لِمَ نكتب الفكاهة في وضع كهذا؟ هل كتابة الفكاهة مفيدة؟ ماهي هذه الفائدة أو الأثر الذي نتحدث عنه أصلاً؟ الحديث عن الفكاهة كأداة مقاومة محبطٌ بعض الشيء، قد لا تستطيع أن تغيّر ما يحدث، حتى أنّها لا تجعلك أقل بؤساً بالضرورة.

ما نعايشه ليس مضحكاً بالتأكيد، لا التفكير بما يجري الآن هناك في البقعة التي تركها المرء خلفه، ولا فكرة أن تُزرَع على نحو مفاجئ في تلك الأماكن الجديدة كلها. ليس هناك شيء مضحك في ذلك، في الواقع، من الغريب أن أحدنا إذ يمشي وحده في طريق العودة إلى المنزل مستغرقاً في التفكير بواقع الأمور وما يحدث فعلاً، ألّا يتداعى ويقع أرضاً لتوّه. لا شيء أكثر حضوراً من ذلك التوتّر الذي يسري كالسمّ مفسداً كل شيء، ولكن إن تكن الفكاهة عديمة الفائدة في حال كهذه، فكذلك العويل أيضاً. على العكس أيضاً: إن نَفَعَ أحدهما سينفعُ الآخر. يستطيع الكثيرون من صانعي الفكاهة (أياً كان معنى ذلك) تمييز الحالة: قد تبدأ باستخدام النكتة عندما تعجزك السبل وتريد وسيلة تتفاوض بها مع العالم. لبعضنا هي اليد التي نمدّها لكل أولئك الآخرين الكثر من خلف ساتر زجاجي، عندما نتوجّس من اقترابهم أكثر.

لم أفكّر، مع ذلك، بامتهان الكتابة «الفكاهية»، للصراحة لا أستسيغ كثيراً ألقاباً مثل: الكاتب/ة الساخر/ة. ثقل الكلمة بذاته مضاد لطبيعة الفكاهة، وكذلك أن يقال عن شخصٍ ما أنّه يكتب الفكاهة «من قلب المأساة والألم». يبدو ذلك محاولة لشرعنة النكتة وإعطائها حقاً في الوجود طالما ارتبطت بقضية نبيلة.

في الواقع محاولة كتابة الفكاهة هي الأصعب على الإطلاق. إذا جرّبتَ كتابة كتاب جدّي وفشلت في ذلك. لا بأس. ستنضّم إلى الآلاف من زملائك من الكتّاب الفشلة. تستطيع حتى أن تصنع من ذلك ميّزةً، متهماً الذائقة الشعبية بالانحطاط. لكن أن تجرّب كتابة الفكاهة وتفشل في ذلك، أنت لستَ فاشلاً فحسب. سيتمنى الناس موتك. سقوطكَ أرضاً من على المنصّة التي تقرأ عليها وموتك على الفور. ترى ذلك بوضوح في عيونهم.

محاولة الإجابة على سؤال جدوى الفكاهة تحيلنا إلى السؤال الأولي الأكثر صعوبة بعد: «لماذا يكتب المرء أصلاً؟». الإجابات على هذا السؤال تختلف تقريباً بعدد من أجابوا عليه. تكتب لتنقذ نفسك من الجنون كما تقترح إحدى شخصيات الطاهر بن جلون في رواية الكاتب العمومي، أو لتزيح عبئاً عن كاهلك كما يقترح كازنتزاكس متحدثاً عن استلاب مراهقٍ اختفى مع إنهائه كتابة عمله الأول (الثعبان والزنبقة).

أميلُ إلى هذا الاتجاه أكثر، جدوى الإنقاذ الذاتي للكتابة. أن تنقذ نفسك أولاً قبل أن تحاول إنقاذ العالم إذ يتداعى من حولك، أثناء هذه المحاولة، قد تحمل في طريقك دون أن تدري أشخاصاً لا تعرفهم. لا بأس بهذه الصفقة.

المشكلة أنّ السعي نحو هذا الخلاص الذاتي عبر الكتابة غالباً ما يكون غائم المعالم، وقد لا ينجح بالضرورة. التاريخ حافل بضحايا هذه اللعنة. الأمر يشبه أن تُدَفع معصوب العينين في قلب الخراب. مع اشتداد الحلكة ستكون أشد رغبةً في توجيه طعنات متتابعة في قلب كل ذلك العماء المحيط. الحياة في مكانٍ ما حيث توجه ضرباتك الضريرة هذه. إذ أصبتها مرّة عندها تعرف أنّك ناجٍ، سيغمرك الاطمئنان إلى الأبد. تعرف ذلك أكثر من أي شيء آخر، رغم أنّك ستعجز عن شرح ذلك إذا سُئلتَ لماذا تفعل ما تفعله. ليست لديك أدنى فكرة، تجهل ذلك بقدر تأكدك من فكرة واحدة: الحياة موجودةٌ في مكان على مدى نصلٍ تحمله بيدك.

