1
يستهل مهدي عامل كتابه في الدولة الطائفية بتحذير من شراسة الحرب على «جبهة الفكر»: «كأن تفكر، مثلاً، بفكر خصمك. إنها ضربة قاتلة. أعني لاغية كل اختلاف به يتميز فكرك من فكر خصمك».
بين الثورة والحرب الأهلية، خط تماس متحرّك، شهد في الآونة الأخيرة تقدّماً لطرف الحرب الأهلية بعد انضواء مجموعات عديدة تحت لوائه. فباتت جبهة الثورة تدافع عن معقلها الأخير، وهذا بعدما خسرت امتداداتها، جزئيا جراء قرار «اليسار» رفع لواء الحرب الأهلية، بعد فشله في رفع مقولة المؤامرة. أما الطرف الثاني، فباتت صفوفه تزداد كل يوم مع دخول فئات جديدة رأت في الحرب الأهلية مخرجا لبعض معضلاتها. فلمن أضاعتهم كثرة الروايات وصراعاتها، جاءت رواية الحرب الأهلية لتقدّم ادعاء الموضوعية في ظل بحر الذاتيات المتصارعة. ولمن أخافهم العنف، رأوا في انتسابهم لجبهة الحرب الأهلية مخرجا أخلاقيا من دوران العنف وتعدد ضحاياه. فانضموا وغيرهم لجبهة، شكّل عمودها الفقري، المسار التفاوضي الذي واكب الأحداث، والذي قام منذ «جنيف 1» على فرضية صراع أهلي، يحتاج إلى مرحلة انتقالية، تضع جانبا روايات الطرفين، أي الثورة والمؤامرة.
وفي هذه الحرب الطويلة الأمد، أصبح لكل فريق طقوس وتقنيات للتأقلم مع واقع العيش في الخنادق. فسيطر على طرف الثورة شيء من النوستالجيا تجاه الأشهر الأولى للثورة قبل سرقتها وغدرها وتخلي العالم عنها. وتخلل الاشتباكات مع الخصم لحظات بحث وتنقيب في ركام الحاضر عن إشارات لجذور الحاضر الثورية. أما في المقلب الآخر، فباتت العبثية، وإن كانت كاذبة، هي عنوان المرحلة، تقوم على اعتبار الثورة أو غيرها من المفاهيم الحديثة مجرّد أقنعة لصراعات أزلية تتلبس زي الحداثة قبل أن تنفلت وتقضي عليها. ومع كل يوم يمرّ على هذه الجبهة، تزداد الحرب الأهلية قوة لكونها التعبير الأدّق على حالة هذا التواجه. فبين رواية فقدت معناها ورواية لا تعترف بالمعنى أصلاً، تجد الأحداث السورية نفسها في سياق يفتقد لخاتمة، وما هي الحرب الأهلية إن لم تكن صراعاً فقد خاتمته ليصبح بلا أفق خارج دوران العنف اللا-متناهي؟
2
هذا الاستقطاب ليس مفهومياً فحسب، كما يحاول البعض تصويره، بل هو بالأساس سياسي. فالثورة والحرب الأهلية مفهومان من الصعب تحديدهما بدقة تسمح بحسم النقاش في اتجاه أو آخر. فهما يتشاركان سمات عدة وينتميان إلى عائلة المفاهيم ذاتها، ويتّسعان سوية لضمّ الحدث السوري، هذا إذا تخلينا عن التعريف القيمي لكليهما. إذ تقاطعت تاريخياً تجارب الثورات والحروب الأهلية لتشكل واحدتُهما مرحلة من الأخرى، وغالبا ما تتحدد التراتبية حسب تطور الأحداث. بهذا المعنى، يمكن القول إن الحروب الأهلية هى ثورات فشلت، والثورات حروب أهلية نجحت. بيد أنّ التقارب على صعيد المفاهيم لن يخفف من شراسة الجبهة، كون الصراع سياسياً في الأساس، ويطال شكل الخاتمة المفترضة للأحداث الدائرة في سورية اليوم. فكما كتب محمد العطار وعدي الزعبي في شباط 2013
ليس من عيب في هذا التوصيف، إلا عيب الوعي الزائف الذي يعتبر تصنيفه للأحداث سابقاً لموقفه السياسي منها. ومن ضحايا هذا الوعي الزائف بعض من جماعة «الممانعة» الذين يطلقون صفة «الحرب الأهلية» على أحداث سورية منطلقين من ادعاء التجرّد العلمي ليؤكدوا مواقفهم السياسية السابقة على عملية التجرّد هذه. فتبدو سورية حسب هذا التحليل جزيرة منفصلة عن باقي المنطقة، تسقط على حدودها المفاهيم السياسية الحديثة. فلا يجد دعاة هذا التحليل تناقضاً بين استعمالهم مفردات كالمقاومة والثورة ومحاربة الطغيان ودحر المحتل في وصف الأحداث الجارية في لبنان وفلسطين والعراق. ولكنهم يكتشفون فجأة الطائفية والمجتمعات المفككة والعنف الأعمى عندما يصلون إلى سورية. كما أنهم لا يرون من مخرج لحربهم الأهلية إلا بعودة نظام الأسد، الذي لا يتحوّل إلى طرف في حرب أهلية، بل يبقى «حديثاً» ويمثل القطب الدولتي الذي يمنع التشتت الاجتماعي. فالحرب الأهلية عند الممانعين هي مجرّد تعطيل مؤقت للثورة، تنتهي صلاحيتها مع عودة النظام.
