في نهاية مفاوضات الأستانا التي كان الهدف منها محاولة العمل على تثبيت وقف إطلاق النار بين النظام وفصائل مسلحة معارضة، فاجأت روسيا الأطراف السورية بتقديم مسودة لمشروع دستور جديد لسوريا، مؤكدةً بعد ذلك أنها لا تهدف من هذه الخطوة إلى فرض أفكار دستورية على السوريين، وإنما فقط إلى تشجيع السوريين على البدء في النقاش حول موضوع الدستور
مسودة الدستور التي قامت وكالة سبوتنيك الروسية بنشر مواد منها
بعيداً عن الخوض في نقاش إذا ما كانت الخطوة الروسية صحيحة أما لا، أو أنها استباقية وتنسف قرار مجلس الأمن رقم 2254 الذي يؤكد على تشكيل حكومة انتقالية تكون مسؤولة لاحقاً على تحديد مدة زمنية لصياغة دستور جديد لسوريا
طرحت المسودة الروسية النقاط التالية:
– إزالة كلمة «عربية» في وصف الدولة السورية، للتأكيد على ميزة التنوع الثقافي للمجتمع السوري. فبدلاً من اسم «الجمهورية العربية السورية» تدعو المسودة إلى إحلال اسم «الجمهورية السورية».
– ضرورة مراعاة التمثيل النسبي لجميع الأطياف الطائفية والقومية لسكان سوريا في التعيينات الحكومية، مع تخصيص بعض المناصب لتمثيل الأقليات.
– تشكيل أجهزة الحكم الذاتي الثقافي الكردي، واعتبار اللغتين العربية والكردية لغتين رسميتين فيها.
نود هنا تسليط الضوء على المرجعية النظرية لهذه النقاط الثلاثة، في القسم الأول سنطرح موضوع حيادية الدولة من خلال الفصل بين مفهومي «القوم» و«الدولة» الذي يتعلق بالنقطة الأولى، وسنقوم في القسم الثاني بتسليط الضوء على مفهوم الاستقلال اللامناطقي (اللاجغرافي) وعرض نموذجين يندرجان تحت هذا المفهوم: 1-نموذج «التشاركية النسبوية» الذي يتعلق بالنقطة الثانية. 2-نموذج «الاستقلال القومي الثقافي» الذي يتعلق بالنقطة الثالثة.
أخيراً سنقوم بمقاربة هذه المفاهيم والنماذج مع الحالة السورية، من خلال عرضنا لبعض النقاط الإيجابية والسلبية.
فك الارتباط بين مفهومي «القوم» و«الدولة»
قد يكون الطرح الروسي في إزالة الصفة العربية عن الدولة السورية ليس فقط جديداً بالنسبة لكثيرٍ من السوريين، ولكن أيضاً للوهلة الأولى مخالفاً لفهم كثيرٍ منا لمفهوم تطور الدولة الحديثة. فبالنسبة لكثيرين ارتبطَ مفهوم بناء الدولة الحديثة بمفهوم القوم (Nation) بشكل كبير ليس فقط نظرياً وإيديولوجياً، وإنما تجسد ذلك تاريخياً في المحاولات الكثيرة التي قامت بها نخب منطقة الشرق الأوسط لتأسيس الدولة القومية (أو الرغبة في تأسيسها)، بالاعتماد على التجربة الأوروبية في بداية القرن الماضي بعد سقوط الامبراطورية العثمانية، ولاحقاً في مرحلة التحرر من الاستعمار الأوروبي، كالقوميين الأتراك أو العرب أو الأكراد.
هذا الارتباط بين مفهومي «القوم» و «الدولة» ليس مقتصراً على فهمنا السياسي وتجارب المنطقة في بناء الدولة الحديثة فحسب، بل ما زال مسيطراً على الفكر السياسي العالمي وحتى على قانون العلاقات الدولية إلى درجة كبيرة. بالنسبة لكثيرٍ من السياسيين والباحثين في علوم السياسية، إن مسألة السيادة، أي حق امتلاك القرار والاستقلال القومي، لا يمكن أن تأخذ شكلها الأفضل إلا من خلال سيطرة قوم ما على منطقة جغرافية ما، محققة بذلك مبدأ السيادة المناطقية/الجغرافية (sovereign territory). الفرضية تعتمد على أن المجموعة القومية (الإثنية) يجب أن تسيطر على منطقة جغرافية محددة حتى تتمكن من حماية أفرادها والدفاع عن مصالحها والحصول على حقوقها القومية (السياسية والثقافية)، وبالتالي فإن الاستقلال القومي في الإدارة الذاتية واتخاذ القرارات لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال مبدأ الدولة القومية ذات السيادة المناطقية
المبدأ الذي يعتبرُ التجسيد الأمثل لفكرة بناء الدولة القومية الحديثة هو: 1-القوم، 2-الأرض: منطقة جغرافية محددة، 3-السيادة: السيطرة والاستقلال في اتخاذ القرارات.
