إلى ذكرى ميشال سورا، شهيدنا

كنتُ في اسطنبول منذ نحو 10 أيام حين التقيتُ بشيوعيٍ من تركيا، شرحَ لي أن ما يجري في سورية هو مؤامرة إمبريالية على نظام تقدمي معادٍ للإمبريالية. وبقدر ما خلا كلام المناضل اليساري التركي من أي معلومة أو لمعة تحليلية تفيد أي شيء عن بلدي، لم يكن مجدياً أي شيءٍ حاولتُ قوله. كنتُ السوريَ الذي خرج لأول مرة من بلده وهو في الثانية والخمسين، يتلقى الصورة الحقيقية لما يجري في البلد من شخصٍ يُحتمَل أنه زار سورية مرة أو مرات قليلة، أو لم يزرها.

ما يشبه هذه الواقعة تكرر مراراً في العالم الحقيقي أو الافتراضي. يجادل ألمانيٌ أو بريطانيٌ أو أميركيٌ السوريَ في شأن تكلمه عن قضيته، التي يبدو أنهم يعرفون الحقيقة بشأنها أكثر منه. تُنكَرُ علينا الولاية المعرفية، أي قدرتنا على توفير المعلومات والتحليلات الأكثر إحاطة في شأن بلدنا. فإما أنه لا قيمة لما نقول فيما يخصّ قضيتنا، أو أن نُحصَرُ في المجالات الدنيا للمعرفة، كمصادر لاقتباسات يضيفها الصحفي أو الدارس الغربي إلى المعرفة التي ينتجها هو. هذه التراتبية المعرفية التي قد تتقبل أننا مصدر معلومات، وقد تأخذ اقتباساً بما يعطي الانطباع بمصدر سوري، لكنها قلما تستند إلى تحليلاتنا، واسعةُ الانتشار وغير منقودة في الغرب.

هناك مقالات وأبحاث وكتب لغربيين عن سورية، لا تحيل إلى مصدر سوري واحد، وخاصة من معارضي الحكم الأسدي. ولسبب ما تبدو سورية بلداً عاماً، يعرف الصح بشأنه أي مهتمين عارضين في أي مكان أكثر من المعارضين الذين يوضعون دوماً في وضع دفاعي، يستأنف عملياً نفي وجودهم ذاته في بلدهم. وبالقدر نفسه تُنكَرُ علينا الولاية السياسية على نحو يستأنف تجريدنا من أي جدارة سياسية وفكرية في بلدنا من قبل الدولة الأسدية. وفي المحصلة، نكون نحن السوريون بلا شأن أو أهمية في قضيتنا. هذا ينطبق على اليسار الأنتي إمبريالي في الغرب وغير الغرب، وينطبق بقدر طيب أيضاً على المركزيين الغربيين من تيارات المينستريم، وطبعاً اليمين.

المينستريم يقارب سورية (والشرق الأوسط) عبر واحد من ثلاثة خطابات: خطاب جيوسياسي، مع مركزية أمنية إسرائيلية وأولوية الاستقرار؛ و/أو خطاب ثقافوي أو حضاروي متمركز حول الإسلام والإسلاميين والإرهاب الإسلامي وحقوق الأقليات؛ و/أو خطاب حقوقـإنساني، يتعامل مع السوريين كضحايا (معتقلين ومعذبين، لاجئين، جياع، تنقصهم الخدمات الصحية…)، ويغفل الأبعاد السياسية والاجتماعية لصراعاتنا. المشترك بين الخطابات الثلاثة أنها غير مسكونة، تخلو من البشر، من الأفراد والمجموعات، من حسّ الحياة الاجتماعية، من ما يعيشه ويحلم به الناس.

اليمين الغربي يشارك في الخطابين الأولين، الجيوسياسي والثقافوي.

لكن ماذا بشأن اليسار؟ العنصر الأساسي في تعريف اليسار الأنتي إمبريالي لنفسه هو الإمبريالية ومناهضتها طبعاً. والإمبريالية هي شيءٌ موجود بمقادير كبيرة في أميركا ثم أوروبا، وهي إما غير موجودة في غيرهما أو موجودة فقط بمقادير ضئيلة. والشيء الأساسي في الصراعات الدولية هو مناهضة المقادير الكبيرة من الإمبريالية، وعدم الالتهاء بصراعات ثانوية مع مقاديرها الصغيرة أو بصراعات محلية أخرى غامضة. وقد أغنى هذا الخطاب غير المسكون بدوره، وغير المحتاج إلى معرفة أي شيء عن السوريين، عن معرفة سجل هذه الصراعات الأخيرة بأكبر قدر من التفاصيل.

