لا أعتقدُ أن قراءة التفجيرين في طنطا والإسكندرية باللغة المتداولة، التي تفصل بين الدولة والإرهاب، ستُفضي بنا إلى الفهم. فمثل هذا التصنيف الثنائي تبسيطيٌ وتسطيحيٌ في آن، ينحو منحى النزعة الأساسية في الإعلام التي تقسم العالم بين أشرار وأخيار، وتحاكي قانون السوق الذي يُقيّم كل شيء بين مُربح ومُخسِر.

هكذا، التصنيف بين دولة/سياسة وإرهاب/عُنف هو تصنيف يضمُر حُكماً ورؤية قِيَمية، فكل ما يتصل بالدولة مشروع وكل ما يتصل بالإرهاب غير مشروع. هذا في المستوى الأول من التصنيف. أما المستوى الثاني، فهو ما ينشأ عنه من بُنية ذهنية تفترض وجود فصل تام بين هذا وذاك. فكل ما هو «دولة» لا يُمكنه أن يكون «إرهاباً» وكل ما هو «إرهاب» لا يمتّ بصلة إلى الدولة! فإذا قُلنا «داعش» مثلاً، أحضرنا عدّة مواجهة الشرّ. وإذا قلنا «النظام السوري» أحضرنا عُدة الحُكم على كيان سياسي مشروع، وإن كنّا نُدين مجازره وتدميره للحاضرة السورية أو «أخطاءه»، كما يحلو للبعض أن يسمّيها. وهكذا، إذا قُلنا «القاعدة» وأردفناها بـ «الإدارة الأمريكية»، أو كلما ضربت التفجيرات عاصمة من العواصم.

إن النظام الدولاني الذي تعود جذوره إلى منتصف القرن السابع عشر، واعتبارنا الدُول، مهما كان نظامها، أساسَ الاجتماع وذروته، يخلق في وعينا تفضيلاً أعمى للدولة على أي صيغة أخرى. ليس هذا فحسب، بل يُنتج في وعينا مفهوماً إيجابياً للدولة، واعتقاداً بأنها تجسيد للخير النسبي، إن لم يكن للخير المُطلق. وهذا مفهوم، ولو مِن قبيل أن «الدولة» تضمن سلامة الفرد ووجوده وتحمي حياته، وموجود في فرضية الفهم والرغبات والتوقعات من الدولة. وهنا، يمتزج كل هذا في إنتاج صورة محبّبة للدولة كمنظومة اجتماعية تضمن الوجود وتحميه. وإذا أضفنا إلى هذا كل ما يتّصل بالسلطة والخضوع، أو بالسلطة الأبوية والنظام الأبوي في الثقافة العربية، سنفهم لماذا نُعطي كثقافة وأفراد أفضليةً للدولة في كل ما يتصّل بالعنف الذي تستخدمه. والدولة، في أحد تعريفاتها، هي الجِهة التي تحتكر استخدام العُنف، كما أن السياسة في تجلياتها لا تعدم استخدام العُنف بل تُفضّله في بعض الأحيان، كما في بناء الأمّة أو تنفيذ مشاريع وطنية سياسية أو اقتصادية، أو الحرب الداخلية أو الخارجية لتحقيق مصالح وغايات.

ثنائية الدولة والإرهاب والخير والشرّ هنا، وميلنا الفِطري إلى تفضيل الدولة، يُصعّب علينا قراءة الأحداث خارج هذا التصنيف المِفتاح. وتصير المسألة شبه مستحيلة إذا نظرنا إلى حقيقة وجود إرهاب أصولي عنيف بدرجات استثنائية أو بصور مروّعة، كجزّ أعناق العشرات في مشهد أُخرج بعناية و«فنيّة»، أو إحراق أناس وهم محبوسون داخل أقفاص، وما إلى ذلك من صور جهنمية.