ولكن يعتقد بعض الباحثين في علوم السياسية والاجتماع أن العديد من الدول في عالمنا المعاصر هي في الواقع خليط من القوميات والثقافات، ففي العالم هناك حوالي 9000 جماعة قومية، 3000 منها شكلت حركات قومية ذات مطالب سياسية
هذا التنوع والخليط الثقافي ازداد أيضاً بشكل خاص بعد حركة الانتقال والهجرة الكبيرة التي يشهدها عالمنا حالياً. هذا ما قد يجعل الفكرة التقليدية لبناء الدولة القومية الحديثة غير قادرة على التعامل مع المجتمعات المتنوعة بشكل عام، والمجتمعات التي يسودها انقسام اجتماعي عميق بشكل خاص
الاعترافُ بحقوق الإنسان الشخصية للمواطنين قد لا يكون كافياً -في الدولة الديموقراطية التي تعتمد على مبدأ الأكثرية في اتخاذ القرارات- لضمان حقوق الأقليات وإيجاد وسائل سياسية لحل مسائل عديدة، مثل حق تعلم اللغة الأم أو اختيار اللغة التي يجب استخدامها في المؤسسات الحكومية أو ماهية المحتوى الثقافي للمناهج المدرسية والجامعية
الاستقلال اللامناطقي للتعامل مع مسألة الأقليات
يُحذر إيفرايم نيمني من أن التعامل مع أي دولة على أنها من المفترض أن تكون دولة قومية شيء خطير جداً، فبهذه الطريقة يمكن اعتبار الدولة القومية على أنها المفهوم السياسي الوحيد لتحقيق السيادة والاستقلال القومي للجماعة. فالدولة القومية المتعصبة لقوميتها قد تكون السبب وراء الحروب والصراعات الداخلية بين الجماعات الاجتماعية المختلفة مؤدية في بعض الأحيان إلى مجازر عرقية
فمفهوم الاستقلال اللامناطقي يحاول التعامل مع كثيرٍ من الصراعات والخلافات الاجتماعية التي فشلت الدولة القومية التقليدية في التعامل معها، إذ أنه يشمل العديد من الأشكال والنماذج في الإدارة السياسية التي تسعى إلى تمثيل مكون اجتماعي ثقافي من مجتمع ما، يقطن ضمن منطقة محددة، ولكن بدون أن يحق لهذا المكون أن يمتلك السيادة السياسية بمفرده على هذه المنطقة. وبالتالي يحق لهذا المكون الاجتماعي الاستقلال وممارسة حق أخذ القرارات المتعلقة بالجماعة، ولكن دون التمتع بالسيادة الكاملة على المنطقة الموجود فيها
من الجدير بالذكر هنا أن مفهوم الاستقلال اللامناطقي كوسيلة في الإدارة السياسية ليس جديداً، فقد اعتمدت كثيرٌ من الامبراطوريات القديمة والقوى الاستعمارية على استخدامه لإدارة المناطق البعيدة عن مركز الحكومة، أو التعامل مع الأقليات العرقية أو الدينية، كما في نظام الملل في الامبراطورية العثمانية.
المفهوم يتجسد أيضاً في كثيرٍ من النماذج والأمثلة الحديثة والمعاصرة التي تختلف عن النماذج القديمة في أنها أكثر ديموقراطية، وتعطي مساحة أكبر للأقليات في المشاركة السياسية وممارسة الاستقلال الذاتي. نذكر منها: الاستقلال القومي الثقافي (National Cultural Autonomy) كما في إستونيا (1925 و1993)، روسيا الاتحادية (1996)، الدولة المتعددة القوميات في بوليفيا (Plurinational State)، والتشاركية النسبوية (Consociationalism) كما في لبنان وإيرلندا الشمالية.