وفي هذا الشأن، وعلى نحو متناقض، لعبت القضية الفلسطينية التي اهتدى عموم الأنتي إمبرياليين إلى تأييدها متأخرين، في تسعينات القرن العشرين وما بعد، دوراً في معاداتهم للكفاح السوري. إذ أن انطباعاتهم العامة من موقعهم البعيد العالي في المراكز الإمبريالية تفيد أن سورية ضد إسرائيل التي تحتل أرضاً سورية، وسورية تالياً مع فلسطين وضد الإمبريالية التي هي مع إسرائيل. وبما أن سورية تحت حكم الأسرة الأسدية منذ نحو نصف قرن، فإنهم، أولئك الرفاق، مع الأسديين. هذا تقريباً هو لبّ الفكر السياسي لما يمكن تسميته الأنتي إمبريالية من فوق. أما أن يكون السوريون تعرضوا لفلسطنة جذرية على يد إسرائيل داخلية متوحشة، وأنهم مباحون للإبادة السياسية والفيزيائية مثل الفلسطينيين، فهذا يقع خارج هذه المقاربة الجيوسياسية الجاهلة والمبتذلة للأنتي إمبرياليين من فوق، التي تضع بين قوسين السياسة والاقتصاد والثقافة والتحت الاجتماعي وتاريخ سورية الفعلي.

على هذا النحو من ربط صراعنا بصراع كبير كوني، هو الصراع الوحيد الحقيقي في العالم، يُنكَرُ أي استقلال ذاتي لأي من الصراعات الاجتماعية والسياسية الجارية في أي مكان، ويغدو المناهضون للإمبريالية، وخاصة منهم المقيمون في المراكز الإمبريالية المفترضة، هم الأفضل تأهيلاً لقول الحقيقة عن الصراعات الجارية في أي مكان. المنخرطون مباشرة في الصراع لا يعرفون ما يجري فعلاً إلا معرفة جزئية بالكاد، و«غير علمية».

في زمن الحرب الباردة كان الشيوعي الأرثوذكسي يعرف مصالح الجماهير الحقيقية، ويعرف اتجاه التاريخ، وهو ما كان يكفي كي يأخذ الموقف الصائب دوماً. لكن هذا الموقع المتعالي على التاريخ كان يضعه في موقع عالٍ جداً على الجماهير في حياتها الفعلية، وعلى الصراعات الاجتماعية والسياسية الحقيقية. موقع يمكن وصفه بالضبط بأنه إمبريالي من حيث أنه يتوسع على حساب الصراعات الفعلية ويلحقها به، ولا يهتم برأي المنخرطين فيها أو بمعرفة شيء عنهم. ما يميز الأنتي إمبرياليين الغربيين أن أكثرهم لا يعرف شخصاً واحداً من جماهيرنا، وأنهم لا يعرفون ما يتجاوز انطباعات ضبابية عن تاريخ بلدنا كي يعرفوا شيئاً عن انضباطه المحتمل بالسير في اتجاه التاريخ العام أم خلافه. هذا يجعل تدخلهم في شؤوننا تدخلاً إمبريالياً بكل معنى الكلمة: تدخلاً من فوق، يجردنا من الذاتية والقدرة على تمثيل قضيتنا، وتُبطِّنه علاقة قوة نشغل فيها موقع الضعيف الذي لا شأن له، ويخلو كلياً من حسّ الرفقة والتضامن والشراكة.

هذا يبقى صحيحاً حتى حين يكون اليسار المناهض للإمبريالية إلى جانب الثورة المصرية أو التونسية مثلاً. هو إلى جانبهما بناء على خطابات فكرية مبتذلة ومبسطة، تنحدر من زمن الحرب الباردة. أي أن الرفيق الأنتي إمبريالي مع الثورتين في تونس ومصر للسبب نفسه الذي «صمّده» ضد الثورة السورية: الموقف من المقادير الكبيرة من الإمبريالية في البيت الأبيض و10 داوننغ ستريت… وفي الحالين نحن في سورية، كما في مصر وتونس، غير مرئيين إلا من هذا المنظار الذي يقلل من قيمتنا إلى أقصى حد. نبقى تابعين لشيء آخر هو الوحيد المهم، الصراع ضد الإمبريالية (وهو صراع لا يخوضه الأنتي إمبرياليون، كما سأقول للتو).

