مقدمة المترجم
هذه إحدى أشهر المقالات في تاريخ الصحافة الإنكليزية. فيها يقول جورج أورويل إن الكتابة الغامضة هي دليل نفاق؛ ويعلّمنا كيف نكتب بوضوح، ولماذا. المقال نفسه شديد الوضوح، لذا لن أعلّق على المضمون، بل سأشير إلى ثلاث ملاحظات سريعة.
أولاً، كان أورويل شديد العداء للرطانة المنتشرة على طرفي الصراع في زمنه: الليبرالية الرأسمالية والماركسية التقليدية. لم يتغير الأمر اليوم، وما زال الطرفان يكتبان، بشكل رئيس، لخداع الناس. ولكن ما حصل هو أن الغموض تطوّر ليصبح هوية لما سيسمّى تيار ما بعد الحداثة، الذي يبالغ في عدم الوضوح، كعلامة على الذكاء والفهلوة. لو كنتُ أشجَع، لذكرت أسماء الكتاب العرب اللذين يتبعون هذا السبيل، شيباً وشباناً، من ماركسيين وليبراليين وما بعد حداثيين، وإسلاميين أيضاً، ولكنني سأترك الأمر لذكاء القارئ اللبيب.
أيضاً، كان أورويل ملتزماً بالعمل السياسي المباشر، ولم يمنعه احتراف الأدب من الخوض في وحول السياسة والصحافة: شُهرة أورويل في العالم الناطق بالإنكليزية تتوزّع على مقالاته التي تشمل النقد الأدبي والاجتماعي والتقارير ومراجعات الكتب؛ كما على رواياته، التي تتردد فيها بعض أفكار مقالاته: على سبيل المثال، محتوى هذا المقال تجده في 1984 ومزرعة الحيوان.
هناك صعوبة خاصة في ترجمة هذا المقال، لأن أورويل يعطي كثيراً من الأمثلة الغنية، التي لا يمكن ترجمة معظمها إلى العربية، لكونها استعارات وتعابيراً وصوراً خاصةً باللغة الإنكليزية. نأمل من القارئ أن يكون صبوراً ومتفهّماً لعجز المترجم هنا: الفكرة الرئيسية، نأمل، بيّنةٌ جليةٌ بالرغم من هذه الصعوبة.
قراءة هذا المقال إجبارية، لا مناص منها: للكهول والشباب، ولمحترفي الكتابة والهواة، وللمحررين وللصحفيين وللباحثين: يجب أن تتخلص صحافتنا وكتابتنا من الضجيج الفارغ غير الصحي، ومن النفاق، ومن غياب أي معنى في أكثر من نصف ما يُنشر. بكلمات أخرى، كلما راودك الشك في أنك لا تفهم، أو لا تستطيع الوصول إلى ما يريد كاتبٌ ما قوله، راجع مقال أورويل هذا: إن كان الكاتب قد ارتكب كل الأخطاء المُشار إليها هنا، لا تقرأه مرة أخرى؛ إن لم يرتكب أياً منها، اقرأه بتمعّن مرة أخرى.
نترككم الآن مع أورويل، والسياسة، واللغة واستخداماتها.
عدي الزعبي
*****
معظم الذين يولون الموضوع أية أهمية، يرون أن اللغة الإنكليزية في وضع سيء، ولكن على العموم يفترض الجميع أننا لا نستطيع القيام بأي فعل واعٍ لمعالجة الأمر. حضارتنا في تدهور، ولغتنا -يقول هؤلاء- حتماً ستتدهور معها. ينتج عن ذلك أن أي معركة مع إساءة استخدامها تقليدٌ عاطفي؛ يشبه تفضيل الشموع على الكهرباء، وعربات الأحصنة على الطائرات. خلف كل هذا يكمن الاعتقاد نصف الواعي بأن اللغة ظاهرة طبيعية، وليست أداةً نقولبها تبعاً لغاياتنا.