إضافةً إلى أن هناك أشكال أخرى من الاستقلال المحدود في الإدارة الذاتية في التعامل مع بعض المسائل، مثل الاستقلال في الشؤون الدينية المتعلقة بأمور الأحوال الشخصية أو الاستقلال في الشؤون الثقافية المتعلقة بأمور تعلم اللغة الأم
«التشاركية النسبوية» كنموذج في تشارك السلطة
كأحد نماذج الاستقلال اللامناطقي يعتبر مفهوم التشاركية النسبوية/Consociationalism
اعتماداً على فرضية أن الديموقراطية التحررية من الصعب أو المستحيل تحقيقها في المجتمعات التي تسودها انقسامات اجتماعية عميقة، وخاصةً في المجتمعات التي لم تخض بعد تجربة ديموقراطية، يقترح لايفرت أن الديموقراطية التشاركية النسبوية/Consociational Democracy
كما يميز لايفرت بين نوعين من النسبوية: النوع الأول وهو النسبوية المُحددة مسبقاً (Predetermination Principle) والتي تعني أن حصة التمثيل لكل جماعة قومية أو دينية مُحددة مسبقاً في القانون كما في النظام السياسي اللبناني. أما النوع الثاني فهو النسبوية التي يتم تحديدها من قبل أفراد المجتمع أنفسهم (Self-determination Principle)، وتعني أن النسبوية تعتمد على الحق الشخصي في اختيار الجماعة وهذا يعطي فرصة أكبر للأفراد والمجموعات التي لا ترغب بأن تقوم بتنظيم نفسها أو تمثيلها على أساس عرقي أو ديني. بينما المبدأ الأول بالنسبة للايفرت «تمييزي وإقصائي للجماعات التي لا يشملها القانون»، فإن المبدأ الثاني «قد يكون أقل تمييزاً وأكثر مرونة وحيادية»
«الاستقلال القومي الثقافي» كنموذج للفصل بين السياسي والثقافي
للتعامل مع الصراعات الناتجة عن الربط بين مفهوم القوم والمناطقية قام كارل رِنِر (Karl Renner)، السياسي النمساوي المنتمي للحزب الاشتراكي الديموقراطي، في عام 1899 بتقديم مفهوم «الاستقلال القومي الثقافي» (National Cultural Autonomy) في مقاله «الدولة والقوم» كآلية سياسية في إدارة الصراعات القومية والتخفيف من الحركات الانفصالية القومية في الامبراطورية النمساوية-الهنغارية (1867-1918).
لاحقاً في عام 1907 تم تطوير هذا المفهوم من قبل أوتو باور (Ott Bauer)، المفكر النمساوي الذي ينتمي أيضاً إلى الحزب الاشتراكي الديموقراطي، في كتابه مسألة الجنسيات القومية والديموقراطية الاجتماعية.
على الرغم من أن هذا المفهوم لم يتم تطبيقه فعلياً، ففي عام 1918 سقطت الامبراطورية النمساوية-الهنغارية كنتيجة لهزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وعلى الرغم من أن النموذج لم تتم دراسته بالشكل الكافي على أرض الواقع، إلا أن الأفكار التي طرحها كلٌ من كارل رِنِر وأوتو باور أصبحت القاعدة النظرية لكثيرٍ من النماذج المماثلة التي تم تطويرها وتطبيقها لاحقاً، وبشكل خاص في دول أوروبا الشرقية.
