في السادس والعشرين من نيسان من عام 1937، ارتكبت طائرات تابعة لسلاحي الطيران الإيطالي والألماني، الحليفين الداعمين لقوّات الجنرال فرانكو ضدّ القوات الجمهوريّة الاسبانية في خضمّ الحرب الأهلية في اسبانيا، مجزرة مروّعة في غرنيكا، البلدة الباسكيّة ذات الثقل التاريخي والرمزيّة الكبيرة للهويّة القوميّة المحلّية. لا يُعرف حتى اليوم عدد ضحايا تلك المجزرة بدقّة، وإن تراوحت التقديرات ضمن نطاق المئات، لكنّ الأخبار المتداولة حينها تحدّثت عن أعداد تجاوزت الألف، قُتلوا في قصف شامل، بأسلوبٍ تمشيطي استُخدمت فيه القنابل والصواريخ والرشاشات. ورغم أن التبرير العسكري للقوّة المغيرة تحدّث عن قصفٍ لأهداف تكتيكية بقصد قطع طريق الانسحاب للقوّات الجمهوريّة، إلا أن بقاء الجسر المُجاور للبلدة سليماً رغم تدمير حوالي 70٪ من البلدة يجعل تصديق هذا الهدف صعباً، مُحيلاً إلى توقّع أن المُهاجمين كانوا يريدون للبلدة الرمزيّة مجزرة، وفقط مجزرة.

كان بابلو بيكاسو قد تلقّى مطلع ذلك العام، أي قبل عدة أشهر من المجزرة، طلباً من الحكومة الجمهوريّة الاسبانية كي يرسم لوحةً ضخمة لعرضها في الجناح الاسباني في المعرض الدولي المُقام في باريس في وقت لاحق من ذلك العام. بطبيعة الحال، ولأن الحكومة الجمهوريّة كانت تخوض حرباً أهليّة ضد فرانكو منذ ستّة أشهر حينها، وباعتبار أن موقف بيكاسو في تلك المعركة كان واضحاً لصالح الجمهوريّة ضد الانقلابيين القوميين، كان هذا الطلب محاولةً لاستثمار مكانة بيكاسو الفنّية في الساحتين الفرنسية والدوليّة لحشد التأييد للجمهورييّن ضد قوميي فرانكو. كان بيكاسو قد بدأ التخطيط لتلك اللوحة الضخمة، لكن الأنباء القادمة من غرنيكا في نهاية نيسان جعلته يقرر تخصيص هذا العمل الفني لتخليد ذكرى المجزرة، ولتجسيد معاناة البشر من ويلات الحرب المسكوبة عليهم من السماء.

لم يستخدم بيكاسو في الجدارية أيّ رموز سياسيّة مباشرة، كما لم يُدخل في اللوحة -عدا عنوانها- ما يُشير إلى مكان وزمان المجزرة. قرر بيكاسو التعبير عن الهَول عن طريق أجساد، منها بشريّ الملامح، كالمحارب والرجل المتضرّع إلى السماء، والأم المتفجّعة التي تحمل طفلها بطريقة تُذكّر بمنحوتة الـ «بيتتا» لميكال أنجلو؛ ومنها حيواني، كالثور والحصان. تتجمّع الأجساد وتتجاور في اللوحة لتشكّل، بمجموع تعابيرها وشكل نظراتها، سيمفونيّة من الهلع والذعر. لقد أراد بيكاسو إيصال معنى الفظاعة في لوحة، وكان له ما أراد.

بعد نهاية الحرب الأهلية الاسبانية، مرّت اللوحة، التي اشتهرت مبكراً وأضحت رمزاً مهماً من رموز مناهضة الحروب والأهوال التي تسببها على حياة الناس، في معارض مؤقتة داخل وخارج أوروبا، قبل أن تستقر -بناءً على طلب الرسّام- في متحف الفنّ المعاصر في نيويورك. وفي عام 1981، وبناءً على وصيّة الرسام أيضاً، نُقلت اللوحة إلى مدريد مع عودة الديموقراطية إلى اسبانيا بعد وفاة فرانكو عام 1975، لتستقر في متحف الملكة صوفيا وسط مدريد.

أُعيد استخدام الغرنيكا جزئياً أو كلياً في أعمال فنية كثيرة، خصوصاً تلك المتعلقة بخطاب مناهضة الحروب والتضامن مع الضحايا المدنيين، وآخر ما اشتُهر من هذه الاستخدامات لوحة «غرنيكا 2015» لجافشو سافوف، وتظهر فيها شخصيات اللوحة الأصلية، لوحة بيكاسو، وهي تغرق على قارب خشبي صغير وسط البحر، وفي العمق سفينة ضخمة، تُشبه عابرات المحيطات السياحية.