من الواضح أن انحدار اللغة يجب أن يعود بشكل كامل إلى أسباب اقتصادية وسياسية: ليس السبب ببساطة هو التأثير السيء لهذا الكاتب أو غيره، ولكن الأثر قد يصبح سبباً، فيعضُدُ السببَ الأصلي ويُنتج الأثر ذاته بشكل أقوى، في حلقة مُفرغة. قد يرغب المرء بالشرب لشعوره بأنه فاشل، ومن ثم يصبح أكثر فشلاً بسبب الشرب. الأمر نفسه يحصل مع اللغة الإنكليزية. أصبحت بشعة وغير دقيقة لأن أفكارنا حمقاء، ولكن رثاثة لغتنا تسهّل وصولنا إلى أفكار حمقاء. ما أريد قوله إن باستطاعتنا تغيير الوضع. الإنكليزية الحديثة، بخاصة الإنكليزية المكتوبة، مليئة بعادات سيئة سادت بسبب محاكاة الكتّاب بعضهم بعضاً، والتي من الممكن تفاديها إن قرر المرء خوض المصاعب الضرورية لذلك. إذا تخلّص المرء من هذه العادات سيمكنه التفكير بشكل أوضح، والتفكير بوضوح خطوةٌ أولى ضرورية لإحياء السياسة: لذا فالمعركة مع الإنجليزية السيئة ليست تافهة ولا تقتصر فقط على الكتّاب المحترفين. سوف أعود إلى هذه النقطة، وأتمنى أن يكون ما قلته آنفاً قد أصبح واضحاً عند مناقشتها لاحقاً. حتى ذلك الوقت، هذه خمس نماذج مما يُكتب عادةً باللغة الإنكليزية هذه الأيام.
لم أختر المقاطع الخمس لأنها بالغة السوء – أستطيع اختيار نماذج أسوأ بكثير لو أردت – بل لأنها تصوّر أشكالاً متنوّعة من الخطايا الفكرية التي نعاني منها اليوم. هذه المقاطع أقل من المتوسط بقليل، ولكنها أمثلة نموذجية بشكل كبير. لقد رقّمتها لأشير إليها لاحقاً عندما أحتاج ذلك.
أولاً. أنا لست متأكداً، بالطبع، إن لم يكن صحيحاً القول بأن ميلتون الذي لم يَبدُ مرةً غير شبيه بشيلي القرن السابع عشر لم يصبح، بسبب تجربة تصبح أكثر مرارة كل سنة، أكثر اغتراباً (بحسب النص) عن مؤسس الطائفة اليسوعية الذي لن يحثه شيء على التسامح معه.
البروفيسور هارولد لاسكي، مقالات في حرية التعبير
ثانياً. قبل كل شيء، لا نستطيع أن نعامل بإهمال وتسرّع المخزونَ الأصلي للمصطلحات التي تفرض تنسيقاً فاضحاً للمفردات كما في الحالة الرئيسة لتقبّل بمعنى تسامح، ولضيّع بمعنى حيّر
بروفيسور لانكوليت هوغبين، إنترجلوسيا
ثالثاً. من جهة أولى لدينا الشخصية الحرة: بالتعريف ليست عصابية، فهي لا تملك صراعات ولا أحلاماً. رغباتها، بما هي رغبات، شفافة، حيث أنها ليست إلا ما تحتفظ به الموافقة التأسيسية في الوعي المتقدم؛ سيغير نموذج تأسيسي آخر من عددها وشدّتها؛ هناك القليل مما هو طبيعي، غير قابل للاختزال، أو خطير ثقافياً فيها. ولكن من جهة أخرى، الترابط الاجتماعي نفسه ما هو إلا الانعكاس المشترك لهذه الاندماجات الذاتية. تذكر تعريف الحب. أليست هذه هي الصورة نفسها للأكاديمي الصغير؟ هل يوجد مكان في قاعة المرايا هذه سواء للشخصية أو للتآخي؟
مقال عن علم النفس في السياسة، نيويورك
رابعاً. كل أولئك الموصوفين «أفضل الناس» من نوادي الجنتلمان، وكل المسؤولين الفاشيين المسعورين، يتّحدون في كرههم المشترك للاشتراكية وفي رعبهم الوحشي من حركة الجماهير الثورية، ويقومون بأفعال استفزازية، وبتعمد إشعال حرائق عامة، ونشر إشاعات قروسطية عن تسميم الآبار، ليشرّعوا لأنفسهم حظر التنظيمات البروليتارية، ويثيروا حماسةً شوفينيةً في البرجوازية التافهة المسعورة في هذه المعركة ضد الدرب الثوري للخروج من الأزمة.
