على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا أيضاً عندما تذكرنا صهيون، على الصفصاف في وسطها علّقنا أعوادنا.

المزمور 137/ سفر المزامير

من هنا بدأ كل ذلك، أي سيرة انتهاكنا للأنهار. الكثيرون دوّنوا مذكرات جلوسهم إلى ضفة نهر ما لينتحبوا عليها فيما بعد، البعض يفضّل الجلوس هناك منتظراً أن يحمل النهر جثث أعدائه. ولكنّ هناك ما هو أكثر فائدة: أن تلهو باعتماد الأنهار تقويماً لسيرتك.

1- نهر إينيساي

«هل هناك نهر أعرض منك يا إينيساي؟ هل هناك موطن أعزّ منك يا إينيساي؟ هل هناك حزن أعمق منك يا إينيساي؟».

قرب ضفاف إينيساي الذي وجدت له هذه الأغنية، وهو الاسم الأقدم لنهر ينيسي السيبيري، عاشت بحسب الحكاية القرغيزية، أمّهم الأولى: غزالة المارال البيضاء ذات القرون، التي حملت آخر طفلين ناجيين من القبيلة القرغيزية التي أفناها أعداؤها، لتوصلهما إلى موطنهما الجديد في إيصيق – كول. ستُذبَح أمّنا الغزالة ذات القرون في نهاية الحكاية التي يرويها أيتماتوف، لصالح وليمة عشاء، وستكفّ خالة الولد بطل الحكاية، التي لم تتمكن من الإنجاب، عن الحلم بمهدٍ من خشب البتولا البيضاء تحمله لها الغزالة الأم على قرونها لتنجو من بؤس حياتها مع زوجٍ يلقّبها بالكلبة العاقر.

سيعدو الولد باتجاه النهر بعد أن يرى رأس الغزالة بجانب كوم لحمها الدافئ في غرفة الطهو. جزّوا الرأس بضرباتٍ فأس متسرعة لانتزاع قرونها الثمينة. قدموا له قطعة من كليتها ليأكلها نيئة. ربّتوا على رأسه، قالوا له إنّه قد نال نصيباً طيباً من الذبيحة. كانت دافئة كأنما لا تزال حيّة في خاصرتها. سيعدو الولد ممسكاً قطعة اللحم الدافئ ويرمى بنفسه إلى النهر بحثاً عن أبيه الغائب الذي يعمل كبحار.

كانت هذه الحكاية من أولى القصص التي تعرفّت إليها طفلةً خارج منهاج المدرسة، كنتُ غالباً في عمر الصبي بطل الحكاية. حفظتُ أغنية النهر عن ظهر قلب، وتجاهلتُ تماماً فكرة أنّ الغزالة الأم ذات القرون هي أم للقرغيزيين وحسب. أعجبني أن تكون أمَّنا أيضاً رغم أنّ الظروف البيئية والطبيعية المحيطة لم تكن مناسبة كثيراً لهذا الخيال. نسيتُ القصة بعد ذلك ووصيّتها في ألا تتجرأ على قتل عرّابات الأنهار، وإن كانت أمّك الغزالة ذات القرون التي ستغفر لك كل شيء. وكذلك حين حلّت ساعة الرحيل بعد سنوات طويلة من هذا التاريخ، لم يكن هناك ما يكفي من الوقت لنتفقّد ما معنا من الوصايا. لا شيء ستأخذه من حيث رحلت إلا قيظ مدينتك الذي أزعجك على الدوام، والذي ستجاهد لحفظه حياً فيّك حيث حللت، وحده سيبقيك مترنحاً غائباً على النحو الأفضل حين لا ينفع صحو.