في مقاله يقوم كارل رِنِر بإعادة طرح السؤال حول العلاقة بين الدولة والقوم. فالدولة هي عبارة عن وحدة مناطقية (جغرافية) ذات سيادة (Sovereign Territorial Entitiy) تُبنى من خلال توفر العوامل التالية: 1-سكان، 2-منظمة (للسكان) مع وجود رغبة شعبية جماعية ببناء هذه المنظمة، 3-سيادة واستقلال الرغبة الجماعية، وأخيراً 4-سيطرة هذه السيادة على منطقة جغرافية ما، أي ربط مبدأ السيادة بمبدأ المناطقية
أما القوم فهو في المقابل عبارة عن جماعة ثقافية (Cultural Community) أي فقط جماعة (Communio – Community) ولا يمكن اعتباره بشكل تلقائي كمجتمع (Societas – Society). فعلى الرغم من أن القوم قد يشكل نوع من الحسّ والفكر المشترك بين أفراده من خلال اللغة والأدب المشترك، ولكن هذا الوعي القومي ليس من الضروري أن يعني أن أفراد الجماعة يمتلكون رغبة جماعية في تشكيل منظمة لهم، أو أن الوعي القومي يجب أن يرتبط بشكل أساسي بمنطقة جغرافية ذات حدود
كما يميز كارل رِنِر بين مفهوم «الشعب» الذي هو عبارة عن وحدة دستورية تجمعها مصالح اجتماعية ومادية، وبين مفهوم «القوم» الذي هو عبارة عن جماعة ثقافية روحية فقط. بناءً على ذلك يفرق كارل رِنِر بين مجموعات المصالح الاجتماعية (Social Interest Groups) وبين مجموعات المصالح الثقافية (Cultural Interest Groups). بينما الأولى كمنظمات المجتمع المدني والنقابات يجب أن تعمل لمصالح الشعب بالكامل بغض النظر عن انتماءات الأفراد القومية، فإن الثانية كالمجالس القومية أو المراكز الثقافية القومية ومراكز تعليم اللغات الأم للجماعات القومية قد تعمل فقط لتحقيق مصالح الجماعة القومية التي تمثلها. هذا الفصل موجود إلى درجة مماثلة في روسيا الاتحادية، فهناك فصل قانوني بين منظمات المجتمع المدني ومنظمات الاستقلال القومي الثقافي
علاوة على ذلك، يقوم كارل رِنِر بالتمييز بين مبدأ القومية المناطقية (National Territorial Principle) ومبدأ الشخصية (Personality Principle). المبدأ الأول الذي يعتبر صفة أساسية في بناء الدولة القومية الحديثة، يعتمد ببساطة على المبدأ التالي: إذا كنت تعيش في منطقتي فأنت سوف تخضع إلى سيطرتي، وإلى قانوني، وإلى لغتي
التمييز الأخير الذي يجب إضافته هنا لتوضيح مفهوم «الاستقلال القومي الثقافي»، والذي قد يوضح أكثر فكرة «أجهزة الحكم الذاتي الثقافي الكردي ومنظماته» في المسودة الروسية، هي محاولة التمييز والفصل بين الاستقلال القومي السياسي والاستقلال القومي الثقافي.
الاستقلال القومي السياسي يعتمد على أن الجماعة القومية ينبغي أن تكون المُشرّع للقوانين التي تحكمها، أي لا بدَّ أن يكون هناك ربط بين الثقافة القومية والقوانين. وهذا يعني أن القوانين يجب أن يتم تشريعها من قبل الجماعة القومية وفي أفضل الأحوال أن يكون في إطار الدولة السيادية المناطقية أي تطبيق الاستقلال والحكم الذاتي السياسي
باختصار يمكن اعتبار الاستقلال القومي الثقافي، «أولاً كمبدأ عام يتمكن المواطنون من خلاله وعبر أشكال تنظيمية مختلفة من ممارسة أنشطة معينة مرتبطة بالحفاظ والتعبير عن هويتهم القومية. وثانياً كشكل خاص من التنظيم المبني على الهوية القومية، والذي يفترض أن يشمل ويمثل كل أفراد هذه الجماعة القومية»
مقاربة مع الحالة السورية
بعد هذا العرض للأفكار النظرية في التعامل مع مسألة الأقليات في المجتمعات المتعددة، يمكن القول إن المسودة الروسية من خلال محاولة إحلال اسم «الجمهورية السورية» تدعو إلى فكّ الارتباط بين القومية العربية والدولة السورية، داعمة بذلك مبدأ حيادية الهوية للدولة السورية. كما تركز المسودة على مبدأ الاستقلال اللامناطقي كبديل للاستقلال المناطقي للتعامل مع مسائل الأقليات في سوريا، وتخلط بين مجموعة من المفاهيم في الإدارة السياسية التي تندرج تحت نموذجي التشاركية النسبوية والاستقلال القومي الثقافي.
