سعى تنظيم داعش منذ ظهوره وحتى اللحظة لاستمالة عشائر دير الزور إلى جانبه، عن طريق الترهيب تارةً والترغيب تارةً أخرى، وبطرق مختلفة منها التقرب وإعطاء ميزات معنوية وأخرى مادية لجذبها، كما أنه قام بإنشاء ديوان «العلاقات العامة» المختص بشؤون العشائر في المحافظة.
مرت علاقة داعش مع العشائر بعدة مراحل، منها ما كان مع نشأة التنظيم، ثم مرحلة قتاله للفصائل المعارضة، ومنها ما كان بعد السيطرة على المحافظة وطرد المناوئين له.
مرحلة النشأة، وحتى ما قبل بدء القتال
هنا أيضاً يجب التميز بين مرحلتين: الأولى هي مرحلة جبهة النصرة، عندما كان المقاتلون والقادة الذين أسسوا لاحقاً تنظيم الدولة، مقاتلين وقادة فيها. والثانية بعد الانفصال عن جبهة النصرة، وإعلان الدولة الإسلامية في العراق والشام عام 2013.
كان ظهور النصرة عام 2012 في منطقة عشائرية، وتعتبر مدينة الشحيل شرق دير الزور، التي يقطنها أفراد من قبيلة العقيدات، أول موطئ قدم للتنظيم في سوريا، بسبب عودة كثيرٍ من أبنائها الذين غادروها إلى العراق إبان الغزو الأمريكي عام 2003، وانخرطوا هناك مع التنظيمات الجهادية، وكان لهم دور بارز في تأسيس جبهة النصرة، حيث تحول عددٌ من أبنائها إلى قادة وعناصر فيها.
تلك الفترة شهدت تقرب النصرة من الأوساط العشائرية في المحافظة، عبر السياسة غير التصادمية التي انتهجها قادتها لمعرفتهم بمخاطر صدام كهذا. وما ساعد في ذلك أيضاً أن كثيراً منهم من أبناء الوسط القبلي على مستوى العناصر المحلية والقادة الأجانب، مثل أبو ماريا القحطاني شرعي عام جبهة النصرة، الذي تنحدر أصوله من عشيرة الجبور العربية في العراق، والذي تعامل مع عشائر دير الزور بطريقة مميزة ما أكسبه احترامها وثقتها.
واستمرت سياسة النصرة على هذا الشكل، حتى بعد رفضها إعلان قيام الدولة الإسلامية، واستمرارها فصيلاً مستقلاً. أما تنظيم الدولة الإسلامية الناشئ، فقد استقطب المقاتلين الأجانب إلى جانبه وقام بقمع العشائر في مناطق سيطرته بحلب والرقة. في ريف الحسكة، استغلَّ التنظيم الانقسام القومي العربي الكردي، ووضع أبناء القبائل العربية هناك تحت جناحه دون إرغام ودون جهد أيضاً.
بعد الانفصال بين جبهة النصرة وتنظيم الدولة عام 2013، كان التنافس بين التنظيمين على كسب ود العشائر وأبنائها في دير الزور على أشدّه، حيث كانت النصرة قد أنجزت الكثير في هذا المضمار، بعد أن تمكنت من التغلغل في العشائر الكبرى التي انحاز أبناؤها إلى الجبهة في تلك المرحلة، ما أضعف موقف تنظيم الدولة الذي لم يكن له شعبية تذكر، باستثناء مجموعة من أبناء عشيرة البكير وهم مكون آخر من قبيلة العقيدات، مستغلاً الخلاف بينهم وبين أبناء عمومتهم في الشحيل على الثروة النفطية التي كانت تحت سيطرة النصرة من أهالي الشحيل، مثل حقلي العمر وكونيكو، ليشكل هؤلاء الأفراد فيما بعد عصب القيادة للتنظيم في دير الزور مع بعض أبناء العشائر الصغيرة.