لم يفدني وأنا أتلمّسُ طريقي بعد ذلك بين مدينة وأخرى سواه، هو والقاعدة الشهيرة لاجتياز المتاهة: إن أضعتَ طريقك يوماً في المتاهة، ضع يدك اليمني أو اليسرى على الجدار المقابل لها وتقدّم بالسير دون أن تنزع يدك عن الجدار. سيوصلك ذلك إلى نهاية المتاهة أو تعود إلى بدايتها على الأقل لتحاول مجدداً. إن لم تعثر على جدران تدلّك فعليك بالأنهار وضفافها، تلزم مسار إحداها حتى ترشدك إلى الطريق أو تعيدك من حيث بدأت.

2- نهر شبري

«كيف نرنّم ترنيمة الرب في أرض غريبة؟»

احفظ القيظ في نفسك أينما حللت، ذلك كلّ ما تبقى لك منذ أن قطعت حدود الخراب. لن تجد مشكلة في ذلك في أوقات النهار إذا حالفك بعض الحظ صيفاً. هنا حيث كان هناك من يرمى بالرصاص أثناء محاولته العبور للجانب الغربي من برلين فيما مضى، سيجتمع الناس على امتداد ضفتي شبري. بقروشٍ قليلة يستطيع الكل إمضاء وقت جيد. لا يكلف الأمر أكثر من ثلاثة يوروهات لشراء زجاجة. حين تعبر بالفتيات وهنّ يمشين ببطء ممسكات بدراجاتهنّ إلى جانبهنّ على مسار ضفّة النهر، ستطمئن إلى صدق قاعدة الالتزام بمسار النهر للوصول إلى المكان الصحيح.

في الليل الأمر مختلف، رهاب المشي وحيدةً في الطرقات ليلاً لم يختفِ حتى الآن. لا يهمّ مهما حاول الآخرون أن يطمئنوك بالقول إنّ المدينة آمنة. لا طاقة لي على اقتناء رذاذ الفلفل، لديّ قناعة أنّني سأوجهه غالباً في الاتجاه الخاطئ في لحظة المواجهة لأخنق نفسي عوضاً عن المهاجم. كثافة الغيوم هنا تمنع المرء عن ممارسات مهرطقة قديمة مثل مراقبة النجوم أثناء المشي. هذا أمر حسن. وفقاً للنجوم: أنا جرذ مجنّح. خلقت لأكون كذلك. أعيش حيث توجد ريح وسأصمد حتى النهاية في مواسم الطاعون. اصطفاف النجوم يوم ولدتُ يقول إنّ ورقتي الحظ المرتبطتان بيوم مولدي هما العاشق والشيطان. لن يغيّر ذلك وشمٌ دينيٌ أحمله على كتفي، ولا اللهاث المحموم طيلة الوقت خلف الغفران. ليس من السهل أن تكون موسوماً بكونك جرذاً وشيطاناً في أحسن الأحوال، ولكنّك عاشقٌ أيضاً. في هذه المدينة لستَ وحدك: انظر كم من جرذ هناك مثلك يطالع جريدة باهتمام في قطار، ويحتمي بحقيبة جلدية فوق رأسه عابراً الطريق بسرعة في الأيّام الممطرة.

الساعة الآن هي الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل. كان يجب أن أغادر منزل الأصدقاء ممن قضيت أمسيتي معهم أبكر من الآن. لا أحب أن يحدث هذا: المشي في الشارع المعتم الخالي، ومن ثمّ الوقوف طويلاً في الموقف بانتظار الباص الأخير لهذه الليلة. ينضمّ شابٌ نحيل: شاهدته من بعيد وهو يمشي مترنّحاً حتى وصل إلى الموقف. وضع زجاجته على الأرض، ثم اقترب ليشاركني التحديق في لائحة مواعيد الباص. أجبت باقتضاب متمنية أن يغادر على الفور. يخلع قفازّه من يده ليشير بإصبعه على اللوحة إلى الموعد الأخير لقدوم الباص الذي يبدو وكأنّه قد فات. يخطف نظري المانيكور الأسود اللامع على أصابعه. تزول مشاعر الذعر وأعود لاسترخائي. أؤنب نفسي وأنا أحاول أن أٌقدّر ما إذا كان شعور الارتياح هذا صحيحاً سياسياً.