بالاعتماد على النموذج الأول، «التشاركية النسبوية»، تـؤكد المسودة الروسية على التشارك في السلطة والتمثيل السياسي النسبوي للأقليات، ولكن تُبقي السؤال مفتوحاً حول نوع النسبوية. فأي نوع من النسبوية يجب تبنيه في سوريا؟ النسبوية المُحددة مسبقاً أم النسبوية التي تعتمد على الاختيار الشخصي للأفراد في تحديد هويتهم القومية أو الطائفية؟
إضافة إلى تأكيد لايفرت نفسه على أن النسبوية المُحددة مسبقاً إقصائية وتمييزية، يمكن اعتبار هذا النوع من النسبوية عائقاً لأي نوع من التغير السياسي أو الاجتماعي. فهو يحافظ ليس فقط على النخب السياسية الطائفية أو القومية نفسها، بل أيضاً على البنية الطائفية والقومية للمجتمع ككل كما في الحالة اللبنانية. لذلك قد يدعم هذا المبدأ الحالة الطائفية والعصبية القومية في سوريا بدلاً من العمل على التغلب عليهما. علاوة على ذلك، كيف سيتم تحديد نسب التمثيل السياسي في غياب سجلات مدنية واضحة عن التكوين الاجتماعي للمجتمع السوري؟ فما تزال الإحصائيات والنسب عن موضوع الطوائف والإثنيات في سوريا غير علمية وموثقة أولاً، وثانياً تختلف من مصدرٍ إلى آخر
كما أن النوع الثاني، الذي يعطي فرصة أكبر للأفراد في الاختيار وتنظيم أنفسهم على أساس طائفي أو غير طائفي، ليس أفضل للحالة السورية بالضرورة لعدة أسباب: أولاً يتطلب آليات تسجيل لتحديد هوية الأفراد، الشيء الذي لا يمكن تحقيقه في غياب مؤسسات حكومية موثوقة عن كثيرٍ من المناطق، وبسبب حالة التهجير التي يعيشها جزءٌ كبيرٌ من المجتمع السوري. ثانياً قد يصبح موضوع تحديد الهوية القومية أو الطائفية سبباً للصراع بين الجماعات لزيادة أعداد تابعيها من أجل الحصول على نسبة تمثيل سياسي أكبر. ثالثاً هناك فئة في سوريا ترفض كل الانتماءات القومية أو الطائفية، فكيف سيتم التعامل مع تمثيلها السياسي؟
هذه النقاط تجعلنا نطرح التساؤل فيما إذا كان يجب حقاً تبني مبدأ النسبوية في الحالة السورية؟ في الحقيقة على الرغم من أن مفاهيم التشاركية النسبوية في الإدارة السياسية قد تقدم حلولاً لمسألة توزيع وتشارك السلطة في المجتمعات المنقسمة اجتماعياً، إلى أن هذه الحلول تعتمد بشكل أساسي على مبدأ الحل من فوق (Top-down Solution)، وبالتالي فهي فقط مؤقتة ولا يمكنها أن تقدم حلولاً على المدى الطويل للصراعات الاجتماعية المتجذرة كمسألة الطائفية أو المسألة الكردية في سوريا.
التشاركية السياسية قاعدة أساسية للاستقرار السياسي وتحقيق السلم، ولكن هذا التشاركية يجب أن تُبنى على أفكار سياسية جامعة تعمل لخدمة المجتمع ككل، وليس على النسبوية الاجتماعية والربط المباشر بين السياسة والجماعات الإثنية أو الطائفية. فبهذه الحالة ستطغى الطائفية السياسية على كل أشكال التشاركية السياسية، وستتكتل الطوائف على نفسها بدلاً من الانفتاح والتعاون بين الأفراد من مختلف المجموعات، مؤدية إلى زيادة الانقسامات والتصدعات الاجتماعية.
بالاعتماد على النموذج الثاني، «الاستقلال القومي الثقافي»، تقترح المسودة الروسية تشكيل أجهزة الحكم الذاتي الثقافي الكردي، واعتبار اللغتين العربية والكردية رسميتين فيها. بهذا الاقتراح تحاول المسودة الروسية الفصل بين السياسي والثقافي من خلال إعطاء الأكراد الاستقلال القومي الثقافي فقط، دون الحصول على الاستقلالية الكاملة في اتخاذ القرارات السياسية العامة للمناطق التي يتواجدون فيها.
هذه الأجهزة يمكن اعتبارها كمجموعات المصالح الثقافية (Cultural Interest Groups) التي تعمل فقط لتحقيق مصالح الأكراد في مسائل تتعلق بتعلم اللغة الكردية أو إدارة شؤون الأكراد الثقافية. وهذه تختلف عن مجموعات المصالح الاجتماعية (Social Interest Groups) كالنقابات ومنظمات المجتمع المدني، التي يجب أن تعمل لمصالح الشعب بالكامل بغض النظر عن الانتماءات القومية.