منشور شيوعي
خامساً. إذا أردنا بثَّ روح جديدة في هذا البلد العتيق، هناك إصلاح وحيد شائك ومثير للجدل يجب القيام به، وهو أنسنة وجلفنة
رسالة إلى جريدة التريبيون
لكل مقطعٍ من هذه المقاطع مشاكله، ولكن، بغض النظر عن القبح الذي لا يمكن تجاوزه، هناك خصلتان تشترك بهما كل المقاطع. الأولى هي فقر المخيلة؛ الثانية غياب الدقة. إما أن الكاتب يعني شيئاً ما ولا يستطيع التعبير عنه، أو أنه يقول شيئاً آخر دون أن يقصد ذلك، أو هو غير مبالٍ تقريباً إن كانت كلماته تعني أي شيء أم لا تعني. يشكّل هذا المزيج من الغموض وعدم الكفاءة المطلقة الميزة الأكثر وضوحاً للنثر الإنكليزي المعاصر، وبخاصة في مجالات الكتابة السياسية. ما أن تُطرح مواضيع معينة للنقاش، يذوب الموضوع الصلب متحوّلاً إلى التجريد، ولا يبدو أن أحداً يستطيع التفكير في أساليب غير مبتذلة للكلام: يتراجع باستمرار وجود كلمات يتم اختيارها لمعانيها في النثر، ويزداد باستمرار وجود مصطلحات يتم تجميعها كأجزاء مسبقة الصنع كالتي تستخدم في بناء قنّ الدجاج. أعدّد أدناه، مع ملاحظات وأمثلة، الخدع المختلفة المستخدمة في تركيب النثر مما اعتاد عليه محترفو هذه الطريقة.
الاستعارات في طريق الموت. تساعد الاستعارات المخترعة حديثاً التفكير باستحضارها صوراً بصرية جديدة، بينما يبقى تأثير الاستعارة التي هي تقنياً «ميتة» (قرار حديدي، على سبيل المثال) قائماً، لأنها تُعامَل ككلمة عادية ويمكن استخدامها بالعادة دون أن تفقد حيويتها. ولكن بين هذا وذاك هناك كثيرٌ من الاستعارات المستهلَكَة، والتي فقدت كل قوة تعبيرية ويستخدمها الناس كي لا يُتعبوا أنفسهم في اختراع تعابير جديدة. هنا بعض الأمثلة
العوامل اللغوية أو الأطراف الفعلية الزائفة. تساعد هذه الحِيَل الكاتب على عدم البحث عن الأفعال أو الأسماء التي تلائم الموقف، كما أنها في الوقت نفسه تزيّن الجملة بمقطع لفظي يعطيها مظهراً متناظراً. التعابير المتعارف عليها هنا هي
الأسلوب المدّعي. كلمات مثل
كلمات بلا معنى. في أشكال محددة من الكتابة، خصوصاً في النقد والنقد الأدبي، من المعتاد أن يُصادِف المرء مقاطع طويلة خالية من أي معنى
الآن وقد أتممت كتالوج النصب والتحريف هذا، دعوني أعطي مثالاً آخر على شكل الكتابة الذي ينتج عنه. هذه المرة وبسبب طبيعة المثال يجب أن يكون متخيّلاً. سأترجم مقطعاً من الإنكليزية الجيدة إلى الإنكليزية الحديثة في أسوأ تجلياتها. هنا مقطع معروف جداً من سِفر الجامعة:
فَعُدْتُ وَرَأَيْتُ تَحْتَ ٱلشَّمْسِ: أَنَّ ٱلسَّعْيَ لَيْسَ لِلْخَفِيفِ، وَلَا ٱلْحَرْبَ لِلْأَقْوِيَاءِ، وَلَا ٱلْخُبْزَ لِلْحُكَمَاءِ، وَلَا ٱلْغِنَى لِلْفُهَمَاءِ، وَلَا ٱلنِّعْمَةَ لِذَوِي ٱلْمَعْرِفَةِ، لِأَنَهُ ٱلْوَقْتُ وَٱلْعَرَضُ يُلَاقِيَانِهِمْ كَافَّةً.
هنا المقطع ذاته بالإنجليزية الحديثة:
تجبرنا الاعتبارات الموضوعية للظواهر المعاصرة، على قبول النتيجة القائلة بأن النجاح أو الفشل في النشاطات التنافسية لا يعرض أي ميل يتناسب مع القدرات الفطرية، بل يجب أن يؤخذ في الحسبان عنصر لا يمكن التنبؤ به بشكل حتمي.