غير مهم. أنظر مجدداً إلى يده وهو يشرح أنّ الباص الأخير قد فات، وأنّ الخيار الآخر هو محطة تقع على بعد 10 دقائق سيراً على الأقدام. الطلاء بالغ الأناقة على أصابعه البيضاء النحيلة. عرضتُ عليه أن أرافقه إلى محطة الباص القادمة، أو إلى وجهته القريبة من منزلي. ظلَّ يتحدث طيلة الطريق: يتأفّف من احتمال المشي لنصف ساعة أخرى حتى يصل إلى الكلوب الذي يريد أن يسهر فيه هذه الليلة إذا لم نفلح باللحاق بالباص الأخير للمحطة القادمة. يقول إنّه على كل حال سيضطر للوقوف في «الكيو» أمام الكلوب لساعةٍ أخرى. غضبَ فجأة لأنّكِ لا تعرفين ما معنى «الكيو» واستفسرتِ عن ذلك. توقف في منتصف الطريق واضعاً راحتيه على خصره. سألكِ بدهشة: من أين أنت؟ هزّ كتفيه دون أن يقول شيئاً عندما سمع الإجابة. هذا حسن. لم يتعرّض المرء على الأقل لسماع: «أنا آسف من أجلك». شرح لي مفهوم «الكيو» بدقة وحماس: طابور الانتظار أمام الكلوب. كان يتحدث الآن عن آخر إجازة أمضاها. «هل زرتِ براغ يوماً؟».

3- نهر فلتافا

«اذكر يا رب لبني أدوم يوم أورشليم، القائلين: هدوا، هدوا حتى إلى أساسها»

توصيات عبور جسر تشارلز على النحو الأمثل: المس الثلاثين تمثالاً. إن لم يردّك القيظ ويحبطك تدافعُ السياح في الظهيرة، إن لم يحبطك شتاء براغ، اجر من المدينة القديمة باتجاه نهر فلتافا لتصعد الجسر. مرر يدك على الخمسة عشر تمثالاً على يمينك في الذهاب والخمسة عشر الأخرى وأنت قادم. أتذكرُ أنّك إن التزمت بمسار ما تلمسه يدك فستنجو من احتمال الضياع؟

 خمسة عشر قديساً محفورون في حجر أسود. انتبه، إنّهم في مواضع غير متناظرة على جانبي الجسر. ذلك متقصّد دائماً وأنت تعمل مع القديسين. التناظر سمة شيطانية، استدعاء للدَنَس. لهذا رسمت ملامحك على هذا النحو. لهذا أصبّ عليك نصف صلواتي. لئلا يمشوا في إثرك وأنت تجوب كلّ تلك المدن غير مبالٍ. صيّادو النبل كثيرون ممن يشمون رائحتك دون عناء. لا تتوقف كثيراً عندهم. ستعدو سريعاً وأنت تعبر تماثيل القدّيس إيفو حامل لواء العدالة ومن ثم القديسات الثلاث حاملات درع الشهداء. وتمثال بييتا. المس التماثيل وأنت تجري، ذلك بدل أن تتصرف كعادتك وتمشي مستكبراً لتقطع نهر فلتافا وأنت تهشّ عن نفسك قيظ الصيف بمنديل، أو كآبة الجو بأغنية.

