أحمد صلاح، ابن بلدة دوما في غوطة دمشق الشرقية، شابٌ في بداية العشرينيات من عمره، أجبرته ظروف الحرب على ترك مقعده الدراسي في كلية التجارة والاقتصاد في جامعة دمشق، عائداً إلى الغوطة الشرقية ليعمل في مجال التمريض والإسعاف. وفي تاريخ الأول من حزيران عام 2013 تعرضَ لإصابة بالغة بشظية صاروخية عندما كان يحاول إسعاف الجرحى بعد غارة جوية من الطيران الحربي التابع للنظام السوري، تسببت بتهتّك كبير في ساقه اليسرى، الأمر الذي دفعه للسفر.
رحلةٌ شاقة بدأها أحمد من الغوطة الشرقية، مروراً بتركيا، عابراً بعدها إلى اليونان عن طريق بحر إيجه، ليحط رحاله أخيراً في ألمانيا. أحمد يعمل حالياً في إذاعة ألمانية محلية تدعى (فوست فيليه)، ويقدم برنامجاً يهدف الى توعية المغتربين واللاجئين وتعزيز الروابط بينهم وبين المواطنين الألمان.
«أرغموني على قيادة القارب»
بصوت هادىء ونبرة واثقة يتحدثُ أحمد للجمهورية، مؤكداً أن فكرة السفر كانت ضرورية بالنسبة له لإكمال علاجه، ومن المعروف أن المانيا تتوفر فيها أحدث التقنيات العلاجية، والأهم أنها ستشكل فرصة لمتابعة دراسته الجامعية التي حُرِمَ منها.
بدأ أحمد برواية قصته: «الرحلة كانت صعبة جداً نفسياً وجسدياً، وعدا عن كلفة التهريب الباهظة للشخص الواحد من داخل الغوطة المحاصرة، والتي كانت تقارب الألف دولار وقتها، كانت المخاطرة عبر طرقات لم أعرفها وأنفاق مظلمة أشبه بالذهاب إلى المجهول، عندما أخبروني أنني أصبحت بأمان شعرت أنني ولدتُ من جديد».
أتمَّ أحمد رحلته بعدها من منطقة القابون بدمشق، قاصداً مدينة حماة وسط سوريا، ومنها انطلق إلى محافظة إدلب في الشمال الغربي، ليدخل إلى تركيا بعدها عن طريق مهربين آخرين.
وصلَ أحمد الى مدينة أزمير التركية شتاء 2015، تعاطف معه السمسار آنذاك، وأكد أنه سيقوم بتخفيض أجرة الرحلة لقاء قيادته للقارب (البلم)، لكنه رفض على الفور. حاولَ السمسارُ إقناعه مراراً، لكنه ظلَّ رافضاً للفكرة بشدة، وعن سبب رفضه يقول أحمد: «لم أكن أريد قيادة قاربٍ يحمل أرواح أناس أبرياء، وأنا لا أتقن ذلك». وأضاف: «يومها صاح شخص آخرٌ أنه يجيد القيادة، فأخبرته بأنني مستعدٌ أن أكون مساعداً له، وقمتُ بتوجيه القارب عبر الخرائط وبرنامج واتساب إلى جزيرة ليسبوس اليونانية، التي وصلنا إليها بعد ثلاثة ساعات، كانت الرحلة صعبة جداً ومريعة».
بعدها قطع أحمد حدود ست دول: اليونان، مقدونيا، صربيا، كرواتيا، سلوفينيا، النمسا، إذ ركبَ ومن معه كل أنواع المواصلات كالباص والقطار والتاكسي، واضطروا أحياناً كثيرة الى المشي، ما أثر سلباً على وضع قدمه، لكنه تمكن أخيراً من الوصول الى الأراضي الألمانية.
يضيف أحمد: «خلال رحلتي كنت أسأل نفسي كثيراً: كيف سيستقبلنا الألمان، نحن من بلد شرق أوسطي ولجأنا الى بلد أوربي. ماذا سأفعل هناك؟ دولة السيارات الفاخرة، بلد اللاعب الرياضي شوماخر، الجامعات والمعاهد، كل شيء متطور ومتقدم فيها».
حاجز اللغة والاندماج
تزامن وصول أحمد الى ألمانيا مع حلول أعياد رأس السنة الميلادية، بعدها بأيام قليلة قامت عائلة ألمانية بدعوته للاحتفال معهم، كان ذلك أول موقف كسَر حاجز الخوف من الاندماج في المجتمع الألماني.
ثم تعرف على زوجين ألمانيين، باتا بوابته للانخراط في المجتمع بشكل أكبر. يتذكر أحمد تلك اللحظات الأولى من بداية حياته الجديدة قائلاً: «كان الزوجان يقدمان تبرعات لمخيمات اللجوء السورية في أزمير سابقاً، وحالياً يقومان بتنظيم احتفالات محلية، وفي إحدى المناسبات طلبا مني إلقاء خطاب أشرح فيه معاناة اللاجئين وسبب مغادرة بلادهم».
تخطى أحمد سريعاً مرحلة التعرف على بلد أوروبي مثل ألمانيا، لينتقل إلى مرحلة البناء. أول خطوة اتخذها هي اكتساب مهارة اللغة، فالجميع يعرف صعوبة قواعد اللغة الألمانية، التي يحتاج المرء إلى سنة على الأقل لإتقانها.
تابع أحمد كلامه: «قررتُ تعلُّمَ اللغة بالاعتماد على دروس من الإنترنت من خلال برامج اليوتيوب، وأقوم حالياً بالتحضير لامتحاناتي في المستوى الأخير من أصل ست مستويات لمن يريد أن يدخل الجامعة، على أمل أن أدرس فرع المعلوماتية وهندسة الحاسوب في شهر تموز يوليو القادم».