من زمن الحرب الباردة يتذكر اليسار الأنتي إمبريالي أن سورية كانت أقرب إلى الاتحاد السوفييتي، وأن نظامها إذن مضاد للإمبريالية، وتالياً فهو ضد من يقاومون هذا النظام. التمركز حول الإمبريالية بوصفها شيئاً موجوداً في الغرب يضفي على مناهضيها تمركزاً غربياً لا يقل عن تمركز عتاة الإمبرياليين أنفسهم.

لا ينبغي الرد على ذلك بأن الدولة الأسدية ليست ضد الإمبريالية بأي معنى لهذه الكلمة. ينبغي، أولاً وأساساً، تأكيد الاستقلال الذاتي للصراعات الاجتماعية والسياسية من أجل الديموقراطية والعدالة اجتماعية عن هذا المخطط الكبير، المجرد، والقول إن هذا المخطط بالذات هو نزعة إمبريالية إلحاقية، تجب مقاومتها. فلا وجه عادلاً، مثلاً، لنفي حق الكوريين الشماليين في مقاومة نظامهم الفاشي بناء على هذا المخطط المجرد الذي يميل بالأحرى إلى إخراسهم، تماماً مثلما يفعل نظامهم.

يلزم دون ريب إعادة بناء أرضية فكرية وسياسية لنقد العالم وتغييره، لكن الأنتي إمبريالية المركزية لا تصلح لذلك إطلاقاً لتشربها النزعات الإلحاقية الإمبريالية، ولمركزيتها الغربية، وخلوها من أي مضمون ديموقراطي. ما يمكن أن يكون منطلقاً أصلح لبناء فكر النقد والتغيير في العالم هو النظر في الصراعات الفعلية، وفي العلاقات الفعلية بين أطراف الصراع. من ذلك مثلاً التفكير بأن بنية العالم الأول الغربي المسيطر عالمياً، أُعيد إنتاجها في بلداننا، ومنها سورية، فحصلنا على عالم أول داخلي تمثله نخبة الدولة الأسدية وعلى عالم ثالث مباح تتوسع هذه الدولة في قتله وتدمير بيئاته الاجتماعية. فلسطنة السوريين يكمن سِرُّها هنا، في العلاقة بين العالم الأول الأسدي والعالم الثالث للسوريين السود. والمهم أنه على هذا النحو تحولت الإمبريالية من جوهر موجود في الغرب، إلى هياكل سلطة محلية مستبطنة، تحرسها نخب سلطة، لا يندر أن تنتحل بلاغةً مضادةً للإمبريالية من أجل تخوين أي اعتراض داخلي وقمع الانشقاقات السياسية المحتملة. وهذا صحيح بخاصة في الشرق الأوسط، المنطقة الأكثر تدويلاً في العالم، أي التي تميزت بحضور إمبريالي عدواني مديد ومحروس بالقوة، موجه ضد الديموقراطية والتغير السياسي.

على هذا الأساس فقط فإن العمل على إسقاط الدولة الأسدية هو بالضبط نضال ضد الإمبريالية من تحت، وإن انتصار الدولة الأسدية على الثورة هو انتصار للإمبريالية، وتثبيت للعلاقات الإمبريالية في سورية والشرق الأوسط والعالم. أما الأنتي إمبرياليون من فوق فهم مجرد طفيليين لا يعرفون شيئاً، أسهموا عملياً في انتصار الإمبريالية عبر مناهضتهم للثورة السورية.