ويعود سبب انخراط العشائر الصغيرة في دير الزور في تنظيم داعش إلى عدة أسباب، منها ضعف موقفها العشائري أمام العشائر الكبرى التي عززت من مكانتها بتبني فصائل الجيش الحر وجبهة النصرة، ما جعلها تستشعر الخطر وترى في التنظيم كياناً قادراً على حمايتها، ومنها مجموعات من عشائر الجوشّنة والبو سبيع التي توجد في مناطق غرب دير الزور الشامية، والتي تعد عشائر ضعيفة مقارنة بالعشائر الموجودة في تلك المنطقة مثل عشيرة البوسرايا.
كما أن رغبة تلك العشائر في زيادة مكاسبها الاقتصادية كان عاملاً آخراً دفعها لدخول التنظيم، بعد أن سيطرت العشائر الكبرى على الموارد النفطية والحيوية في مناطق انتشارها.
مرحلة القتال
بدأَ القتال بين جبهة النصرة وداعش على خلفية انحياز الأولى إلى جانب حركة أحرار الشام الإسلامية في معاركها ضد داعش بدير الزور، وهي المعركة التي بدأت بعد قيام داعش بتصفية الطبيب أبو الريان، القيادي في الحركة بمنطقة تل أبيض شمال الرقة، ما أشعل فتيل الموجهات بينها وبين الحركة، التي تلاها اصطفاف كثيرٍ من الفصائل إلى جانب حركة أحرار الشام في معاركها ضد التنظيم في مناطق تواجده.
تمكنت جبهة النصرة في مطلع عام 2014 من طرد التنظيم من محافظة دير الزور، بعد معارك دامت ليومين بمشاركة فصائل الجيش الحر وأبناء العشائر، وقامت وقتها بنسف بيوت لعائلات الرفدان التي تنتمي لعشيرة البكير، أحد مكونات قبيلة العقيدات التي شغل أصحابها مناصب قيادية في التنظيم.
بعد طرد التنظيم من كامل دير الزور، استمرت المواجهات معه على أطراف المحافظة في الجهة الغربية في منجم الملح، وشمال دير الزور في مركدة وأطراف الشدادي بريف الحسكة، ليبدأ التنظيم سياسة جديدة تمثلت باستمالة العشائر إلى جانبه، أو تحييدها عن المشاركة في قتاله إلى جانب النصرة، مستغلاً الخلافات بينها أو عن طريق إعطائها مكاسب مادية وأخرى معنوية، ما سهل عملية دخوله لاحقاً.
أخذ دور العشائر في المواجهات العسكرية في دير الزور مناحٍ متعددة، فانقسمت العشائر بين مقاتل للتنظيم وناءٍ بنفسه عن الصراع، وأخرى نجح داعش في استمالتها إلى جانبه، وعمل من خلالها على معرفة التحركات العسكرية والقيام بمهام أمنية أثقلت عاتق الطرف المناوئ له.
من العشائر التي قاتلت بشكل كبير، على مستوى فصائلها العسكرية وأبنائها عموماً، عشائر البوجامل والشعيطات والبوسرايا والبوحسن والقلعيين، وكان من الطبيعي مشاهدة الشباب والشيوخ على جبهات القتال رغم عدم انضوائهم في فصائل عسكرية، تحت مفهوم الفزعة، واعتبار داعش عدواً حيوياً لهم في المنطقة.
في المقابل كانت هناك عشائر كبرى نأت بنفسها عن القتال، رغم مشاركة بعض الفصائل العسكرية من أبنائها في قتال داعش مثل عشيرة البقارة، التي لم تنخرط بالصراع مع داعش كمثيلاتها وشكلت الطرف الأضعف في الحافظة، ما مكن التنظيم من دخول مناطق تواجدها بسهولة. فيما لعبت بعض المكونات العشائرية دوراً كبيراً في سيطرة تنظيم الدولة على دير الزور، من خلال عدم مشاركتها في المعارك وبيعة مكوناتها العسكرية بشكل سري له، ومنها الفصائل العسكرية التابعة لعشيرة القرعان، وهي عشيرة تسكن مدينة القورية وتعتبر جزءً من قبيلة العقيدات، والمتمثلة بلواء القعقاع أكبر فصائل دير الزور العسكرية والأكثر تسليحاً وقتها. كذلك سهّلَ بعضها دخول داعش أثناء احتدام المعارك مع الفصائل وأبناء العشائر في المحافظة، ومن أمثلة ذلك ما قامت به أغلب مكونات المجلس العسكري وفصائل موحسن من عشيرة البوخابور، عندما انسحب معظم مقاتليها من مدينة موحسن دون قتال تقريباً لأسبابٍ طالَ الجدال حولها، ما تسبب بعدها بانهيار القوى العسكرية وبدء سيطرة التنظيم على المدن والقرى واحدة تلو الأخرى، ليتمكن تنظيم داعش من السيطرة على دير الزور بشكل شبه كامل، بتاريخ 20/7/2014، وتبدأ مرحلة جديدة من العلاقة بين الطرفيين.