هذه محاكاة ساخرة، ولكنها ليست مبالغاً فيها. يتضمّن النموذج (3) أعلاه، على سبيل المثال، رقعاً عديدة من هذه الإنكليزية. سيرى القارئ بأنني لم أعمد إلى الترجمة الكاملة، تشبه بداية ونهاية المقطع المُترجم المعنى الأصلي بشكل مقبول، ولكن في الوسط نجد الأمثلة الصلبة المباشرة: السعي، الحرب، الخبز، تنحلّ إلى التعابير الغامضة: «النجاح أو الفشل في النشاطات التنافسية». السبب هو أن الكتّاب الذين نناقش عملهم، أولئك اللذين يستخدمون مصطلحات مثل «النجاح أو الفشل في النشاطات التنافسية»، لا يصنّفون أفكارهم بطريقة دقيقة وتفصيلية. الميل العام في النثر الحديث بأكمله يتجه بعيداً عن الملموس. فلنحلل الآن كل من هاتين الجملتين بشكل أدق. تتألف الجملة الأولى من أربعٍ وتسعين كلمة وستين مقطعاً لفظياً، وكل كلماتها من الحياة العادية. أما الثانية فتتألف من ثلاثٍ وثمانين كلمة وتسعين مقطعاً لفظياً، ثماني عشرةً منها من أصول لاتينية، وواحدة من أصل إغريقي. تحتوي الجملة الأولى على ست صور حيوية، ومصطلح واحد (الوقت والعرض) نستطيع اعتباره غامضاً. في الجملة الثانية لا يوجد مصطلح واحد منعش إيجابي، وبالرغم من مقاطعها التسعين، إلا أنها لا تعطي المعنى الكامل للجملة الأولى. مع ذلك، الجملة الثانية بلا شك هي التي تسود الآن في الإنكليزية الحديثة. لا أريد أن أبالغ. هذا النوع من الكتابة لم يصبح عاماً بعد، وحتى في الصفحات المكتوبة بأسوأ شكل ستظهر هنا وهناك نتوءات صغيرة من الكتابة البسيطة. ولكن، إن طُلِبَ مني أو منك أن نكتب أسطر قليلة عن لايقين حظ البشر، سنقتربُ من مثاليَ الخيالي بدلاً من المقطع المأخوذ من سِفر الجامعة.
كما حاولت أن أبيّن، الكتابة الحديثة في أسوأ تجلياتها لا تختار الكلمات بسبب معناها ولا تخترع صوراً كي توضّح المعنى؛ بل تقوم بلصق حبال طويلة من الكلمات رتّبها مسبقاً كتّاب آخرون ببعضها بعضاً، وتقديم النتيجة عن طريق الخداع الخالص. تكمن جاذبية هذا النوع من الكتابة في سهولته. من الأسهل، والأسرع أيضاً، ما أن تعتاد على ذلك، القول في رأيي إنه ليس افتراضاً غير مبرر، من القول أنا أعتقد. عندما تستخدم مصطلحات مسبقة الصنع، لن تحتاج إلى السعي وراء الكلمات المناسبة فقط؛ بل لن تشغل نفسك أيضاً في البحث عن إيقاع مناسب لجملك، لأن هذه المصطلحات عادةً ما تكون مرتبة بطريقة تجعلها حسنة الوقع على الأذن. عندما تؤلف جملاً بسرعة – عندما تُملي على آلة التسجيل، أو عندما تخطب في جمهور، على سبيل المثال- من الطبيعي أن تلجأ إلى أسلوب مدّعٍ مصبوغ بصبغة لاتينية. الكلام المكرر مثل اعتبارات كهذه من المفيد أن نتذكرها أو نتيجة سنوافق عليها جميعاً على الفور، تجعل الكثير من نهايات الجمل مقبولة. لا يجعلك استخدام استعارات وتشابيه ومصطلحات بالية تبذل أي جهد عقلي، ولكنك تدفع الثمن بجعل معانيك غامضة، ليس فقط لقرائك بل لك أنت نفسك. من هنا أهمية الاستعارات المختلطة. الهدف الوحيد للاستعارة هو أن تستدعي صورة بصرية. عندما تتضارب هذه الصور، كما في لقد غنّى الأخطبوط الفاشي أغنية البجع، رُمي البسطار في وعاء الصهر، من المؤكد أن الكاتب لا يرى صورة ذهنية للموضوع الذي يسمّيه، أو بكلمات أخرى، هو لا يفكر. فلننظر مرة أخرى إلى الأمثلة التي أعطيتها في بداية هذا المقال. البروفيسور لاكسي في المثال الأول يستخدم النفي خمس مرات في خمس وثلاثين كلمة. أحدها سطحي، يجعل المقطع كله غير مفهوم، بالإضافة إلى ذلك هناك الهفوة التي تستبدل غريب عن بدلاً من مشابه