الذعر من الفناء جزءٌ من هذه الدوافع أيضاً. لا علاقة لذلك بأية أوهام مفترضة عن عظمة أعمالك أو رغبتك في استمرارها كاستطالة لك في الزمن حتى بعد ذهابك، بل الفعل بذاته دفعٌ لكابوس العدم، أن يُمحَى ذكرك كأنّك لم تكن. لا بأس ولكن ليس قبل أن تشغل حيزاً من هذا المكان قبل أن ترحل. أن تزرع صوتك ليستقّر في أذن سَمعت، أن تنفخ في نفسك بعناد أرواحاً عشتها، وكذلك تلك التي لم يُقدَّر لك أن تعيشها. أن تنتزع معك ما استطعت اقتلاعه في قبضتك وتحت أظافرك من أرضٍ تشبّثت بها حين ستجبر على المغادرة. يشبه ذلك المنحة الإلهية التي رفضها موسى النبي حين عرض عليه رسول الموت المساومة بقبضة شعر ينتزعها من ظهر ثور بعدد سنوات يحياها من جديد. هذا فرقٌ رئيسي: النبي هو أحد القلائل الصادقين في نية رحيلهم، ولكنّك أيها الفاجر تريد قبضةً لعينةً ملأى من شعر ظهر ذلك الثور. لا تخجل من رغبتك في أن تعيش وتوجد إلى الأبد.

ربما لا تكون الكتابة مقاومةً لرعب الفناء عن العالم وحسب، وإنما لرعب فنائك في نفسك أيضاً. انظر: التباينات بين من يكتبون وبين نصوصهم، ترى اتساع المسافة التي قطعها الكثيرون هاربين من سيرة ذاتية خانقة. مراقبة أولئك ستكون ممارسة لهو فقط، ولكنّ موضوع اختلاف الكتّاب عما يكتبونه هو من جملة المواضيع التي لا يملّ المرء منها مهما تمّ الحديث عنها وتناولها، كما مواضيع مثل تشابه الأشخاص مع كلابهم وفرضيات نهاية العالم واحتمالات ما يقع في الطرف الثاني من المرآة. انظر: لا يوجد لديك ما يؤكد ذلك، ولكن راقب كم من نصّ يجول في مساحاتٍ بعيدة عن صاحبه. الخافت الشاحب الذي لا يبارح كرسيه مراقباً العالم من نافذة زجاجية، ممن تسري نصوصه شريدة حرّة في شوارع مزدحمة غارقة في الوشوم، تمد ذراعها لمصارعة من يرغب في حانة وتقضي نحبها مرميةً على الرصيف، القساة الذين تجري الأنهار من بين أيديهم. من يرسل من سجنه في حياته النبيلة محدودة العوالم رسائل استنجاد تحملها الجرذان.

لا يوجد لديك ما يؤكد كل ذلك، ولكنّك تريد تصديق ذلك فحسب. مثلما بقية المواضيع التي لا يملّ المرء منها، إذ لا وجود لما يؤكد أيضاً شَبَه الفتاة الفارعة التي تركض على طريق ترابي في حديقة بكلبها الأسود النحيل، وأنّ لدى ابن آدم أربع سنواتٍ يحياها على الأرض بعد أن تموت آخر نحلة، وعلى هذا النحو سينتهي العالم، وأنّ ما في الطرف الآخر من المرآة ليس سوى منتهى انعكاسات متتالية يُظهر وجه من تحبّ في مرآة أخرى.

إذا قاربنا من هذا المنظور الرغبة في كتابة الفكاهة، لن تكون مختلفة عن غيرها من أجناس الكتابة. لا داعي لاستجلاب نظريات المهرج الحزين المبتذلة، ليس الأمر على هذا النحو. مثل الآخرين تريد أيضاً أن تجول في مساحاتٍ أخرى خارج حياتك غير المثيرة للاهتمام كثيراً. بعض الحيوية التي تريد استعارتها قليلاً وتجربتها أمام مرآة بعوزٍ شديد. تستطيع الادعاء أنّك حيٌّ للغاية. تمثّل دور صانع البهجة كما يفتنك أن تجرب دور الثري في محالٍ تجارية فاخرة. أن تنجو أيضاً، بدل أن تتآكل نفسك كل يوم في مواجهتك الخائفة الوحيدة للعالم، ستنقل معركتك للخارج، وليتوزع عبئها على الجميع، ليحضروا فيها أيضاً شهوداً وشركاء حتى لحظة النجاة المشتهاة، أو لحظة تفنون فيها معاً. آمين