ما بعد السيطرة، وحتى الآن
قبل إتمام تنظيم داعش سيطرته على معظم محافظة دير الزور بأيام، وبعد أن لاحظت العشائر وحتى الفصائل العسكرية عدم جدوى المقاومة، وبعد أن استمرت المعركة أكثر من 6 أشهر ما استنزف قوى الجميع، وخاصة بعد سقوط الموصل وفرض حصار كامل على المحافظة وعدم وجود أي منفذ أو دعم عسكري من خارج المنطقة، قامَ وجهاء العشائر ببث مقاطع مصورة يعلنون فيها انتهاء القتال وقبول الصلح مع التنظيم، كخيار وحيد لحقن الدماء وإنهاء حالة الحرب.
جميع العشائر في تلك الفترة تصالحت مع التنظيم ضمن شروط تم التفاوض عليها بين الطرفين، يمكن إجمالها في ثلاثة أمور: تسليم جميع السلاح الذي تم توجيهه ضد التنظيم، خضوع كل شخص قاتلَ التنظيم لدورة شرعية «دورة استتابة» يُترَك بعدها ولا تتم ملاحقته أو اعتقاله حتى ولو أنه كان قد قتل منهم 1000 رجل، أما الشرط الأخير فهو أن يقوم التنظيم بتعيين عدد من الوجهاء في كل عشيرة يعود إليهم لحل أي خلاف بين التنظيم وتلك العشيرة.
بعض العشائر تمكنت من الحصول على شروط أفضل في عملية التفاوض، ولا يعود ذلك إلى قوتها في المنطقة، وإنما إلى سياسة كان التنظيم يتبعها ريثما يحكم سيطرته ويعيد بناء قوته التي استنزفت في المعارك مع فصائل المعارضة، وهذا ما كشفته الأيام لاحقاً.
مثلاً تمكنت عشيرة الشعيطات من الحصول على ميزات تتعلق بالحفاظ على حقول النفط في مناطقها، كما تمكنت عشيرة البوسرايا من الحصول على وعود بعدم فتح التنظيم لأي مقرات في مناطق تواجدها غرب دير الزور، لكن التنظيم سرعان ما تنصل من جميع تلك الوعود، وأخلَّ بجميع تلك الشروط.
انقلابُ التنظيم جاء بعد أن قام بجمع سلاح الفصائل العسكرية، وأرسى سيطرته على جميع المناطق، إذ ـبدأ بنقض الاتفاقات التي أبرمها مع العشائر معتقلاً أفرادها الذين قاتلوه، وبدأ بحملات الإعدام والتهجير بحق معارضيه السابقين، قابله في ذلك عجزٌ عشائريٌ ومحاولاتٌ ضعيفة لمطالبة التنظيم بالالتزام بما اتُفِقَ عليه، لكن دون جدوى، الأمر الذي تضخم لاحقاً وتسبب بانفجار الحرب بين التنظيم وعشيرة الشعيطات، التي نقضَ التنظيم شروط الصلح معها ولاحقَ أفرادها.
التنظيم الذي أخمد ثورة الشعيطات، بعد قتل ما يزيد على ألفٍ من أبنائها واعتقال المئات وتهجيرهم من قراهم، اتبع سياسة تجريد العشائر من سلاحها مخافة اشتعال ثورات مشابهة، وضيّقَ على أبنائها بالقتل والسجن والنفي، ما شكّلَ حالة نفور وسخط على التنظيم، بشكلٍ غير معلنٍ مخافة بطشه بهم.