يصح على العموم القول في أيامنا هذه إن الكتابة السياسية كتابة سيئة. وعندما لا تكون سيئة، عادة ما نجد أن الكاتب بطريقة ما متمرد، يعبر عن نفسه وليس عن «الخط الحزبي». يبدو أن الالتزام بالتعاليم الرسمية، مهما كان شكلها، يتطلب أسلوباً ميتاً يعتمد على التقليد. بالطبع، تختلف اللهجات السياسية التي نجدها في المنشورات، ومقالات الرأي، والبيانات، والخطابات الحكومية وملخّصات وكلاء الوزارات، بين حزب وآخر، ولكنها جميعاً تقريباً تشترك في أنك لن تجد فيها أية محاولة حيوية طازجة في الكلام. عندما يشاهد المرء كويتباً متعباً على المنصة يردد التعابير المألوفة – وحشي، الجرائم الفظيعة، الجزمة العسكرية، الطغيان الدموي، شعوب العالم الحرة، نقف كتفاً لكتف- يراوده الشعور الغريب بأن هذا ليس كائناً حياً بل دمية: هذا الشعور يتضاعف فجأةً عندما يقع الضوء على نظّارات هذا الشخص حيث تظهر كأقراص فارغة لا عيونَ خلفها. وهذا ليس متوهَّماً بشكل كامل. الشخص الذي يستخدم هكذا تعابير قد اجتاز مسافة كبيراً في تحويل نفسه إلى آلة. الضجيج المسموع قادمٌ من حنجرته، ولكن دماغه غير مشارك في العملية، كما سيشارك فيها لو كان هو نفسه من يختار كلماته. إذا كان معتاداً على إلقاء الخطاب نفسه مرات ومرات، سيكون تقريباً غير واعٍ بما يقول، كما هو حال من يردد الصلوات في الكنيسة. وهذه الحالة المخفّضة من الوعي، إن لم تكن ضرورية للامتثال السياسي، فهي على كل حال مؤاتية له.
في زمننا هذا، تشكل الكتابة والخطاب السياسيان محاولة للدفاع عمّا لا يمكن الدفاع عنه. نستطيع بالطبع الدفاع عن أشياء مثل استمرار الحكم البريطاني في الهند، حملات التطهير والنفي في روسيا، إلقاء القنابل الذرية على اليابان، ولكن فقط من خلال حجج وحشية إلى درجة كبيرة بالنسبة لمعظم الناس، ولا تتفق مع الأهداف المعلنة للأحزاب السياسية. يجب أن تتكوّن هذه اللغة السياسية بشكل كبير من الكنايات المخفِّفة والمصادرة على المطلوب والغموض الغائم البحت. تُقصف القرى الآمنة من السماء، ويُجبر السكان على الهروب إلى الأرياف، تُقتل الماشية بالأسلحة الآلية، تشتعل النيران في الأكواخ بالقنابل الحارقة: يُسمّى هذا إعادة السلام. يُنتَزَع ملايين الفلاحين من مزارعهم ويُشرّدون في الطرقات، لا يملكون إلا ما يستطيعون حمله: يُسمّى هذا إعادة توطين السكان أو تصحيح الحدود. يُسجن الناس لسنوات دون محاكمة، ويطلق النار عليهم من الخلف أو في العنق أو يُرسلون إلى معسكرات من خشب في القطب الشمالي: يُسمّى هذا التخلص من العناصر غير الموثوقة. هناك حاجة إلى استخدام هذه المصطلحات إن أردنا ألا نستحضر صورة ذهنية حية لما يحصل. فلنأخذ على سبيل المثال بروفيسوراً إنكليزياً مطمئناً يدافع عن التوتاليتارية الروسية. لا يستطيع القول صراحةً، «أنا أؤمن بقتل المعارضين عندما يؤدي ذلك إلى نتائج جيدة للحاكم». لذا، على الأغلب، سيقول شيئاً قريباً مما يلي:
«بينما أوافق بوضوح على أن ملامح محددة في النظام السوفييتي قد يشجبها محبو الإنسانية، يجب علينا، برأيي، أن نتفق على أن تقييداً محدداً لحقوق المعارضة السياسية هو أمر لا مفر منه في المراحل الانتقالية، وأن القسوة التي تعرّض لها الشعب الروسي مبررّة بشكل كامل بالنظر إلى الإنجازات الفعلية التي تحققت».