نقول مستحيلة لأن «الدول» في سعيها إلى التميّز عن الإرهاب، تشن حملات متتابعة ضد منظماته، الحقيقي منها أو المتخيّل. هذا ناهيك عن أطنان الكلام والصور والتمثيلات التي تُستثمر في اتهام «الإرهاب» بكل شيء. وإذا كانت الدول العربية خاصتنا قائمة على استعداء الاستعمار وقواه والرجعية لبناء شرعيتها بين الجماهير، فهي في مسألة الإرهاب، والأصولي منه تحديداً، تتشارك مع «الاستعمار» و«الرجعية» في محاربة «الإرهاب» والسعي إلى دحره وتخليص العالم من شُروره. والمفارقة أن كل الدول والأنظمة، مهما كان أصلها وفصلها، تغسل وتُطهّر سياساتها وسمعتها وأروقتها من خلال «الحرب على الإرهاب».

وهناك من الأنظمة مَن يكسب شرعيته الخارجية ومشروعيته الداخلية مقابل مواطنيه من خلال تبنّي خطاب «معاداة الإرهاب»، أنظروا كم نظاماً حولنا يفعل ذلك؟ بمعنى، أن مفهوم الدولة في هذه المعادلة صار النقيض لما هو «إرهاب»، أو أن مفهوم «نظامٍ» ما في دولةٍ ما هو تلك القوة التي تُحارب «الإرهاب». ولأن مفهوم «الإرهاب» غير واضح تماماً، متحرّكٌ ونسبي، فإن مفهوم «الدولة» و«النظام» فيها نسبيٌ، أيضاً، ومتحرك.

إذا كانت الدولة هي الخير، فإننا سنتمحور في الإرهاب ونحلّل جذوره وأسبابه، ونتحرّى وراء مُحدثيه ودُعاته باعتباره «الشرّ» الذي يُهدّد «الخير»! ومن هنا فإن الإنتاج لا ينفكّ حاصلاً لقوالب وأدوات تحاول «السيطرة» على هذا الشرّ وتفادي ضرباته. فما أن نذكر الإرهاب، حتى يعود بنا البعض كفعل بافلوفي إلى «الوهابية»، ويُمطرها بوابل من الشتائم فيقضي على الإرهاب ويُريحنا. وما أن تقع حادثة عُنف إجرامية في طنطا أو غيرها، حتى ينظِّرَ علينا البعض عن أهمية فصل الدين عن الدولة وأهمية الإسلام المعتدل في إلحاق الهزيمة بالإسلام الراديكالي، كأن الإرهاب صنو الدين، والإسلامي منه على وجه التحديد.

صحيحٌ أن لذلك أسباباً موضوعية تتصل بممارسات قوى سياسية، تدعي اعتماد الإسلام نصًاً وعقيدةً، لكن صار لزاماً أخلاقياً وسياسياً أن نفكّ الارتباط بين المصطلحين ـ ليس رغبةً منّا في حُكم مُنصف على ما نسمّيه «قوى الإسلام السياسي»، بل لضرورة فهم ما يحدث ورسم الحدود واضحة بين الدول والأنظمة كأكبر مُنتج للعنف والتدمير، وبين حصّة «الإرهاب» منه، وذاك التداخل التكاملي بين هذا العنف وذاك، وبين استفادة الدولة من الإرهاب واستفادة الثاني من وجودها.

تُنتج ثنائية الدولة/الإرهاب وهماً بأن الدولة ابنة السياسة، معصومة تجسّد المعقول وتميّزه عن الإرهاب أو العنف، الذي هو غير المعقول. هذا وهْمٌ قاتل ناهيك عن كونه ساذجاً وخاطئاً، كما هو افتراض اقتران الدين أو الفكر الديني بالعنف. وهو افتراضٌ، أيضاً، يرفضه تاريخ الدولة على تنوّع الأنظمة السياسية فيها ومكانة الدين في اجتماعها، فلا الدينُ حصراً هو الذي يُنتج العنف والإرهاب، ولا الدولة هي المنزّهة عن العنف وما اصطلحنا على تسميته إرهاب الدولة.