وبعد أن نقول إن هناك استقلالاً ذاتياً للصراعات المختلفة يوجب أن تُفهم بنيتها الداخلية وتواريخها قبل المسارعة إلى إلحاقها بصراع مجرد، متعالٍ على المجتمعات والبشر العيانيين، بعد ذلك فقط يفيد القول إنه ليس هناك شيء مضاد للامبريالية، حتى إذا فهمناها كجوهر مكنون في الغرب، في الدولة الأسدية، ولا شيء شعبي أو تحرري، أو وطني عالم-ثالثي. هناك حكم فاشي سلالي، يتلخص تاريخه خلال نصف قرن في تكون برجوازية جديدة بالغة الثراء وشديدة الوحشية، ومستعدة لتدمير البلد كي تبقى في الحكم إلى الأبد. وكما أشرتُ للتو فإنه ينسخ بنية علاقة السيطرة الإمبريالية في علاقته مع محكوميه، وهذا النسخ البنيوي أبلغ تأثيراً بألف مرة من أي بلاغة خطابية مناهضة للإمبريالية. وفي تكوين هذه الطبقة من أصحاب الامتيازات وفي إيديولوجيتها التي تحتفي بحداثة شيئية (حداثة المظهر وليس العلاقات ولا الحقوق ولا القيم…) استعدادٌ عنصريٌ قوي، ينظر إلى فقراء السوريين، من المسلمين السنيين بخاصة، مثلما ينظر اليهود الإشكناز الغربيون إلى الفلسطينيين العرب المسلمين (حتى إلى اليهود السفادريم الشرقيين في وقت سابق)، ومثلما نظرَ بيض جنوب أفريقيا العنصرية في ثمانينات القرن العشرين وقبله إلى السود: متخلفون، غير عقلانيين، متوحشون، إبادتهم ليست أمراً مهماً، هذا إن لم تكن شيئاً مرغوباً. وهذه النظرة لا تخص النخبة الأسدية وحدها، بل إن هذه بالذات تجد ما يُقوّي قلبها في التماهي بنظام رمزي وسياسي دولي تصعد فيه نزعة الإسلاموفوبيا عالمياً.

ومعلومٌ على كل حال أن هذه الدولة الأسدية التزمت بكل ما قد نفترض أنها إملاءات إمبريالية طوال تاريخها: حراسة الحدود مع إسرائيل منذ عام 1974، ضمان الاستقرار في الشرق الأوسط، ضرب الاستقلالية الفلسطينية، معاملة السوريين كعبيد وتدمير أي منظمات سياسية أو اجتماعية أو نقابية مستقلة. الدولة الأسدية جزء لا يتجزأ مما أسميه النظام الشرق أوسطي، القائم على مركزية الأمن الإسرائيلي، وضمان الاستقرار، وتجريد المحكومين في بلداننا من السياسة. هنا السرّ في الاستثناء الديموقراطي العربي أو الإسلامي، وليس ما تقوله التفسيرات الثقافوية الرائجة في الغرب. ونسخ الإمبريالية لنفسها في نظام كهذا، أو إعاة إنتاج ذاتها فيه، ينسخ في الوقت نفسه (هنا بمعنى يُلغي) نظرية الإمبريالية التقليدية كشيء موجود في أميركا، أو فيها وفي أوروبا. وهو ما يعني أن اليسار الأنتي إمبريالي يعاني من بدائية فكرية، تضاف إلى نزعاته اللاديموقراطية والبطريركية العميقة.

وبالمناسبة، هناك أنتي إمبرياليون شيوعيون محليون تابعون للدولة الأسدية. وهم بالضبط من كانوا أتباعاً مخلصين للاتحاد السوفييتي ضمن الشيوعية السورية في سنوات الحرب الباردة، البكداشيون وتفرعاتهم (نسبة إلى خالد بكداش الذي كان الأمين العام للحزب الشيوعي السوري الرسمي التابع لموسكو حتى وفاته في مطلع تسعينات القرن الماضي، حيث ورثته زوجته وصال فرحة، ثم أورثت الحزب لابنهما عمار عند وفاتها). البكداشيون اليوم من الطبقة الوسطى المتعلِّمة بنموذج حياتها المعوْلم، يقيمون في مراكز المدن، منفصلين تماماً عن المعاناة الاجتماعية لمواطنهيم، ومفتقرين إلى أي إبداعية. وحين كان سوريون متنوعون يتعرضون خلال جيلين للاعتقال والإذلال والتعذيب والقتل، كان البكداشيون يثابرون على اجترار بلاغة مناهضة الإمبريالية التي لا تكلّفهم شيئاً، مقابل سكوت تام على محنة بلدهم المديدة، وعلى تحولٍ سلطانيٍ بطريركيٍ للنظام، تحولت سورية بمحصلته إلى ما أسميه الدولة الأسدية، أي البلد المملوك ملكية خاصة للعائلة الأسدية ومحظييها. هنا مثال واضح لتواطؤ مناهضة الإمبريالية من فوق مع الإمبريالية من تحت.

