لا يكاد يتوقف عن الحديث على الهاتف في مكالمات طويلة، يكرر خلالها أبو محمد، الذي فضل عدم الكشف عن اسمه كاملاً، الكلامَ ذاته تقريباً لأشخاص مختلفين. يشرح لهم ميزات وشروط الانضمام إلى كتيبته العاملة في الشمال السوري ضمن صفوف فصائل الجيش الحر المدعومة من تركيا، ويوضح أسلوب العمل والاستراتيجية المتبعة.

أبو محمد، ضابط برتبة ملازم أول، انشق عن قوات النظام مطلع العام 2012، وانضم لصفوف الجيش الحر فور انشقاقه، وخاض معارك كثيرة ضد قوات النظام في مناطق سورية عدة، كالقصير وحلب والرقة والحسكة، كما خاض معارك ضد تنظيم داعش شرقي حلب. ثم ترك العمل العسكري لعدة سنوات، ليعود منذ أشهر لتشكيل كتيبة عسكرية، وينضم مع كتيبته إلى الفصائل التي شاركت في عملية درع الفرات، وهو يسعى حالياً لزيادة عدد أفرادها من خلال التواصل مع بعض المقاتلين السابقين الذين تركوا العمل العسكري.

قرر أبو محمد مغادرة ساحات القتال في منتصف العام 2014، وذلك بعد أن سيطرت داعش على مناطق واسعة من سوريا، فقد توصل إلى قناعةٍ مفادها أن الافتقار إلى التنظيم في عمل الجيش الحر خلال السنوات الثلاث الأولى من الثورة السورية كان «غير باعث على الأمل» على حد وصفه. وكان على قناعة أن الجيش الحر يحتاج إلى حليف قوي يساعده لوجستياً وتنظيمياً، وأن الدعم بالمال والسلاح غير كافٍ.

في بداية عام 2016 تواصل معه أحد الضباط المنشقين، وأبلغه عن المشروع التركي لدعم قوات من الجيش الحر، ووجد أبو محمد في هذا المشروع ضالته، فوافق فوراً على الانضمام له. يقول: «أسباب انضمامي للقوات المدعومة من تركيا كثيرة، أبرزها ثقتي بأن الأتراك حليفٌ قويٌ فعلاً، وقادرون على دعمنا لتحرير الأراضي من تنظيم داعش، ومن ثم المحافظة على سيطرتنا عليها. إنهم حليف يمكن الاعتماد عليه».

خلال فترة تركه للعمل العسكري، وأثناء وجوده في مدينة انطاكية جنوبي تركيا، عمل أبو محمد في مهن مختلفة، في ورشات بناء لفترة قصيرة، ثم في فرن خبز، وبقي فيه إلى أن عاد للقتال. كان يتقاضى راتباً يقارب الـ 1300 ليرة تركية، وكان يسكن مع عائلة أخيه في المنزل نفسه، يتقاسمان سوياً المصاريف اليومية. يقول إنه لو أراد تأمين مصروفه فحسب، لبقي في عمله ولم يخاطر بنفسه، لكن العودة إلى القتال كانت واجباً وطنياً قبل كل شيء.

يبلغ عمره حالياً 29 عاماً، وهو أبٌ لطفلين، ينتظر قدوم طفله الثالث قريباً، وتقيم عائلته في تركيا حتى الآن، يأتي في إجازة شهرية إلى تركيا ليقضي عدة أيام معها، ويحاول إقناع بعض الشباب بالانضمام إلى كتبته التي بدأت بـ 29 مقاتلاً، وزاد عددها ليصل حالياً إلى 86، ويعملون ضمن قاعدة عسكرية تركية بالقرب من مدينة إعزاز شمالي سوريا، وكانت كتيبته إحدى الكتائب التي شاركت في تحرير مدينة الباب من سيطرة تنظيم داعش في شباط/فبراير الماضي.

يدرك أبو محمد، كغيره من المقاتلين، أن تدخل تركيا في سوريا جاء لخدمة مصالحها، وليس من أجل السوريين، ويقول: «تتعامل الدول بالمصالح وليس بالعواطف، وأنا ومن اختار التحالف والعمل مع تركيا ندرك ذلك جيداً، ورأينا في ذلك الحل الأمثل، فالولايات المتحدة تدعم وحدات حماية الشعب الكردية، التي نعتقد أنها تسعى للانفصال عن سوريا، ما يعني تقسيم بلدنا. وروسيا تدعم نظام الأسد. فلم نجد إلا تركيا لنتحالف معها بعد أن تقاطعت أهدافنا بالحفاظ على وحدة الأراضي السورية مع مصالحها بعدم إقامة كيان جديد خلف حدودها الجنوبية». يتابع: «العالم كله تغيّر نتيجة الوضع في سوريا، التحالفات والتوازنات وكل شيء. علينا كجيش حر أن ندرك هذا الأمر ونعمل بما يتوافق مع أهدافنا ومصالحنا».

أثناء وجودي مع أبي محمد رافقته إلى بلدة الريحانية، الواقعة بالقرب من معبر باب الهوى الحدودي مع سوريا، وذلك لرؤية أحد المقاتلين السابقين في حركة حزم، التي كانت تابعة للجيش الحر. كان المقاتل الذي ذهبنا لرؤيته قد ترك العمل العسكري بعد أن قامت جبهة النصرة بمهاجمة مقرات الحركة والاستيلاء عليها.

