ركضَ بعض الرجال مارّين بالقرب منّا، مُشتِّتين بجلبتهم مشروعَ ضحكةٍ صاخبةٍ كانت على وشك لمّ شمل عدد من الشباب السوريين الموبوئين أمنياً أو عسكرياً إلى حدٍّ ما.

تلفّتُّ أحاولُ التقاطَ ما يسعفني به الحظ من تعابير وجوههم، أجمعها في شبكة الرؤية، وأنثرها على بساط خبرةٍ يمتد على مساحة ثلاث سنوات من الثورة السورية، في محاولة لاستقراء جليّة الحدث الذي أهلعهم، كما تفعل العرافات بكومة من الحصى، إلا أنني أعلنتُ النتيجة بثقة طبيب يحمل نتائج تحليل مخبري بين يديه: «مافي شي… شكلها نازلة قذيفة بس».

لا سبيل إلى الفرار من اعتياد هذه الكلمة البذيئة بكل ما تحمله من تفاصيل «الحرب»، أذكرُ في بدايات الثورة واستهداف المدن بالقذائف من قبل النظام، أننا كنّا نسارع للاتصال بكل المقرّبين منّا مع كل قذيفة، والبحث عن أسماء الضحايا، وتقاسم رغيف الرعب. ثم مع ظهور الفصائل المتطرفة التي تولى قيادتها متطرفون خرجوا بعفو رئاسي من سجون الأسد عام 2011 مع بداية الثورة، مثل زهران علوش قائد ميليشيا جيش الإسلام، الذي قتلت قذائفه خيرة شباب مدينة جرمانا، ومن بينهم معارضون وناشطون ثوريون ناصبوا نظام الأسد عداءً كلّفهم مستقبلهم ودراستهم وحريتهم، قبل أن يكلّفهم دماءهم على يد «أشباح الثورة».

مع كل هذا الزخم في الاهتمام بنا، والسعي لرفع مخصصاتنا من القذائف وتخفيض مخصصات المخابز من الطحين، أصبحت بذاءةٌ كالتي تلفظّتُ بها قبل قليل مقبولة من المجتمع، بل إنها تُعدُّ عبارة تطمينية، لذا ما أن أنهيت جملتي حتى استعاد الأصدقاء وجوههم المبتسمة، لا سيما وأننا لم نسمع صوت الانفجار، لكننا أطلقنا بعض الشتائم التي طالت جيش الإسلام وفروع النظام الأمنية، الذين يتولون قصفنا وتبادل الاتهامات فيما بينهم.

تفرّقنا عند تقاطع شارعي الحمصي والخضر الشهيرين في مدينة جرمانا، على أن نلتقي بعد نحو ساعة مجدداً، وكان لا يزال بعض الشبان والرجال يمرون بالقرب منّا راكضين، ولم نكن ندري بعد ما تُخَبِئَه لنا الدقائق الستون القادمة.

وصلت إلى منزلي بعد أن قطعت نحو 1000 متر تقريباً، وحتى تلك المسافة كنتُ لا أزال أرى رجالاً يركضون. «أي يحرق شرف هالقذيفة يلي ركّضت البلد كلها!»، قلتُ لنفسي مرتاباً بتكهناتي وأنا أدفعُ باب البناء.

في المنزل سألتُ عما يجري في البلد، فجاء جواب والداي بأن الأمور «تمام التمام»، مؤكدين أنهم لم يسمعوا أصوات انفجارات أو اشتباكات، إلا أن والدتي تكفّلت بتسقّط الأخبار من جارتنا الموالية للنظام بشدة شديدة على مقياس ريختر.

الدقائق التالية لهذا العمل التطوعي النسوي لن تُمسَح من ذاكرتي أبداً، الكهرباء مقطوعة كعادة النظام في معاقبة السوريين منذ اندلاع الثورة، الحرُّ شديدٌ في شهر أيلول من صيف 2014، ووالدتي تركض هي الأخرى في بهو البناء وكأنها أصيبت بعدوى الهرب، وتصرخ: «فاتت جبهة النصرة على جرمانا».

آلاف الصور التي تزاحمت، اشتبكت هي الأخرى، وتنافرت تاركةً فراغاً أبيضاً يسوقني فيه رجال بلباس أفغاني إلى ساحة السيوف لقطع رأسي، لذا أخرجتُ من فمي مجموعة من الأحرف التي قد يكون لها معنىُ في اللغة اليابانية، على اعتبار أنها تمتد على ثلاث أبجديات، ما يرفع نصيبي من اصطياد المعنى.