في المقام الثالث، بعد أن نتكلم على الاستقلال الذاتي للصراعات العينية المختلفة، وبعد أن نبرز أنه لا شيء أنتي إمبريالي في الدولة الأسدية، ينبغي مساءلة الأنتي إمبرياليين عن نضالهم ضد الإمبريالية. لا أعرف مثالاً واحداً من هذا الرعيل الغربي المضاد للإمبريالية تعرض لاعتقال أو تعذيب أو تمييز قانوني وسياسي، أو حرمان من السفر أو فصل من العمل أو منع من الكتابة في بلده «الإمبريالي». أظن هذه حرمانات لا تقع في عالمهم أصلاً، ولعلهم لا يعرفون معنى الحرمان من السفر أو الكتابة أو التعذيب. فهم مثل الإفريقي الذي لا يعرف معنى الحليب، ومثل السوري الذي لا يعرف معنى كلمة رأي، والسويدي الذي لا يعرف معنى كلمة نقص، ومثل الأميركي الذي لا يعرف معنى عبارة بقية العالم، في النكتة المعروفة التي تسأل الأربعة عن رأيهم بنقص الحليب في بقية العالم. لم ألمس بأية صورة أن أحداً من الرفاق الأنتي إمبرياليين تستاءُ الإمبريالية منه أو تضطهده أو تفكر باغتياله أو حتى تشن حملات تشويه كلامية عليه. علماً أن الاغتيال الفعلي أو المعنوي كان من الممارسات الإمبريالية المألوفة حتى سبعينات القرن العشرين، في العالم الثالث بخاصة، وبقدرٍ ما حتى في الغرب. تخطر بالبال أمثلة غيفارا وباتريس لومومبا ومهدي بن بركة وأنجيلا ديفيز، وغيرهم كثيرون.

ولا يبدو أن أولئك الرفاق يدركون في أية أوضاع امتيازية هم، قياساً إلينا نحن السوريون. لا أريد إثارة شعور بالذنب عند يساريين غربيين تقليديين، لكن أطالبهم بالتواضع، وأن يوجهوا عيونهم نحو التحت، عموم الناس في سورية وغيرها، وليس نحو قتلة مثل بشار الأسد وأشباهه، وصحفيين غربين منافقين سئموا من لندن وباريس وبرلين وروما ونيويورك، ويجدون متعة واختلافاً في تجريب دمشق والقاهرة وبيروت وغيرها. يعرفون أن راتب ألوف الدولارات الشهري الذي ينالونه يُمكِّنهم من العيش حيث يشاؤون.

لا نريد لهم، كسوريين ديموقراطيين، أن يخسروا حقوق السفر وحرية الرأي والنشر التي ينعمون بها. لكن كيف لا يكونون مُطالَبين بأن يتضامنوا معنا، نحن المحرومون من مثل هذه الحقوق، وبأن يدينوا الطغمة التي تثابر على حرماننا، نحن عموم السوريين، منها؟

وما أبنيه على هذه النقاط الثلاثة هو أن الجماعة مخطئون ثلاثة أخطاء كبيرة، كل واحد منها لا يغتفر: يُلحقون صراعنا ضد نظام متوائم مع السيادة الإمبريالية في الشرق الأوسط، بل هو أحد ركائز سيادتها في الشرق الأوسط، بصراع ضد الإمبريالية لا يخوضونه، وليسوا في أية مواقع قريبة من خوضه. وبينما لا يفعلون شيئاً ضد الإمبريالية فإن كثيرين منهم يساندون نظاماً رجعياً بالغ الوحشية في صراع يجهلون كل شيء عنه. وما أستخلصه من ذلك هو أن نزعتهم الأنتي إمبريالية تحيل إلى هوية مشتهاة لهذه المجموعات، وليس إلى عمل فعلي يقومون به. اليسار الأنتي إمبريالي اليوم طائفة صغيرة متحجرة، ليست عاجزة عن الهيمنة فحسب، بل هي طائفة رجعية متعجرفة وجاهلة. غرامشي يستحق ورثةً أفضل.