بمجرد تعلمه اللغة الألمانية، صارت فرص العمل أكثر سهولة بحسب أحمد، ويقول في هذا الصدد: «دائماً أنصح كل سوري أو لاجئ أن يتعلم لغة البلد التي لجأ إليها، لأنها تفتح أبواب سوق العمل وتزيد من فرص التوظيف».
تجربة الراديو والتقديم
بعد نحو عام، وصلت دعوة من راديو «فوست فيلله» بمدينة «توبنغن» الى أحمد لتقديم برنامج موجه للاجئين والمغتربين، وهو يقدم الآن برنامجاً بعنوان: «نيو كوميرنيوز».
يقول أحمد: «ما ساعدني في الحصول على هذه الفرصة هو شبكة العلاقات الاجتماعية التي كونتها، وعملي كمترجم. في إحدى المرات استعان بي بعض المواطنين الألمان للترجمة في واحدٍ من مخيمات اللاجئين، كانت فرصةً لتشجيعهم على تعلم اللغة الألمانية مع تقديم بعض النصائح الصغيرة الخاصة بذلك، وبعدها تواصل معي أحد القائمين على الراديو وطرحت عليهم أفكاراً خاصة ببرنامج يعزز دور اللاجئين ويوصل صوتهم. تم الاتفاق على ذلك وتنفيذه بشكل جيد، ما شجع إدارة الراديو حالياً على تمديد وقت البرنامج من ساعة واحدة إلى ساعتين أسبوعياً منذ بداية عام 2017».
خضع أحمد قبل البدء لدورة تدريبية، ليصبح بعدها مذيعاً ومعداً ومراسلاً في آن واحد، يتحدث عبر أثير الراديو عن المجتمع الألماني وكيفية الاندماج وتعلم اللغة، ويحاول مساعدة اللاجىء الذي يواجه مشكلة، ويستضيف خبراء قانونيين للإجابة على الأسئلة القانونية، والإجراءات المطلوبة لكل لاجئ وصل حديثاً.
ضيوف البرنامج يتحدثون بأربع لغات: الألمانية والإنكليزية والعربية والكردية. كما يقوم أحمد بإجراء مقابلات مع نشطاء سوريين وكتاب وباحثين يعملون على مناصرة قضايا وطنهم، وبعد مجزرة خان شيخون التي ارتكبها النظام السوري بداية شهر نيسان/أبريل الماضي، قدّمَ أحمد حلقة مطولة باللغة الألمانية تتحدث عن المجزرة، كما أنه أصبح المقدم الرئيسي في البرنامج والتقني الذي يخرجه في آن واحد.
الخوف من اللاجئين
يسكن أحمد في مدينة «روتلينغن» جنوب غرب ألمانيا، ويُقدَّر عدد ساكنها بحوالي 120 ألف نسمة، منهم 4 آلاف لاجئ غالبيتهم من السوريين، وهي قبلة لكل لاجئ يرغب بالعيش في مدينة مستقرة.
إلا أن يوم الأحد 24 تموز/ يوليو عام 2016، لم يكن يوماً عادياً فيها، بعدما أقدم شاب سوري على طعن امرأة هولندية أربع طعنات ما أدى إلى وفاتها، وإصابة شخصين آخرين ألمانيين، قبل أن يتم اعتقاله.
وبحسب رواية سكان محليين، كانت الحادثة بدافع عاطفي ولم يكن لها أية صلة بالإرهاب، لكن تم استغلال هذه الحادثة وقتها من قبل النازيين، فخرجت مظاهرة مناهضة للاجئين، لكن أحمد وأصدقاؤه ممن أحبوا هذه المدينة الهادئة لم يقفوا مكتوفي الأيدي.
يقول أحمد: «خطر لي أن نقوم بتنظيم اعتصام بالتعاون مع اللاجئين بهدف إيصال رسالتنا، وهي أننا ضد العنف والإرهاب، لنؤكد خطأ التعميم والكره الحاصل تجاه اللاجئين».
وبالفعل تواصل أحمد مع أصدقائه السوريين والألمان، واتصل بمقهى «آزور كافي» الذي ينظم نشاطات خاصة باللاجئين، ثم خرجت الوقفة وقام المنظمون بتوزيع الورود، وألقى أحمد فيها خطاباً باللغة الألمانية، ومن بين ما قاله فيه: «نحن شعب مسالم، نبحث عن السلام فقط».
قام أحمد واصدقاؤه بتنظيم وقفة ثانية في مدينة شتوتغارت، أكبر مدينة جنوب ألمانيا، وترافقت آنذاك مع حصار حلب وأهلها، كما ألقى ثلاثة خطابات في مقر البلدية، شرحَ فيها ما يحصل في سوريا من قتل وتشريد وتهجير.
في ختام حديثه، يقول أحمد: «أنا هنا ضيفٌ بصراحة، لا أجد نفسي في هذه البلاد على الرغم من توفر كل شيء أريده فيها، وعلى الرغم من جمالها. سأستمرُ بدراسة هندسة المعلوماتية هنا، وإذا انتهى الصراع بعد خمس سنوات، أي تاريخ تخرجي، سأعودُ فوراً إلى سوريا للمساهمة في بنائها، سواءَ عملتُ بصفة إعلامي أو مراسل أو مهندس معلوماتية، لأن مسيرة العمل والعطاء لن تنتهي بنهاية الحرب، بل ستبدأ».