ركضنا نحن الثلاث في البيت المؤلف من غرفتين، نحو لا شيء، وكان لدي رغبة شديدة -ربما من باب التطير- بتوجيه صفعات ولكمات لكل من يقول إن جبهة النصرة دخلت إلى جرمانا، لذا حاولت تجاهل تأكيدات والدتي المتكررة على الأمر، واستعدادات والدي العجوز للخروج لأنه يريد أن «يتفرج».

«نحن الفرجة يا أبي… هدي بالنا وين طالع؟».

اتصلتُ بأخي الأوسط وأخبرتُه بما حصل، وطلبتُ منه أن يغلق محله في حي التربة ويأتي إلى المنزل فوراً. على ما أذكر، فإن «ربيع» كان يلثغ بحرف الراء فقط، ويلفظه «ياء»، لكن جملاً طويلةً من اليائات المشكلة نصباً ورفعاً وكسراً سمعتها عبر الهاتف، قبل أن يُغلق من الجانب الآخر.

اجتمع بشكل طارئ المجلس العائلي الأعلى بقيادة الماريشال والدي العزيز، والكشّاف والدتي العزيزة، وجندي السخرة أنا، كانت القرارات حازمة وسريعة نالت موافقتنا بالإجماع: لن نغادر المدينة بالرغم من إمكانية التوجه إلى الأقارب في وسط العاصمة.

 «نعم».

 سوف نبقى هنا يجري علينا ما يجري على سكانها وأهلها.

«نعم، نعم».

وسندافع عنها وعن أنفسنا ولو اضطررنا ذلك لاستخدام السلاح.

«نعم، نعم، نعم».

تحركت بشكل عسكري وسريع كوننا اتخذنا تواً قراراً مصيرياً لا يستهان به، لكنني توقفت مستدركاً: السلاح؟! أي سلاح؟! أخطر أداة قد تجدها في هذا المنزل سكين المطبخ، التي هدَّدَ أفراد العائلة بالانتحار بها كلٌّ على حدة، وبالتناوب مراراً وتكراراً، وسط تجاهل الجميع كوننا ندرك أنها تنفع مطرقة أكثر من كونها أداة حادة، ولم نفكر يوماً باستبدالها مع ذلك!

عبر سماعة الهاتف أخبرني «ربيع» أن جبهة النصرة أصبحت في حي الحمصي، وهو تحديداً الحي الذي يتوسط المسافة بين منزلنا ومحله، ما يعني أننا حكماً كمنزل أصبحنا تحت سيطرة الجبهة!!! تحسستُ عنقي.

لاحقاً علمتُ أن مجموعة من الناس ركضت عبر شارع الحمصي الرئيسي مبتعدة عن أطراف جرمانا باتجاه وسطها، وحين عرف سائقو السيارات الذين باغتهم الخبر بالأمر، أداروا سياراتهم يريدون الفرار بها كيفما يهرب الناس، وإذ كان الشارع يحوي خطين ذهاب إياب، فإن الهلعين أرادوه أن يصبح إياب إياب، ومع توقف السيارات بشكل عشوائي بعضها يواجه بعضاً، واستمرار تدفق الناس، فلا بدَّ أن الواقفين في نهاية الشارع ظنّوا بأن الجبهة تدخله من جهته المطلة على حي التربة، خدعة بصرية، مرحى!

في الميني ماركت الملاصق لمنزلي مباشرةً وقعت مشاجرة بين الناس المتوافدين لتعبئة موبايلاتهم برصيدٍ للاتصال، والبائع الذي يرفض العمل بعجلة تحت أي ضغط كان، ولو كان الرصيد لأمير بجبهة النصرة نفسها. هل يجد الناس حقاً متسعاً من الوقت للاختلاف على هذه الأمور، بينما رأسي يُقطع في ساحة السيوف؟!.

خلال الدقائق القليلة التي انتظرتُ فيها تعبئة رصيد الاتصال في هاتفي قبل أن أيأس، ناورَ هذا البائع وبمهارة عالية محاولات جاره السبعيني لإقناعه بإغلاق المحل، إذ أن الأخير يملك ميني ماركت أيضاً، ويبدو أنه عزّ عليه أن يغلق محله بينما جاره يسرق زبائنه، ويكسب منافسة اقتصادية أشرس من تلك التي جرت قبل قرونٍ على طريق الحرير ورأس الرجاء الصالح.