في ظل الابتزاز الذي يتضمنه هذا الموقف، يبدو أن ما من بديل عن الثورة سياسياً لتعطيل أي مخرج يراد منه عودة النظام، وهذا بغض النظر عن قدرة هذا المفهوم على التقاط طبيعة الأحداث. فهي ثورة طالما هناك نظام يبيد شعبه بشتى الطرق، مدعوماً من دول وجماعات تساهم بعملية القتل هذه. فبالعودة إلى مهدي عامل، إذا كان عنوان المعركة هو الحفاظ على الاختلاف، تبقى الثورة هي الموقف الوحيد في عملية الابتزاز البنيوي والإشارة الوحيدة لحل لا يكون مجرد عودة إلى وضع ما قبل آذار 2011. إنّها ثورة ليس لأنها تنبئ بمستقبل أفضل بل لأنها تؤكد على اختلاف المستقبل عن الماضي المعروف.
3
إذا ابتعدنا بعض الشيء عن الجبهة ومتطلباتها، لن نجد الموضوعية والتجرّد اللذين يطمح إليهما الباحثون كمخرج من السياسة، بل سنقع على تاريخ طويل للمفاهيم السياسية. فتواجه «الثورة» كفعل سياسي تحرري مع «الحرب الأهلية» كدوران للعنف «العبثي» هو صراع يجري على ملعب «الثورة»، وهذا بالرغم من التفوق الحالي للحرب الأهلية، أي على ملعب حددت معالمه الحداثة السياسية وفرضت عليه مفاهيمها وفرضياتها. وفي عملية إعادة الترتيب والتعريف، التي شكّلتها الحداثة، تمّ ترقية مفهوم الثورة إلى النموذج الأساسي لعملية التحوّل الاجتماعي والطريق الملكي لإعادة تركيب المجتمعات. فكما كتب المؤرخ الألماني راينهارت كوسيليك، تحوّل مفهوم الثورة حوالي القرن الثامن العشر من مفهوم يقوم على فكرة الدوران والعودة إلى البدء، ليأخذ طابع القطيعة التاريخية والتحوّل الاجتماعي.
أصبحت الثورة الطريق الأساسي للتغيير، أكان في السياسة أو العلم أو الصناعة. فبات هناك ثورات في شتى المجالات، ما يتطلب إعادة تعريف عدد من المفاهيم «ثورياً»، بدءاً من الشرعية والعنف اللذين أصبحا ثوريين، وصولاً للطليعة والقطيعة اللتين حددتا طابع التاريخ. ومن بين هذه المفاهيم، مفهوم الحرب الأهلية الذي تحوّل إلى النقيض العبثي للثورة، وأخذ طابعه المغلق على ذاته بالمقارنة مع فتح الأفق الذي مثلته الثورة. وعندما لم تشكّل الحرب الأهلية نقيض الثورات، شكّلت مرحلة لا بد منها من سيرورتها التاريخية، كما جاء في بعض كتابات لينين، لتأخذ معناها من نسبها للثورة. ومنذ هذه اللحظة، بات هناك استقطاب بين قطبي الفكر السياسي، أي الثورة والحرب الأهلية، يقوم على عدد من المقابلات: صراعات حول المستقبل مقابل خلافات قائمة على رواسب من الماضي، طليعية تحرّك الثورات مقابل رجعيات يحرّكها العنف الأهلي، عنف سياسي مؤسّس مقابل جنون أهلي مهدّم، انفتاح الأفق مقابل دوران عبثي، تحرر إنساني يطمح إلى الكونية مقابل رجعيات تعود إلى المحلي.