وصلنا إلى الريحانية مع غروب الشمس، وجلسنا في مقهى شعبي مع شاب يدعى طارق، عمره 26 عاماً كما قال، وبدأ أبو محمد بالشرح عن شروط الانضمام وطريقة العمل ونظام الرواتب والإجازات، بينما كان طارق شارد الذهن ويدخّن بعصبية. كان واضحاً أن الشاب يدور في ذهنه سؤال محدد يريد الاستفسار عنه، ولم يهتم بجميع ما سمعه، وعندما أنهى أبو محمد كلامه سأله على الفور: «إن قُتِلت فهل ستستمرون بدفع راتبي لعائلتي؟ إن كان الجواب نعم فأنا مستعد للانضمام لكم على الفور». أبلغه أبو محمد بالقرار التركي القاضي بالاستمرار بدفع الرواتب للشهداء والمصابين، واتفقا على يوم محدد للالتحاق، وفعلاً، طارق الآن أحد أفراد الكتيبة.

في طريق العودة تحدث أبو محمد عن أن معظم الشباب الذين يقابلهم يستفسرون عن هذا الأمر، ويعتبرونه أولوية بالنسبة لهم، وذلك بعد القصص التي سمعوها أو رأوها عما أصاب عائلات الشهداء من إهمالٍ وذلٍّ وتشرد، وقال إن من أبرز أسباب امتناع المقاتلين عن الالتحاق بميادين القتال، على الرغم من حماستهم لذلك، هو الخوف على مصير عائلاتهم في حال إصابتهم أو مقتلهم.

في السياق ذاته، يقول خالد العلي، عضو المكتب الإعلامي في لواء الفتح التابع للجيش الحر: «قبل فترة وجيزة أعلن لواؤنا الانضمام إلى الجبهة الشامية، وهي فصيل أكبر عدداً تابع للجيش الحر أيضاً. أتى ذلك الانضمام بعد أشهر من التفاوض مع العديد من الفصائل والتشكيلات. كانت نقطة الخلاف الرئيسية، والوحيدة تقريباً، هي صرف رواتب لعائلات لشهداء والمصابين. معظم التشكيلات ترفض هذا الأمر، مع أن المبلغ المخصص لا يتعدى 40 دولاراً أمريكياً لكل عائلة شهيد أو مصاب. وحين وافقت الجبهة الشامية على هذا الموضوع وافقنا مباشرة على الانضمام إليها».

لواء الفتح أحد تشكيلات الجيش الحر التي شاركت في عملية درع الفرات، وساهم في تحرير مدينة الباب من تنظيم داعش، وهو من الفصائل التي تعمل باسمها ضمن درع الفرات، أي أن تنسيقها مع الأتراك يكون خلال المعارك فقط، ولا تتبع بشكل مباشر للقوات التركية.

تنقسم القوات المدعومة من تركيا إلى قسمين، الأول هو الفصائل التي تنسق مع القوات التركية وتقوم بإرسال مقاتلين إلى المعارك، ويتم استبدالهم بشكل دوري، وتستلم هذه الفصائل دعماً لوجستياً من القوات التركية، وتدفع لمقاتليها الرواتب نفسها التي يتلقونها في الأوقات العادية، ويتراوح الراتب الشهري ما بين100  إلى 150 دولاراً أمريكياً، ويغادر مقاتلوها عند انتهاء المعارك، ولا يستقرون في القواعد العسكرية التركية.

أما القسم الثاني فهم المقاتلون التابعون للقوات الخاصة التركية بشكل مباشر، وهؤلاء يبقون ضمن القواعد العسكرية التي أسسها الجيش التركي في الشمال السوري، مع تخصيص إجازة شهرية لمدة أسبوع يقضيها المقاتل في تركيا أو في سوريا. ويوجد ثلاث قواعد عسكرية تركية رئيسية حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، بالإضافة لبعض القواعد الفرعية.

يبلغ راتب المقاتل المشارك ضمن هذه القوات 300 دولار أمريكي، ويقوم الأتراك بتسليمها للمقاتلين ضمن القاعدة العسكرية، ولا يسمح لأحد أن يقبض راتب أحد لإيصاله له إلا بشروط محددة وصارمة، حيث يحاول الأتراك منع أي فساد أو تجاوزات مالية. يقول أبو محمد إن هذا «شيء عظيم ومهم»، ويقارن مع ما حدث سابقاً: «استفاد الأتراك مما جرى سابقاً، فعندما كانت الكتائب تتلقى الدعم من غرفة الموم (الغرفة المشكلة للإشراف على البرنامج السري لدعم وتدريب المعارضة السورية المعتدلة) كانت الأموال تذهب إلى قائد الفصيل العسكري، الذي يقوم بتوزيعها على هواه، ما أدى لحدوث تجاوزات وسرقات، بالإضافة لعدم دفع رواتب الشهداء إلى عائلاتهم. كان ذلك الأمر أحد أسباب فشل عمليات الدعم السابقة بتأسيس كيان عسكري موحد ومنظم، وأحد الأسباب التي أدت في نهاية المطاف لتعليق برنامج الدعم».

يعيش المقاتلون السوريون السابقون في ضياع وحيرة، حيث يفكرون بمصير أسرهم، وفي الوقت ذاته يحزنون لما آلت إليه الأوضاع في وطنهم، وما زال معظمهم يأمل أن يتم إنشاء جيش وطني حقيقي يعمل على مواجهة نظام الأسد والتنظيمات الإرهابية، ويحفظ وحدة سوريا، ويصل بها لتكون دولة عصرية وديموقراطية، وفي الأوان ذاته يضمن مستقبل عائلاتهم في حال أصابهم أي مكروه.