«قوم سكر، فاتت جبهة النصرة، مو خايف، لك بالله قوم سكر يا زلمة».

 وبينما بدأ العجوز يتململ ناظراً بحسرة إلى غَلَقِ محله المغلق، متردداً في حسم قراره، أيهما أكثر متعة، إنقاذ حياته أم مناكفة منافسه بارد الأعصاب؟! تناقل الناس بجلبة عالية خبراً مفاده أن رجلين مسلحين من جبهة النصرة سلبا رجلاً دراجته النارية قبل قليل في المدينة.

العجوز أخذ قراره وفرَّ هارباً، وأنا ركضتُ باتجاه حي التربة سالكاً شارع الحمصي، أريدُ أن أنتزع أخي بالقوة من محله. «شائعة»، هكذا أخبرني عبر الهاتف ورفضَ إغلاق محله هو الآخر، وكأن جبهة النصرة فريق كشافة.

توجهتُ مدفوعاً بسيلٍ من العاطفة الأخوية الجياشة لإنقاذ أخي من غفلته، قبل أن ينحرف هذا السيل الدفاق عن وجهته بسبب رشقتين أو ثلاث فقط من سلاح رشاش متوسط صدرت من جهة إدارة الدفاع الجوي، لأجدَ نفسي وقد انعطفت أتوماتيكياً بين الحارات، معتبراً التصاعد التراجيدي السابق في مشاعري طيشَ شباب.

بعد أن سمعت هذه الأصوات ظننتُ أن اشتباكاً سيبدأ بين أقوى نقطة عسكرية للنظام في المنطقة والمهاجمين من جبهة النصرة، فحاولتُ إرسال رسالة لأخي عبر الموبايل أرجوه فيها العودة إلى المنزل، إلا أنني فوجئت بنظام الأندرويد وقد شُلّت حركته تماماً بينما كنت أبحثُ عن قائمة الأسماء، وتصدرت الشاشة صفحةٌ من نصفين تنتمي كل منهما إلى مهمة مختلفة. بدا مشهداً سريالياً حقاً، وكأن نظام التشغيل يتمسك بطرفي الموبايل ويرفض الانصياع لأوامري: «يا أخي يستر على عرضك، خلقة أنا كوري وكافر، لا تدخلني بهيك قصص، اعتقني».

عدتُ إلى المنزل فاستقبلني والداي من الباب بتأكيدات حارّة أن الخبر شائعة، «حتى شوف هه عالتلفزيون جايبين الخبر». التلفزيون؟! حارت نفسي حقيقةً لأي فرحٍ تسلّم عنانها؛ للشائعة التي أنقذت رأسي، أم للكهرباء التي سبقت جبهة النصرة إلى بيوتنا؟!.

بثَّ التلفزيون السوري مباشرةً من ساحة الرئيس، أو ساحة «التمثال» كما كان يسميه معارضو المدينة تفادياً لأي اصطدام مع رجال الأمن، بينما كانوا يستبدلون التمثال بـ «الجحش» في جلساتهم الخاصة. من هناك بدت المدينة وكأنها في جو احتفالي، سيارات وزمامير ووجوه ضاحكة تطل من الشبابيك وتلوح للكاميرا!

نوع ما من مكاشفة إباحية جرى في ذلك اليوم بين سكان المدينة ذات الأغلبية الموالية وبين النظام نفسه، فهذا الرعب دون سماع أي اشتباك أو انفجار، يؤكد شكَّ المدنيين في إمكانية تسليم مدينتهم لحسابات سياسية أو عسكرية تأديبية من قبل النظام للتنظيمات المتطرفة، شيءٌ شبيه بسفاح القربى، أو التحرش بالمحارم، لذا جاءت تغطية التلفزيون السوري للتأكيد على «ثقتنا» جميعاً بحماة الديار.