وإذا نظرنا إلى سورية تحديداً كمسرح للعنف المدمّر، سنكتشف مدى ضلوع الدولة/النظام في العنف والإرهاب، باعتبار الإرهاب سلوكاً عنيفاً يُقصد به تحقيق أهداف سياسية. فالنظام ضالع حتى أذنيه، عبر كل تاريخه، في تصفية خصومه وتدمير حواضر السوريين، وفي جرائم ضد الإنسانية وتطهير عرقي واستعمال الغازات السامة المحرمة دولياً، ولكلٍ من هذه الجرائم، التي هي إرهاب دولة، أهدافٌ سياسية.

وهو أيضاً ضالعٌ تماماً في استثمار «الحالة الداعشية»، تاجرَ معها بالنفط والغاز والأسلحة حيث استطاع واستفاد، واتفق معها على مناطق نفوذ شرطَ أن تقاتل بدله على جبهاتٍ ضد الجيش الحرّ أو أحرار الشام. وقد سمحَ لها باجتياح مناطق كاملة، تدمُر مثلاً، لأغراض التكتيك والمناورة. ومثل سورية النظام فعلت تركيا والعراق والولايات المتحدة وإيران وروسيا، وغيرهم من لاعبين رأوا أن يستفيدوا من داعش كعنوان للإرهاب، بل رأيناهم مجتمعين أو منفردين يغذّون الظاهرة ويناورون بها. وما ينسحب على داعش كعنوان للإرهاب ينسحب على كل حالة تُعرَّف على هذا الأساس، مثل القاعدة ومرادفاتها وطالبان ومرادفاتها.

أما الدول التي تحاول أن ترسم حدوداً فاصلةً بين شرعيتها وبين لا شرعية الإرهاب، هي نفسها من أكبرها إلى أصغرها تلجأ إلى «أعمال بشعة» بواسطة وكلاء، في إطار تحقيق مصالحها أو مصالح المتنفّذين فيها. فالولايات المتحدة مثلاً، ومنذ حرب الخليج الأولى، تعتمد على خدمات شركات خاصة وأخرى مشبوهة فيما يتصل بأمنها في منطقة الخليج. وهي تلجأ إلى مرتزقة وقتلة مأجورين، وإلى «مجموعات ضاربة»، تجنّدها في مشاريعها وتكتيكاتها. والدول الأخرى غير متخلّفة عنها في استعمال هذه الأدوات نفسها. ولا نُغالي إذا قُلنا مثلاً إن دولاً كثيرة تستعمل جهات مشبوهة لتوتير الأوضاع في دول أخرى أو مجاورة، لابتزاز سياسات ومصالح من خلال عمليات تفجير أو إرهاب! سورية النظام استعملت ذلك دائماً في لبنان والأردن وتركيا والعِراق، على سبيل المثال. والأمر ذاته قامت به إيران.

نسوق هذه الأمثلة للتأكيد على أن الدول ليست نقيض الإرهاب، ولا هي معصومة عنه، وليست السياسة والدبلوماسية وسيلتها دائماً، ولا المفاوضات أو الاتفاقيات، فهي تمارس أنواعاً لا حصر لها من أفعال العُنف وأعماله التي تخدم مصالحها.

والنقطة الأخيرة الشائكة، هي المتصلة بربط الدين بالعنف واعتبار الدين مادة تقع خارج الحيز السياسي. نحن، العلمانيون، يستهوينا ذاك الحديث «المتنوّر» عن فصل الدين عن الدولة، وقد أنتجنا منه أدبيات على طول الكرة الأرضية وعرضها. وللحقيقة نقول إن المشاريع القومية عبر العالم ومشاريع بناء الأمم والهويات ومشاريع الطوائف والإثنيات والأعراق والأيديولوجيات العلمانية تماماً، كالشيوعية أو الاشتراكية، كلها سياسات أنتجت عُنفاً مدمّراً ومروّعاً، ونذكر الستالينية أو النازية كمثالين لإنتاج عُنف لا متناهٍ. ونأخذ المشاريع القومية مثالاً، إذ كم من الدماء سُفكت من أجل تحقيقها في كل بقاع الأرض؟ للتأكيد على أن العنف غير كامن في تسييس الدين أياً كان، بل سابقٌ له تاريخياً ومُحايثٌ له في أقلّ تقدير. بمعنى أن الدين وحده شرطٌ غير كافٍ لتوليد العُنف، خاصةً أن حقبا تاريخية ومواقع جغرافية شهدت تديناً عاقلاً وسلطات دينية معقولة، أو قادرة على تنظيم الاجتماع على نحو غير دموي، كما يُريدنا البعض أن نصدّق كلما ضرب الإرهاب موقعاً من المواقع.