خلافًا لنموذج التشاركية النسبوية الذي يعتمد على النخبوية في التوصل إلى تسويات سياسية، يُعتبر نموذج الاستقلال القومي الثقافي بديلاً يركز على المزج بين حقوق الأقليات والحقوق الشخصية للأفراد، مع ترك فرصة ومخرج قانوني للأشخاص الذين لا يودون الانتماء أو العمل تحت سقف أجهزة الحكم الذاتي التابعة لأحد الجماعات. كما أن هذا النموذج يدعم مبدأ الحل من الأسفل (Botton-up Solution) من خلال إعطاء الجماعات والأفراد فرصة أكبر للمشاركة واتخاذ القرارات المتعلقة بشؤونهم الداخلية (حتى ولو أنها تقتصر على مستوى معين).
إن زيادة فرص المشاركة والنشاط الاجتماعي لأفراد المجتمع قد تساعد على المدى الطويل في كسر حالة الجمود السياسي، وسحب الشرعية من النخب الاجتماعية والسياسية التقليدية، وبالتالي تخلق فرصة أكبر للتطور والتغيير السياسي والاجتماعي. كما أن مبدأ فصل الثقافي عن السياسي، أي فصل مجموعات المصالح الثقافية (Cultural Interest Groups) عن مجموعات المصالح الاجتماعية (Social Interest Groups)، يعطي استقلالية خاصة للجماعات فيما يتعلق بالشؤون الثقافية، ولكنه يُبقي في الوقت نفسه على مساحة كبيرة للتعاون والتواصل بين أفراد الجماعات المختلفة للتعامل مع المسائل الأخرى التي تتعلق بالمصالح السياسية المشتركة للمجتمع ككل.
هذا النموذج قد يكون مناسباً أكثر للحالة السورية من النموذج الأول. فبالنظر إلى البنية الاجتماعية ومشكلة الطائفية والعصبية القومية المتجذرة في المجتمع السوري، يمكن أن يقدم نموذج الاستقلال القومي الثقافي حلاً وسطياً من خلال الاعتراف بحقوق الأقليات (الشيء الذي لا يمكن ولا يجب تجاهله في سوريا)، ولكن في الوقت نفسه الفصل بين الثقافي والسياسي، وإتاحة هامش أوسع للأفراد في حرية الانتماء والتنظيم الاجتماعي أو السياسي.
إن مبدأ التساوي في الحقوق السياسية بين جميع المواطنين بعيداً عن الانتماءات القومية أو الطائفية، أمرٌ ضروريٌ ومهمٌ لدعم الهوية السورية على حساب الهويات الأخرى التي ينبغي أن تندرج تحتها. كما أنه بالنظر إلى المسألة الكردية بشكل خاص، يمكن اعتبار هذا النموذج حلاً وسطاً واقعياً بين الفيدرالية المناطقية التي تسعى لها بعض القوى الكردية، والمركزية المطلقة التي ما يزال النظام والعديد من أطياف المعارضة متشبثين بها. ستكون الفيدرالية المناطقية صعبة المنال بالنسبة للأكراد ضمن حالة الرفض التركي
في النهاية لا بدّ من القول إن المسودة الروسية تتضمن مجموعة من النقاط تحاول تقديم حلول دستورية للعديد من المسائل المتعلقة بحقوق الأقليات ومسألة تمثيلها السياسي، وهي مسودة تستحق النقاش والطرح، خاصة في ظل تجاهل الأطراف السورية المتنازعة للواقع السوري الراهن، واقتصار هذه الأطراف على ترديد شعارات وطنية وخطابات سياسية بعيدة كل البعد عن الواقعية والموضوعية في مقاربة المسائل الاجتماعية والسياسية. ولكن في الوقت نفسه لا بدَّ من التأكيد على ضرورة إفساح المجال لتبادل الرؤى والآراء بين جميع مكونات المجتمع، ومنح الشعب السوري بكل أطيافه الوقت الكافي لصياغة دستوره الذي يعتبر الوثيقة القانونية الأهم، التي ستحدد شكل العقد الاجتماعي السوري الجديد.