أما فيما يتعلق بالرجل الذي سلبه مسلحان دراجته النارية، فقد تبين لاحقاً أنهم يتبعان لميليشا الدفاع الوطني، وقد قررا استغلال الفوضى العارمة لتنفيذ سطو صغير مسلح، ولم لا؟! فالميليشيا الرديفة لجيش النظام «حماة الديار» كانت قد باعت لتوها –وبحسب ما أكدَّ لي ناشطون من جرمانا- حاجزاً يتبع لها بالقرب من منطقة «الدخانية» لفيلق الرحمن، مخليين له الطريق لتوجيه ضربة مفاجئة وقوية لحاجز ميليشيا حزب الله اللبناني الممسك بتلابيب «الدخانية»، وسرعان ما تدخل «جيش الإسلام» للسيطرة على البلدة، وما أن عرفَ السكان بالأمر حتى فرّ من استطاع منهم عبر حي «كشكول» داخلين إلى جرمانا من جهة حي القريات وهم يصرخون «فاتت جبهة النصرة»، دون أن يدركوا أنهم أصبحوا في جرمانا، كون هذه المناطق عشوائية ومتداخلة إلى حدٍّ يصعب الفصل بينها. وهكذا ركض سكان جرمانا معهم باتجاه الحارات والشوارع الداخلية من المدينة، مرددين ما سمعوه لتوهم.

استمر وجود فصائل المعارضة في الدخانية شهراً كاملاً، انتهى بتاريخ 6 تشرين الأول 2014، نعمت خلالها جرمانا والمناطق المحيطة بالدخانية بكمية وافرة من الكهرباء، لأن النظام كان يخشى استغلال مسلحي المعارضة للظلام الدامس وتسللهم أقرب باتجاه العاصمة، حتى أن الناس في جرمانا بدأت تتندر بذكر محاسن «الإرهابيين»، متمنين استمرار سيطرتهم على المنطقة حتى يشبعوا من الكهرباء قليلاً.

قامت فصائل المعارضة خلال تلك الفترة بالاستيلاء على مخازن الأغذية الكبيرة في المدينة وتهريبها إلى الغوطة الشرقية، التي تعاني من مجاعة نتيجة إحكام الحصار عليها من قبل قوات النظام وحلفائه، وحين استعاد النظام سيطرته على الدخانية دخلتها ميليشيا الدفاع الوطني بغطاء من الفرقة الرابعة، «وعفّشت» منازل سكانها الموالين بأغلبيتهم. ومن المفيد أن نعلم أن الدخانية نفسها كانت مركز تعفيش، وتحوي مستودعات ممتلئة من هذه «الغنائم»، لكن ما أن سقطت حتى تناهشتها ضباع القافلة، وخُصِّصَ سوقٌ يمتد على جسر الكباس لبيع هذه الغنائم، وبعد مرور أكثر من عامين ونصف لم يعد أي من سكان الدخانية إليها، ويحكم حزب الله سيطرته عليها حتى الآن.

على الجانب الآخر، كانت هذه الحادثة قد دفعت بكثيرين من معارضي جرمانا إلى توسيع معجمهم اللغوي حول الثورة، لأنه إذا كان الحدث قد عرى النظام ومواليه في مواجهة بعضهما، ينظر كل منهما إلى عورة الآخر، فإن المعارضين بدورهم، الذين انتظروا بفارغ الصبر اليوم الذي ستفرض فيه فصائل المعارضة سيطرتها على المدينة، وتلقن شبيحتها درساً قاسياً ملحقةً جرمانا بركب الثورة، لم يعوا على أنفسهم في هذا اليوم الموعود إلا وهم يركضون مع الموالين مذعورين!

الساعات المتبقية من ذلك اليوم بددناها في الضحك والسخرية من بعضنا، من الموالين، وبالتأكيد من جبهة النصرة. في الليل أقفلت عائلتي بإحكام أبواب المنزل، وأعتقدُ أن المدينة بأسرها حذت حذونا.

حتى بزوغ الفجر لم أتمكن من النوم، كنت أتخيلُ الشوارع المقفرة الآن، قوات النظام تنسحب بهدوء، جبهة النصرة تتوغل بطمأنينة لا تريد معها إزعاج النائمين حتى تكون المفاجأة قوية صباحاً، يتقدم المقاتلون عبر الشارع الرئيسي العام، يتجاوزون ساحة السيوف بعرباتهم المدرعة، ثم فجأة تنعطف مجموعة في أحد الشوارع، يدخلون بناءنا، لأسمع صوت طرق عنيف على باب المنزل، هذا الطرق الذي يجرجرك على الأراضي بحثاً عن المفاتيح لتفتح الأبواب دون أن تجرؤ على المواربة، أمام الباب رجل بذقن طويلة صهباء، ولباس أفغاني، يصرخ بوحشية:

«بتقول جبهة النصرة ما بتفوت على جرمانا يا عرصا!»

«بتفوت يا سيدي بتفوت!».