إن ما نشهده من عُنف ليس نابعاً من الدين، أي دين، بل من السياسة بوصفها الحيز الأوسع الذي يُمكنه أن يستثمر الدين، أي دين، ويُعطيه معناه المحدد كمادة في تركيبة السياسة والفعل السياسي. هكذا كان بالنسبة للقومية والمشاعر القومية، وهكذا بالنسبة للعقائد الشمولية واليوتوبيات المختلفة، أيضاً. لنعد بالذاكرة والتاريخ إلى النصف الأول من القرن الفائت، لنرصد أداء الحركات الماركسية أو حركات التحرّر، التي كان عُنفها مشروعاً ومحبّباً وبطولياً بالنسبة لمناصري اليسار وحركات تحرر الشعوب! يومها، أيضاً، نعتتها الرأسمالية والاستعمار بالإرهاب!

بمعنى أن السياسة المعمول بها هي التي تمنح المعنى للدين، أي دين، وللحركات الدينية. وعندما أقول السياسة، أقصد كل اللاعبين في الساحة بمن فيهم المتدينون وأنصار الدين ومرجعياته. أي أن فهم ما يحصل لا يستدعي فصل السياسة عن الإرهاب، بل رؤية الإرهاب كجزء من السياسة، وكفعل تأتي به الدولة مثلما يأتي به الخارجون عليها، لأن الفصل التام كما هو حاصل، يُلقي بتبعية الأحداث كلّها على عاتق ما نسميه إرهاباً أو «إرهاباً دينياً» أو «أصولية»، بينما المسؤولية هي بالأساس مسؤولية الدول والأنظمة التي اتخذت «الإرهاب» في كثيرٍ من الأحيان، شريكاً تكتيكياً في تحقيق مصالحها، خاصة ضد شعوبها، وللانقضاض على فكرة المواطنة والحريات والديموقراطية.

بعبارة أخرى، الإرهاب هنا هو نِتاج سياسات الأنظمة والدول في حدودها أو في حدود العولمة الحاصلة، ويصير الإرهاب في الحالة المِصرية التي بدأنا الحديث بها، شمّاعةً للنظام وحلاً تبسيطياً لأزمة مُستفْحِلَة أنتجت الإرهاب أو استقدمته من جوف الاجتماع ومِن مواقع القهر والإقصاء. ولا يكون الإرهاب أبداً كائناً مستقلاً في هذه الحالة، بل مندمجاً في الدولة السائلة أصلاً وجزءً من مشاريعها وتكتيكاتها، وورقة بين الأوراق السياسية الملعوبة، لا كائناً خارجياً.

وعليه، فالتفجيرات في طنطا والإسكندرية، وهجوم المنيا الأخير، وداعش والقاعدة والخطر الإرهابي على حدود المملكة الأردنية، والخطر من انفجار العنف في لبنان، كلها وغيرها تندرج ضمن اللعبة السياسية التي تشمل حسابات المصالح والدين والطائفة والقومية والاقتصاد والاستراتيجيا والحلفاء والأعداء وسواهم، كل اللاعبين معنيون بمصالحهم، والسياسة هي في أحد تجلياتها استعمال القوة (الناعمة والمكثّفة وفائض القوة والقوة الاستثنائية المعلنة والمستترة) لتحقيق المصلحة.

وكثيراً ما تُنتج الدولة تلك القوة، التي تُنتج بدورها «إرهاب الدولة» ونقيضه، لكن يحدث أن يمتزج النوعان في هدف واحد، وحدثَ أن كرَّسَت الدولة عُنفها في توجيه الإرهاب ضد الشعوب ومصالحها خاصة، إذا عرفنا أن «الدولة» قد تكون نحيفة على مقاسات نظام أقلويّ أو حاكم دكتاتوري!