4
رغم جاذبية هذه الافكار سياسيا واستمرار سيطرتها على المخيلة السياسية، شهد تاريخ المفاهيم حربا خلال العقود الأخيرة دارت حول الحداثة وإرثها، وأدّت إلى التشكيك ببعض من مسلماتها. ومما سقط جراء هذا النقد النظري، مفهوم الثورة أو على الأقل الترسانة المفهومية التي قدّمت للثورة معانيها العديدة. وهنا يلتقي تاريخ الأفكار مع حاضرنا، رابطا بين حرب فكرية انتهت بتشكيك وأخرى سياسية تقوم على التأكيد. هذا ما يفرض علينا، نحن القابعين في ركام هذه الحداثة من جهة وفي خنادق سياسية من جهة أخرى، إعادة تخيل إمكانيات وحدود واقعنا الحالي وكيفية تغييره. فإذا كانت «الثورة»، كمفاهيم أخرى مثل «العلمنة» أو «الدولة» أو «التقدّم»، مرتبطة عضوياً بالسيرورة التاريخية التي عُرفت بالحداثة السياسية، فإن التشكيك المتزايد بهذه الرواية التاريخية يتطلب إعادة تعريف لهذه المفاهيم وطرح سؤال جدوى الاستمرار بتخيل مسألة التحوّل الاجتماعي من خلال المفهوم الحديث للثورة، كما يسأل دايفيد سكوت.
إذا كانت الثورة قد روضت الحرب الأهلية في لحظة صعودها، فإن الحرب الأهلية عادت لتستقطب الأنظار بعد انتهاء الحرب الباردة. فكما لاحظ العديد من المرقبين، بعد ضمور الصراعات بين الدول وانكشاف الغطاء الأيديولوجي للصراعات، باتت أكثرية النزاعات في العالم تأخذ شكل الحروب الأهلية، لتتحول الثورة إلى مرحلة من مراحل هذه النزاعات الداخلية. في هذا الإطار، يذهب دايفيد أرميتاج في كتابه الأخير أبعد من ذلك، معتبراً الحرب الأهلية النص المؤسس لكافة النزاعات السياسية، ومنها الثورات.
5
قد لا تكون هذه النبذة عن تاريخ فكرة الثورة مفيدة في الصراع الحالي. فإن باتت الثورة مرادفاً لمطلب إزاحة النظام من مستقبل سورية والتأكيد على حصول حدث كسر مع سياقات عدة، فهذا كاف للتمسك بها، رغم كل المفاهيم وتواريخها وانتهاء صلاحيتها. هذه الجبهة باقية طالما هناك نظام. ولكن إذا ابتعدنا بعض الشيء عنها، وطرحنا سؤال مستقبل الحدث السوري وطبيعة الانعطاف الفكري الذي يجب اتمامه للحفاظ عليه، فالتقليد الثوري، أو محاولة إحيائه، قد لا يكون الطريق الوحيد المتاح، هذا إذا كان من الممكن احياؤه بعد تساقط ترسانته الفكرية. فإذا قبلنا بعضاً من النقد الذي قُدّم للحداثة السياسية، يتحول السؤال من واحد يطال طبيعة الأحداث (هل هي ثورة أم حرب أهلية؟) إلى آخر معياري يرتبط بطبيعة تقييم الأحداث (هل نريد الاستمرار بالثورة كالأفق الوحيد لتخيل التغيير الاجتماعي والسياسي؟). قبول هذا السؤال لا يعني الاندفاع نحو ليبرالية متعافية من رغبة الثورة، أو العودة إلى مرحلة «ما قبل الحداثة» كما يخشى البعض، بل مجرّد قبول فكرة أن للمفاهيم تاريخاً يحكم تطورها، وأن هذا التاريخ يضمّ الحداثة ولا ينتهي معها.
لا يقدّم تاريخ الأفكار أجوبة على أسئلة الحاضر، وبالتالي لا يفيد في الصراعات الفكرية الراهنة. لكنّه يسمح بتأريخ السؤال المطروح، وربّما اكتشاف حدوده. فربّما علينا اليوم الكف عن البحث عن أجوبة جديدة لسؤال الثورة القديم، والبحث عن أسئلة مختلفة قد تكون أكثر ملاءمة لواقعنا المتغيّر. فعن سؤال اليوم، قد تشكّل «الثورة السورية» الإجابة؟