الأسلوب المنتفخ بحد ذاته هو نوع من الكناية المخفِّفة. كمية كبيرة من الكلمات اللاتينية تسقط على النص كثلج خفيف، لتشوّش الفكرة وتغطي على التفاصيل. العدو الأكبر للكتابة الواضحة هو النفاق. إن وُجدِت فجوة بين نوايا المرء الحقيقية وبين نواياه المعلنة، يتجه المرء غريزياً إلى الكلمات الطويلة والمصطلحات المستخدمة بكثرة، كمثل حبّار يبثّ حبره. في عصرنا هذا لا يوجد شيء اسمه «البقاء خارج السياسة». كل القضايا قضايا سياسية، والسياسة نفسها كتلة ضخمة من الأكاذيب، والمراوغة، والحماقة، والكراهية والشيزوفرينيا. عندما يكون الجو العام رديئاً، ستعاني اللغة. أتوقع أن اللغات الروسية والألمانية والإيطالية قد تدهورت في السنوات العشرة أو الخمسة عشرة الأخيرة -وهو أمرٌ لا أملك معرفة كافية لتأكيده- نتيجة الديكتاتورية.
ولكن إذا كان التفكير يُفسد اللغة، فاللغة أيضاً تُفسد التفكير. حتى أولئك اللذين يجب أن يتمتعوا بالحذر، بل ويتمتعون به، قد ينتشر بينهم الاستخدام السيء للغة، عن طريق التقليد والمحاكاة. اللغة التافهة التي بحثنا فيها ملائمةٌ جداً في كثيرٍ من الحالات. عبارات مثل: إنه ليس افتراضاً غير مبرر، يترك الكثير ليُرغب به، تخدم هدفاً ليس بالجيد، اعتبارات كهذه من المفيد أن نتذكرها، تُغري المرء باستمرار، كعلبة أسبرين في متناول اليد. اقرأ مرةً أخرى هذا المقال، وستجد أنني ارتكبت أكثر من مرة الأخطاء التي أحذّركَ منها. هذا الصباح تلقّيت منشوراً عن الوضع في ألمانيا. يخبرني كاتبه أنه شَعَرَ «أنه مكرَه» على كتابته. فتحته بشكل عشوائي، وهنا أول جملة صادفتها: «لا يملك الحلفاء فقط فرصة تحقيق تغيير جذري في البنية السياسية والاجتماعية لألمانيا بطريقة تتجنّب رد فعل قومي في ألمانيا نفسها، بل في الوقت نفسه يملكون فرصة إرساء دعائم التعاون لأوروبا موحدة ومتعاونة». كما ترى، هو «يشعر بأنه مُكرَه» على الكتابة- يشعر، ربما، بأن لديه ما يقوله- ومع ذلك، فكلماته، كخيول الفرسان تجاوب الأبواق، تجمّع أنفسها بشكل آلي في هذا النموذج الممل المألوف. من الممكن وقف غزو المصطلحات الجاهزة لعقل الإنسان (إرساء الأسس، تحقيق تغيير جذري) فقط إن كان المرء حذراً على الدوام منها، فكل مصطلح منها يشلّ جزءً من عقل المرء.