*****

رسم غوجا لوحة «إعدامات الثالث من أيار» عام 1814 ضمن مشروع من أربع لوحات، أراد عبره تشريف ذكرى انتفاضة الثاني من أيار من عام 1808، والتي أطلقت شرارة حرب التحرير الاسبانيّة ضد احتلال فرنسا البونابرتية. لم ينجُ من ذلك المشروع حتى يومنا هذا إلا لوحتان، «إعدامات الثالث من أيار» المذكورة و«هجمة المماليك»، المشهورة أيضاً باسم «الثاني من أيار 1808».

تُعتبر لوحة غوجا منعطفاً هاماً في تاريخ الرسم، ويعتبرها بعض النقاد الأكاديميين، مثل كينيث كلارك، فاتحة عهد الفن المُعاصر، ذلك بسبب التجديد في أسلوب اختيار ورسم الشخصيات، والابتعاد عن الاستخدامات الرمزيّة السائدة حتى حينه، والتقنيات المستخدمة التي بدت وكأنها تتنبأ بالمدرسة الانطباعيّة القادمة بعد عقود. ليس في لوحة غوجا شخصيات تاريخية شهيرة، ميثولوجيّة كانت أم «واقعية»، بل نجد فيها كتلتين من البشر: ضحايا وقَتلة. الضحايا منهم من قُتل، ومنهم من ينتظر لحظة الإعدام فوق جثث من تم إعدامه قبلاً، أو ينظر بهلع للمصير الذي ينتظر المجموعة التي تُوجّه إليها بنادق الجنود. تمثّل مجموعة الأشخاص، التي ترصد اللوحة اللحظات السابقة على إعدامهم، كل احتمالات الأوضاع التي يمكن أن يواجه فيها المرء حتفه: متحدّياً ورافعاً يديه، كالشخصية المركزيّة، الأكثر تلقياً للضوء، أو جاثياً في وضع الصلاة، أو متجمداً من الذهول، أو مغطياً الوجه بيديه مذعوراً. أراد غوجا من هذه التنويعة تحيّة أهالي مدريد -الناس العاديين، الشعب- المنتفضين في وجه الاحتلال الفرنسي، في حين تم تمثيل الاحتلال بنسق مُوحّد، رمادي، ومظلم، ولا وجوهاً مرئية لعناصره.

*****

للوحتين المُشار إليهما مكانة كبيرة على مستوى الاستخدام الأيقوني لإعلاء شأن النضال من أجل القيم الإنسانيّة، ففي الأولى تصوير لفظاعة ما تتسبب به حروب الأقوياء على الضعفاء، المدنيين العُزّل؛ في حين تُحيي الثانية انتفاضة أصحاب الأرض المُحتلّة ضد محتلّيهم، ومواجهة السلاح، المتفوّق بقوّته، بالجسد الأعزل. أيضاً، لكلا اللوحتين، لارتباطهما بحدث تاريخي مُعيّن، مكانة الوثيقة التاريخية التي لا بُدّ وأن تظهر عندما يتم التطرّق للحدث في الكتب أو المواد الصحفيّة أو الأفلام التوثيقية، بل أنهما باتا أكثر شهرةً من الحدث نفسه. لم يكن «التوثيق» غاية بيكاسو أو غوجا، فهما ليسا شهود عيان. كان بيكاسو في باريس حين حصلت مجزرة غرنيكا، ولم يُشاهد بنفسه، عيانياً أو بصور حيّة ومباشرة، نتائج القصف الإيطالي-الألماني على غرنيكا، في حين كان غوجا في مدريد فعلاً حين حصلت انتفاضة الثاني من أيار 1808، لكنه لم يكتب يوماً أنه شارك فيها، أو أنه كان عند تلّة برينثبي بيّو فجر الثالث من أيار من عام 1808، أو أنه شهِد أيّ إعداماتٍ بنفسه على أرض الواقع.

