الثورات العربية، مبادرتنا حتى يكون حدثاً داخلياً، حدثٌ لنا، حَدَثُنا. يلزم أن نعود إليه بالفكر ونُقلِّب النظر فيه طويلاً، ونبني مجموعات ومنظمات حول تجربته. نرفد الحدث على هذا النحو بتفكيره وتأويله وراويته وسياسته. يمكن لمآل الثورة السورية والثورات العربية أن يكون منطق مراجعة تاريخية كبرى لتاريخنا الحديث ولقضايا الدولة والدين والعالم المعاصر، لقضايا المعرفة والأخلاقيات والاجتماع البشري.
عنصر الاستمرارية الثالث يتمثل فيما تقدم التلميح إليه من ضعف الشاغل المفهومي في تفكيرنا. أعني أننا غير منتجين للمفاهيم بالمعنى القوي للكلمة، الذي يعني ابتكار النظريات والمناهج والتيارات الفكرية. هذا مردّه رجحان الشاغل العملي والتعبوي في تفكيرنا، وحيلولة هذا الشاغل دون انعكاف التفكير على ذاته ومساءلة ذاته. تفكيرنا لا يفكر في نفسه، فيبقى تفكيراً من الدرجة الأولى أو تفكيراً مباشراً، غير مفهومي. هل الحال في سبيله إلى التغير مع تجربة الثورة، والشتات، وظهور عناصر حسٍّ مأساوي بالتاريخ؟
أياً يكن الأمر، لدينا اليوم ما يكفي من التاريخ لنفكّر ونعيد التفكير فيه، ونُنتِجَ له المفاهيم.