لقد أشرتُ أعلاه إلى أن انحطاط لغتنا ممكن علاجه. أولئك اللذين ينكرون هذا قد يُحاجِجون، إن تقدّموا بأية حجة، بأن اللغة تعكس الشروط الاجتماعية القائمة فقط، ولا يمكننا التأثير في تطورها عن طريق محاولة إصلاح الكلمات والبنى لا غير. فيما يتعلّق بالروح أو النبرة العامة للغة، قد يصحّ هذا القول، ولكنه لا يصحّ في التفاصيل. غالباً ما اختفت الكلمات والتعابير السخيفة، ليس نتيجةً لتطور اللغة بل بسبب الفعل الواعي للأقلية. لدينا مثالان قريبان، هما: البحث في كل الطرق ولم يترك حجراً على حجر، واللذان قُتِلا بسبب سخرية بضعة صحفيين. هناك كثيرٌ من الاستعارات القذرة التي نستطيع التخلّص منها بشكل مماثل إن قرر ما يكفي من الناس القيام بذلك؛ كما يمكن السخرية من أسلوب نفي النفي حتى نتخلّص منه
بدايةً، لا علاقة لهذا الدفاع بالألفاظ المهجورة، ولا بإنقاذ أساليب الكلام والكلمات العتيقة، ولا بالبحث عن «الإنكليزية الرسمية» التي لا يجوز الابتعاد عنها أبداً. على النقيض، يُعنى هذا الدفاع بنبذ كل كلمة أو تعبير لم يعد مفيداً. ولا صلة لهذا الدفاع بالقواعد أو النحو الصحيحين، اللذين لا أهمية لهما طالما يستطيع المرء جعل المعنى واضحاً، ولا بتجنّب أمركة اللغة، ولا يُعنى بالحصول على ما يُدعى «الأسلوب النثري الجيد». من جهة أخرى، لا يُعنى الدفاع بالبساطة المزيفة وبمحاولة جعل الإنكليزية المكتوبة عامية. ولا يتضمّن حتى تفضيل الكلمات الساكسونية على اللاتينية في كل الحالات، بالرغم من أنها تتضمّن استخدام أقل عدد كلمات ممكن وأقصرها عندما تعطي المعنى المطلوب. قبل كل شيء نحتاج إلى أن ندع المعنى يختار الكلمة، وليس العكس. في النثر، أسوأ ما قد يفعله المرء بالكلمات الاستسلام لها. عندما تفكر بموضوع محسوس، أنت تفكر بدون كلمات، ومن ثم إذا أردت وصف هذا الموضوع ستبحث عن الكلمات المناسبة حتى تجدها. عندما تفكر في موضوع مجرّد، يشتد الميل إلى استخدام الكلمات منذ البداية، وإن لم تقم بمحاولة واعية لمنع ذلك، ستأتي اللغة المستخدمة وتقوم باختيار الكلمة، مما يؤدي إلى تشويش أو حتى تغيير المعنى. ربما من الأفضل أن يمتنع المرء عن استخدام الكلمات كلما كان ذلك ممكناً، ويجعل معناه أوضح ما يكون باستخدام الصور والأحاسيس. بعد ذلك يستطيع المرء أن يختار -لا أن يقبل ببساطة- التعابير الأكثر مناسبة للمعنى، وثم يبحث ويقرر ما هو الانطباع المحتمل الذي ستتركه كلماته عند الآخرين. هذه الخطوة الأخيرة للعقل تُنهي كافة الصور العفنة والمختلطة، وكل التعابير مسبقة الصنع، والتكرار غير الضروري، وكل الهراء والغموض بشكل عام. ولكن قد يقع المرء في حيرة بشأن تأثير كلمة أو تعبير، ومن ثمّ سيحتاج إلى قواعد لتوجهه عندما تفشل الغريزة. أعتقد أن القواعد التالية تصلح لمعظم الحالات:
1 – لا تستخدم أبداً أية استعارة، أو تشبيه، أو أي شكل آخر من أشكال الكلام الذي اعتدت أن تراه مطبوعاً.
2 – لا تستخدم أبداً كلمة طويلة عندما تفي بالغرض كلمة قصيرة.
3 – إن استطعت حذف كلمة ما، احذفها دائماً.
4 – لا تستخدم أبداً المبني للمجهول عندما تستطيع استخدام المبني للمعلوم.
5 – لا تستخدم أبداً مصطلحاً أجنبياً، أو كلمة علمية، أو كلمة تخصصية، عندما تستطيع العثور على كلمة مقابلة في الإنكليزية المستخدمة في الحياة اليومية.
6 – خالف أية قاعدة من هذه القواعد أعلاه إن كان اتباعها سيؤدي إلى قولٍ غير فصيحٍ تماماً.
تبدو هذه القواعد أولية، وهي بالفعل كذلك، ولكنها تتطلب تغييراً عميقاً في مواقف من اعتاد على الكتابة بالأسلوب السائد الآن. قد يلتزم المرء بها ومع ذلك سيكتب بإنكليزية سيئة، ولكنه لن يكتب أشياء مثل المقاطع الخمسة التي اقتبسناها أعلاه.
لم أتكلم هنا عن الكتابة الأدبية، واقتصرت على الكتابة كأداة للتعبير عن الفكر لا لحجبه أو إلغائه. ستيوارت تشيس