4- نهر شبري مرة أخرى

«إن نسيتك يا أورشليم، تُنسى يميني»

السماء غائمة. لا نجوم. ولكنّ القيظ حيٌّ في نفسك كما تعهدت. حتى في الليل. ليل كهذا، لا نجمة ولا أحد في الطريق سوى الرفيق المخمور ذو الأظافر السوداء الأنيقة. يقترح أن ننتظر مرور أحدٍ في الطريق لنسأله ونتأكد من مكان المحطّة القادمة. «إذا كانت امرأة أستطيع أن اسألها أنا، إذا كان رجلاً فالأمر لكِ، لا أريد التحدّث إليه»، اشترط بحسم ملوحاً بيده كمن يبعد عنه فكرةً سيئة. يبدو أسوأ مني بعد في عادة التوجّس من الغرباء في الطريق. كان الآن يتحدث عن والدته التي تقطن في هامبورج متعهداً أنّه سيزورها يوم السبت القادم. لم أرغب كثيراً في المشاركة بهذا الحديث، إذ لمع في ذهني على الفور متجر الخضار التركي في أول حيّ قطنت فيه هنا: في كل مرة كنت فيها أجلب شيئاً من الأغراض وأرقب النسوة العربيات والتركيات الخارجات من المتجر بمشترياتهنّ، كنت أبحث لأمّي عن مكانٍ بينهنّ. أي أغراض كانت لتجلب وكيف ستوبخني على خيارات المشتريات. تلك التي تشبه الوردة المتعالية الناعمة التي خلّفها الأمير الصغير الرحالة خلفه على كوكبه. كنت أريد أن أراها وهي تبدي اشمئزازها من رائحة مداخل محطات الميترو في برلين، حيث يقضى بعض الأخوة السكارى حوائجهم الطبيعية في آخر ساعات الليل. وأن أراها وهي تحفظ خطوط المواصلات وأماكن النقاط الحيوية ببراعة منذ أيّامها الأولى. كنتُ أعيد في رأسي احتمالات وجودها كلما دخلتُ المتجر، وأمسكتُ بالأغراض على نحوٍ عشوائي في محاولة لارتجال مكوّناتٍ أطهوها اليوم. طوّرت تقنية ناجعة للتعامل مع ذلك كله فيما بعد. بدأ ذلك حين كنت أقلّب المعلّبات في المتجر بجهل بالغ. حملت علبة فاصولياء الكلى وتوجهت بها نحو أول سيدة رأيتها. كانت سمراء بملامح قوية تضع حجاباً كحلي اللون. سألتها إن كان بوسعها أن تنصحني بمكوناتٍ أخرى أبتاعها لأصنع من هذا الشيء طبقاً. تبرّعت بحماس للمهمة تاركة كل أغراضها من يدها. شرحت لي كل ما ينبغي فعله. أُحرجت عندما سألتني عن سنّي، اختصرت عدة سنوات وتذرّعت بأنّني متزوجة منذ مدة قريبة لذلك أتعلم الطبخ الآن. ابتسمت لي ابتسامة المتفهّم للأمور. بتُّ أعود مراراً إلى المتجر في مهمات اصطياد شبيهة، حاملة المعلبات وأنا ألاحق المتسوّقات الأكبر سناً بشغفٍ بالغ سائلة عن وصفاتهن.

كنّا قد اقتربنا من الوصول حيث يجب أن نفترق، ليذهب ويقف في «الكيو». كنتُ أريد أن اسأله قبل ذلك سؤالاً يلحّ علي، ولكنّني لم أكن متأكدة تماماً إذا كان من اللائق أن يُسأل شيء كهذا. بتّ أكره هذه الحساسية الجديدة لموازنة كل شيء أتفوه به بمعيار ما هو «صحيح سياسياً» في وسط كل تلك الأخطاء الفادحة. تشجّعت في النهاية، قلت: «اسمع، لدي مشكلة، أنا أفتقد في الحقيقة إلى حسّ الأناقة. لا أعرف حتى الآن أي حذاء يتوجب على المرء ارتداؤه مع الجينز ذو الساق الضيّقة». كما كانت لتفعل أية سيدة ممن ألاحقهن في متاجر حي زونن آليه، كان يعرف تماماً ما ينبغي فعله. توقف عن المشي ليعطيني نصيحته قبل أن يذهب: «ولكن، هذا سهل جداً. حذاء رياضي ضيق سيفي بالغرض».