وجذر هذه الأخطاء الثلاث هو في تصوري تقادم تفكيرهم حول الإمبريالية، النظرية الجوهرانية التي تفترض أن الإمبريالية جوهرٌ موجود في الغرب، وليست نظاماً للعلاقات الدولية، يتجسد بصور مختلفة باختلاف حقول الصراعات السياسية والاجتماعية في البلدان والأقاليم. نعيش في سورية واحداً من أقسى أشكال نظام العلاقات هذا، محرومين من الحريات السياسية، ومباحين لطغمة حاكمة فاسدة وإجرامية، جعلت من سورية حكماً وراثياً في سلالة من القتلة.

*****

قلت قبل قليل إن هناك شيئاً إمبريالياً متأصلاً في الأنتي إمبريالية اليسارية. الصراع السوري بالذات مثال طيبٌ لإثبات ذلك.

تنكر الإدارة الأميركية، ومعها في ذلك النظام الأوتوقراطي الروسي، استقلالية الصراع السوري عن الحرب ضد الإرهاب. إدارة أوباما فعلت كل شيء كي لا تفعل شيئاً يمكن أن يستفيد منه السوريون في كفاحهم، وهذا حتى بعد أن انتهك بشار الأسد خط أوباما الأحمر. لماذا؟ لأنها فضلت بقاء بشار الأسد في الحكم، مرشح المؤسسة الإسرائيلية المفضل الدائم لحكم سورية، أو أن يجري تغير سوري مُتحكَّم به تماماً، أي ألا يمتلك السوريون التغير السياسي في بلدهم. الولايات المتحدة متدخلة عسكرياً في سورية منذ أيلول عام 2014، ضد داعش والقاعدة. وهذه حربٌ لا يبدو أن الأنتي إمبرياليين يعترضون عليها مثلما اعترضوا قبلها بعام حين بدا أن إدارة أوباما قد تعاقب بشار الأسد على انتهاكه خطاها الأحمر (وليس على قتله السوريين، بالمناسبة). وهذا رغم أن المسؤولين الأميركيين تسابقوا وقتها على القول إن الضربة في حال حدوثها ستكون محدودة، حتى أن جون كيري قال في لندن في الأسبوع الأول من أيلول 2013 إن الضربة المحتملة ستكون «صغيرة إلى حدٍّ لا يصدق»!

الأصل في ذلك كله هو أن الإدارة الأميركية ألحقت الصراع السوري بالحرب ضد الإرهاب، وحاولت فرض معركتها هذه على السوريين، ليتخلوا عن معركتهم هم ضد نظام الطغمة الأسدية. هذا ما فعلته الإمبريالية.

وما لا يبدو أن مروجي مفهوم الإرهاب من الأنتي إمبرياليين الغربيين يدركونه هو أن الحرب ضد الإرهاب متمركزة حول الدولة، حول تصور دولاني للنظام الدولي يُقوّي الدول، ويضعف المجتمعات والمنظمات السياسة والحركات الاجتماعية والأفراد. وهي حربٌ تتيح لبشار الأسد أن يكون شريكاً في قضية توافق سيطرة الأقوياء في العالم، بعد أن كان بلا قضية طوال عامين في مواجهة شعبه. لكن لعل المسألة ليست مسألة عدم إدراك. هناك شيء دولاني متأصل في تكون اليسار الأنتي إمبريالي المنحدر من سنوات الحرب الباردة، يعزز من حقيقة أن اليساري الأنتي إمبريالي النمطي هو، بطبيعته وتكوينه، جيبوليتكي المنظور. لعله لذلك كان التروتسكيون والفوضويون، وهم دولانيون أقل ومجتمعيون أكثر، إلى جانب السوريين في كفاحهم.

ورغم أنه ليس هناك نجاح واحد في سجل محاربة الإرهاب، وأن هناك ثلاثة بلدان محطمة بفعلها: أفغانستان والعراق وسورية، فإن هذا السجل غير مفاجئ من قوى إمبريالية تتميز بالغطرسة والعنصرية، ولا تدفع أي حساب عما ترتكبه من جرائم أو تلحقه من دمار بمجتمعات غريبة.

اليسار الأنتي إمبريالي، مثل الإمبريالية نفسها، ألحق الصراع السوري بشيءٍ آخر، «تغيير النظام». تغيير النظام في سورية يبدو تدبيراً إمبريالياً من وجهة نظر الرفاق اليساريين الأنتي إمبرياليين. هذا أسوأ من خطأ بمائة مرة. هذا إهانة للسوريين، لكفاحنا خلال جيلين ولمئات الألوف من الضحايا، وهو كفاح لا يعرف عنه معظم هؤلاء الرفاق أي شيء بالمناسبة.