ورغم جميع ممارسات التنظيم تلك، إلا أنه حاول التقرب من العشائر في الوقت نفسه، فأنشأَ ديوان العلاقات العامة المختص بالتواصل مع العشائر، وعقدَ العديد من الاجتماعات لحضّ العشائر على القتال بجانبه، وخاصة بعد تدخل التحالف الدولي بحجة أن هذه الحرب تستهدف الإسلام والمسلمين، «حرب الأمة».
أساليب كثيرة أتبعها التنظيم لجذب العشائر وأبنائها في هذه المرحلة، من العزف على الوتر الديني الذي كرّس له التنظيم وفوداً شرعيةً تلتقي بالعشائر لحضّهم على القتال معه بحجة قدسية معركته، إلى تلقين خطباء المساجد خطباً للاصطفاف مع التنظيم، غير أن كل هذا لم يجدِ نفعاً.
عدم نفع الوعظ الديني بمفهومه الخاص دفع التنظيم إلى اتباع سياسة الترهيب، ففرضَ الضرائب وأجبرَ أبناء العشائر ممن قاتلوه سابقاً على القتال إلى جانبه، وهذا ما حدث في معارك تحرير البغيلية ومستودعات عياش غرب دير الزور.
لكن التنظيم فشلَ في استمالة العشائر رغم التعاطف المحدود الذي وجده في بعض الأحيان، خاصةً بعد التدخل الروسي وارتكاب الطائرات الروسية عشرات المجازر في دير الزور. غير أن تقدم قوات سوريا الديموقراطية كان أفضل دعم تلقاه التنظيم، نتيجة تخوف العشائر من قيام وحدات حماية الشعب الكردية بمجازر وتهجير جماعي للعرب، كما حدث في ريف الحسكة الجنوبي وريف الرقة الشمالي.
يعود فشل التنظيم إلى حالة النفور التي أصابت كثيراً من العشائر بسبب الممارسات الإجرامية بحقها، وما حصل مع عشيرة الشعيطات خير نموذج، وغياب الهرمية في العشائر كان سبباً إضافياً لغياب التجاوب مع التنظيم، فأغلب شيوخ العشائر الحقيقيين غائبون عن المشهد، إما لاتخاذهم موقفاً مؤيداً للنظام، أو لاصطفافهم مع قوى الثورة في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، ما دفع التنظيم للجوء إلى شخصيات الصف الثاني والثالث داخل العشائر، التي لا تملك القدرة على التأثير في العشيرة بالشكل المطلوب، ومن أمثلة ذلك اصطفاف شيخ عشيرة البوسرايا مهنا الفياض إلى جانب النظام، ما دفع تنظيم الدولة للاعتماد على أبناء عمومته وأعمامه من شخصيات الصف الثاني والثالث.
السبب الأهم في فشل داعش وغيرها من التنظيمات الجهادية في استقطاب العشائر، هو العلاقة التي نشأت على أساس هيمنة الأول على الثاني ومطالبته بتفكيك بنيته لحساب الأول، وهو أمرٌ لا يناسب أبناء العشائر الذين يفتخرون برابطة الدم فيما بينهم، ويعتبرونها عامل استقرار لمجتمعاتهم المحلية.
هذه الأسباب جعلت القبائل والعشائر الكبرى تنأى بنفسها عن التنظيم بشكل كلي، واقتصر الأمر على بعض مكوناتها إما لوجود أشخاص منها في مراكز قيادية داخل التنظيم، أو لمصالح اقتصادية أو حيوية معينة.
تتواصل محاولات التنظيم لاستمالة العشائر في دير الزور بالترهيب والترغيب، غير أن حقد أبنائها يمنعهم من ذلك بانتظار تقدم فصائل الجيش الحر المشكلة منهم، مثل جيش أسود الشرقية وقوات مغاوير الثورة (جيش سوريا الجديد سابقاً) وأحرار الشرقية، للانتقام من التنظيم وطرده، في حين سيكون تقدم قوات سوريا الديموقراطية أو الحشد الشعبي الشيعي إلى المنطقة ذا أثرٍ سلبي، ما سيدفع العشائر للقتال مع التنظيم دفاعاً عن أرضها بسبب الاختلاف القومي مع الأولى والديني مع الثانية.