في حين يُقال أننا نعيش اليوم زمن ما-بعد الحقيقة، لا يعني ذلك أن أياً من الرسامَين قد عاش «زمن الحقيقة» الذي يُفترض أنه سبق عصرنا هذا. كلاهما عاش زمناً، ككل الأزمنة، تُستخدم فيه البروباغندا في الصراعات السياسية والحربية، ويحدث أن يُستخدم الكذب والتزوير والتهويل فيهما. ميزة زمننا هذا، زمن ما-بعد الحقيقة الذي، مجدداً، لا نعرف متى انتهى زمن الحقيقة الذي سبقه، تكمن في مأسسة الكذب بوصفه كذباً، أو، بالأحرى، بوصفه «حقائق بديلة»، حسبما تُسمّيه ماكينة الخطاب البوتينية-الترامبية. ليست غاية «الحقيقة البديلة» أن تُقدّم نفسها بشكلٍ يُصدّق بما لا يقبل مجالاً للبس، بل أن وظيفتها تقتصر على أن تبدو كل الحقائق وكأنها «بديلة»، أي نفي وجود «حقيقة»، وبالتالي نفي وجود «معنى»، ونفي وجود «معاناة» أيضاً. هل حصلت مجزرة أم لا؟ ليس هناك «حقيقة» واحدة ترد على هذا السؤال، هناك «حقائق» كثيرة، ووظيفة المرء، حول العالم، أن يضيع بينها، وأن يقضي حياته ضائعاً بين ضياعات كثيرة، إلى أن يستسلم لضياعه ويملّ من محاولة «المتابعة» و«الفهم» دون جدوى، وضمن هذا الضياع والملل ينسى تماماً أن هناك «حقيقة» مؤلمة من طراز أن هناك بشراً يموتون. هكذا، ليس هناك أكثر من نصف مليون ضحيّة في سوريا منذ عام 2011، بل هناك نصف مليون «حقيقة بديلة»، أو أكثر.

«من الصعب جداً فهم ما يجري في سوريا، واتخاذ موقف بشأنه»، هذه هي إحدى الجمل الأكثر استخداماً حول العالم بشأن سوريا. لم يُجهد غوجا أو بيكاسو نفسهما في التوثيق لأنهما لم يكونا محكومين بمثل هذه الجملة، لم يعيشا زمن ما-بعد الحقيقة. ما معنى لوحة مثيلة للغرنيكا عن أطفال خان شيخون، أو كرم الزيتون، أو الغوطة، أو الحولة، في زمن روسيا اليوم؟

*****

يبدو الجسد، بين معمعة «الحقائق البديلة»، وكأنه علامة أصالة. بالإمكان التعامل معه وكأنه الإشارة الزرقاء التي توضع على حسابات وصفحات فيسبوك وتويتر لتوثيق ملكيّتها. إظهار الجسد في صورة أو في مقطع فيديو، الـ «سيلفي»، هو طريقة لتوكيد اللقطة، لدمغها بإشارة الأصالة: كنت في ذلك المكان، في ذلك الزمان. نلتقط السيلفي في موقع سياحي شهير لنؤكد أننا «كنا هناك»، ويحدث أن يُصوّر مواطن- صحفي، أو حتى صحفي محترف، نفسه في مكان وزمان تغطية حدثٍ ما، وكأنه يثبت للآخرين، ولنفسه، أنه كان «هناك» في «تلك اللحظة».

من المُسلّي التفكير في أولئك السياح الذين يحاولون مُغافلة حُراس قاعات متحفي الملكة صوفيا والبرادو، حيث تقبع لوحتا الغرنيكا وإعدامات الثالث من أيار، لالتقاط السيلفي أمام اللوحتين: يوثّقون «الآن» والـ«هُنا» على كاميراتهم وموبايلاتهم، لكن في هذه الـ «هنا» يظهر رمزان للحظتين تاريخيتين مفصليتين بالشكل، لكن رمزيتهما التاريخية تخسر مضمونها لحظة ظهورهما بشكل ثانوي خلف الجسد. حين أُصوّر اللوحة لوحدها فذلك لأنني أريد نسخةً خاصّة، من «صنعي» أتمعّن في تفاصيلها وأطّلع على عناصرها متى ما شئت، لكن السيلفي مع اللوحة تمحي كل هذه الأمور. الجسد هنا هو وحده الحقيقة، ومكانه وزمانه موثّقان، وتصبح اللوحات هنا عبارة عن اكسسوار ثمين، قيمة مضمونها ثانوية، أو حتى معدومة… رساموها شهيرون، وتُعرض في متاحف شهيرة أُوثّقُ، عبر هذا السيلفي، أنني زرتها.

على أن التوثيق ليس وحده بُعداً للسيلفي، فبالإضافة لتوكيد الوجود في الزمان والمكان، هناك أيضاً احتمال الرغبة في تشديد -لا يخلو في أغلب الأحيان من نرجسية- على تأكيد الفرق الشعوري بين من كان هناك، في الزمان والمكان، ومن يُشاهد الصورة دون أن يكون هناك. لا شك أنه لا مجال للمقارنة بين شعور من يرى صورة جرفٍ تحت جبل شاهق مطبوعة، أو على شاشة، وشعور من يلتقط «سيلفي، والجرف خلفي». وهذا الأخير كثيراً ما يُبالغ بإظهار ملامح الوجه المرعوب، أو المندهش، أو الفرِح، أو المتلذذ، وكأنه يفتعل نكايةً بمن سيُشاهد الصورة لاحقاً دون أن يحظى بأن يكون «هناك» في «تلك اللحظة». السيلفي، إلى حد كبير، هو تمرّغ مُفتعل وواعٍ في الحدث، يظهر أحياناً وكأنه رغبة طفولية في ادّعاء المشاركة فيه أو التأثير عليه.