أكرر: الإمبريالية، والأميركيون تحديداً، لم يريدوا تغيير النظام في أي وقت، وبعد المذبحة الكيماوية في آب 2013 بحثوا عن مسوغات لأنفسهم كي لا يؤذوه، رغم أنه توفرت لهم ذريعة قوية جداً وقتها لو كانوا يريدون تغييره، أو مجرد إيذائه. تغيير النظام في سورية هو مبادرتنا نحن السوريون، وهو مشروعنا نحن. فإما أن الأنتي إمبرياليين يعتبروننا عملاء للإمبريالية، وبعضهم ليسوا بعيدين عن قول ذلك. ومنهم في إيطاليا من اعتدوا قبل شهور على صور تقرير سيزار لضحايا صناعة القتل الأسدية. أو أن كل تغيير للنظام السياسي هو شيء سيء ويخدم الإمبريالية. لكن أليس هذا تعريفاً جيداً للرجعية، بالأحرى؟

الإلحاق هو سمة جوهرية للإمبريالية، والأنتي إمبرياليون الذين يلحقون صراعنا بصراع آخر (لا يخوضونه فوق ذلك) لا يختلفون في شيء عن الإمبرياليين الذين يقومون بالشيء ذاته. يجمع الطرفين إنكار قضيتنا وإنكار ولايتنا السياسية وتمثيلنا لأنفسنا. وما يقولونه لنا عملياً هو إنهم هم من يحدودن الصراعات الصحيحة، وأننا غير جديرين بالثورات وبإنتاج المعرفة عنها وعن العالم. لكن أليس هذا تعريفاً جيداً للإمبريالية، بالأحرى؟

وبالمناسبة، إلحاق صراعنا بشيء آخر هو السمة الجوهرية للحكم الأسدي، الذي لا يكفّ منذ ما يقترب من نصف قرن عن اغتيال حقوق محكوميه وحرياتهم وقمع محاولاتهم امتلاك السياسة في بدلهم، على مذبح صراعٍ ضد إسرائيل لا يخوضه. هذا بينما أظهر استعداداً طيباً لخوض حربين ساخنتين في الداخل السوري، كلفت الأولى عشرات الألوف والثانية مئات الألوف حتى اليوم. ثم إن إلحاق كفاحنا بشيء مختلف عنه هو أيضاً سمة الإسلاميين الذي عملوا على تسخير صراع السوريين من أجل امتلاك السياسة، أي من أجل الحرية، لشيء خارجي عنها، الشريعة أو الدولة الإسلامية أو الخلافة.

والمشترك في حالات الإلحاق الأربعة هذه كلها، إلحاق الحكومة الأميركية وأتباعها وروسيا وأتباعها وإيران وأتباعها لصراعنا بحرب لا تنتهي ضد الإرهاب، إلحاق اليسار الإنتي إمبريالي الغربي لصراعنا بصراع ضد الإمبريالية مفهومةً كشيءٍ موجودٍ في بلدانهم الغربية، وإلحاق الحكم الأسدي لتطلعات السوريين التحررية بصراع ضد إسرائيل لا يخوضه، وإلحاق الإسلاميين صراعنا العام بصراع من أجل تطلعاتهم الطائفية الخاصة، المشترك بينها هو البطريركية، تصرف جهة نافذة ما كأبٍ عارفٍ بكل شيء، يقرر وحده ما هو صحيحٌ للأولاد الصغار الذين هم نحن. إن لم يقبل من جرى تطفيلهم على هذا النحو قرار الأب، يعتبرون جاهلين أو عملاء أو كفار، ويحرمون من الكلام ومن السياسة، أو من الحياة ذاتها، ويجري قتلهم بالأسلحة الكمياوية أو البراميل المتفجرة أو التجويع أو عبر صناعة موت منظمة في السجون والمشافي.