لقد رسم بيكاسو وغوجا نفسهما في بورتريهات ذاتية عديدة، وفي مراحل مختلفة من حياتهما، لكن أياً منهما لم يكن ليرسم نفسه في الغرنيكا أو في إعدامات الثالث من أيار، ليس ذلك لأن الرسام لا يظهر في كادر لوحاته خارج البورتريه الذاتي، فالأمثلة كثيرة، أشهرها إظهار دييغو دي فيلاثكث لنفسه خلال رسمه لعائلة فيليب الرابع في لوحة «لاس مينيناس» الشهيرة، ولا لأنه لا يمكن لرسام أن يدّعي أنه كان حيث لم يكن، فهذا مُتاح باستحضار الخيال، ومطروقٌ في مرّات عديدة خلال تاريخ الفن، بل لأن إظهار الجسد الذاتي عند تجسيد الفظاعة سيبدو وكأنه ادّعاء طفولي، شقي، يشتهي التمرّغ في الفعل المُصوّر لافتعال مُشاركةٍ ما في صُنعه، وليس لإدانته، على ما أراد غوجا وبيكاسو أن يفعلا.

حين صوّرت كنانة علوش، مُراسلة قناة «سما» البروباغنديّة، نفسها في سيلفي أمام جثث عناصر جيش المُجاهدين في حلب كانت -باستحضار توازٍ مع لوحة إعدامات الثالث من أيار- تتخذ لنفسها موقعاً مرجوّاً في صفّ الجنود الفرنسيين الذين يُطلقون النار على المُنتفضين، وليس موقع الرسام، أو موقع المُصوّر الصحفي الذي يلتقط صورةً للخبر. ربما لذلك السبب لم تكتفِ بتلك السيلفي أمام الجثث، بل التقطت لنفسها صورةً أخرى برفقة أحد عناصر النظام الذين شاركوا في المذبحة الموثّقة خلفها، وكأنها تتمنى لنفسها وحدة الحال معه. لم تكن توثّق فقط، بل كانت تتمرّغ في الحدث، وفي خيال المشاركة فيه. لقد أرادت أن تكون خبراً موثّقاً ورأياً مُحكماً وتقريراً مُصوّراً في آنٍ معاً، فكانت أيضاً كاريكاتيراً دون أن تدري أو ترغب، كاريكاتيراً فظيعاً، بل غاطساً في الفظاعة حتى قعرها. لكنها كانت أيضاً، لا شكّ، حقيقةً أصيلة، لا بديلة، ولا بديل لها. في سياق الحرب الإعلامية مع النظام السوري، لم يكن خبر على موقع وكالة سانا من طراز «مقتل العديد من الإرهابيين على يد رجال الجيش العربي السوري في حلب» سيعني شيئاً، ولم تكن صورة لمجموعة من الجثث مُرافقة للخبر ستعني شيئاً إضافياً، لكن سيلفي كنانة علوش أخبرنا كل ذلك، وإن بصورة سلبية، بـ «نيغاتيف» ما كانت تريد هي أن توصِل.

بالمناسبة، التقطت كنانة علوش سيلفي الموت هذا في السابع والعشرين من نيسان عام 2016، أي بعد يومٍ واحد فقط من الذكرى التاسعة والسبعين للقصف الألماني- الإيطالي على غرنيكا. وهذه ليست «الصدفة» الوحيدة، إذ سبق القول إن لوحة «غرنيكا» معروضة اليوم في متحف الملكة صوفيا، الواقع على رأس جادة البرادو الشهيرة. لو مشينا في هذه الجادة نحو ثلاثمئة متر لوجدنا بناءً مهيباً هو متحف البرادو، أهم متحف في اسبانيا وأحد أهم متاحف العالم، حيث تُعرض لوحتا الثاني والثالث من أيار لغوجا.

مقابل متحف البرادو، في زاوية جادة البرادو مع ساحة بلاتيرياس مارتينيث، تقع سفارة «الجمهورية العربية السوريّة». تبدو سارية العلم في زاوية الطابق الأول وكأنها ذراع تمسك في يدها هاتفاً محمولاً، تضع على معصمها العلم الأحمر، علم النظام، وتلتقط لنفسها «سيلفي، والحقائق البديلة خلفي».