وتقديري أن في أساس هذه المواقف البطريريكية الرجعية من قبل أصحابنا الأنتي إمبرياليين، شيئان. أولهما تحول لليسار الشيوعي وورثته إلى مواقع الطبقة الوسطى المتعلمة، المنفصلة عن المعاناة الإنسانية، والعاجزة عن الإبداع مثل بكداشيينا المحليين (وهذا مرتبط بتحولات الاقتصاد في بلدان الرأسمالية المركزية ونزع الصناعة وتراجع وزن الطبقة العاملة الصناعية، وظهور يسار «الكامبس»، وهو لا يفعل شيئاً، ويعرف القليل رغم موقعه في الأكاديميا…). لم يعد هناك شيء ثوري أو تحرري في تكوينهم، وهم لا يخوضون أي صراعات حقيقية. والثاني هو المخططات الفكرية للحرب الباردة، أي المعرفة بالتذكر على الطريقة الأفلاطونية، وكذلك العقم الفكري وجدب الإبداعية.

المصادر المعرفية عن سورية لهذه اليسار هي أمثال الصحفي «المسرور» embedded روبرت فيسك الذي رافق دبابات النظام وهي تقتحم داريا قرب دمشق، وتقتل مئات من سكانها، قبل أن يتطور إلى إجراء مقابلات مع قتلة مثل جنرال المخابرات الجوية جميل حسن، وينشرها في ما يفترض أنها منابر مستقلة في خدمة الديموقراطية مثل الإندبندنت. ومثل باتريك كوكبيرن، والرجل شريك لفيسك في صداقة طغمة الحكم الأسدي، وأشكك في أن أي منهما يعرف معارضاً يسارياً سورياً واحداً. ومثل سايمور هيرش الذي أفسدته جائزتا بوليتزر، فصار متثبت التفكير على الهاي بوليتكس، لا يرى شيئاً تحت. ومثل بشار الأسد نفسه، وهو يحظى بمقابلات في الإعلام الغربي، وبزيارات وفود من اليسار الغربي (ومن الفاشيين واليمين المسيحي الغربي) لم يكن يحظى بمثلها قبل أن يقتل مئات الألوف من محكوميه.

لم تعد لهذا اليسار قضية حية من أي نوع. يتطفل على قضية كقضيتنا لا يكاد يعرف عنها شيئاً فيسيء كثيراً. وهو يشعر بالذنب لأنه لا ينقصه شيء، فيوجه مشاعره المضطربة ضد ميركل وتيريزا ماي وأوباما وترامب…، فيقف إلى جانب بشار الأسد بعد أن كان أقنع نفسه بأن بشار ضد هؤلاء. وهو أقل معرفة وأدنى فضولاً بكثير من أن يفكر بحال محكومي بشار الأسد الذي لا يعرف عنهم غير انطباعات مشوشة من مشاهدات في التلفزيون أو قراءات في صحف.

*****

وليس في كل ذلك ما يقول لأي يساريين غربيين ألا يتدخلوا في شؤوننا، أو ألا يكون لهم قولٌ عما نقوله عن صراعنا. نريدهم أن يتدخلوا. نحن نتدخل في شؤونهم، ولن نكفَّ عن ذلك. نعيش في عالم واحد، وينبغي الدفاع عن العالمية دوماً، في التحليل وفي العمل. لكننا نتوقع منهم تواضعاً واستعداداً أكبر للاستماع، وأقل لإعطاء الدروس، ومعرفةً لا تقوم على التذكر. وأن يكونوا ديموقراطيين، لا يُلحِقون صراعنا بغيره، ويأخذون في الاعتبار رأينا في شؤوننا، وأن يقبلوا أننا مساوون لهم وأنداد.

وليس فيما سبق أيضاً ما يقول إننا، نحن الديموقراطيون السوريون المعارضون للدولة الأسدية على حق في كل ما نقول لأن قضيتنا عادلة، أو أننا لا نقبل نقداً من غيرنا. نريد أن نُنتَقَدَ وأن نُنصَح، لكن لا يبدو أن ناقدينا يعرفون عنا شيئاً لينتقدونا أو ينصحونا. لا يروننا أصلاً. منظوراتهم المتعالية تجعلنا غير مرئيين. لو كانوا أكثر انفتاحاً على وقائع الصراع السوري وديناميكياته وتحولاته عبر السنين لكانوا في وضع أفضل لبلورة تصورات أكثر إحاطة، ولنقدنا أيضاً. شركاؤنا من اليساريين الغربيين، وهم ليسوا قلة، هم ديموقراطيون راديكاليون واشتراكيون وفوضويون وتروتسكيون، اقتربوا من عالم التحت السوري وأصغوا لروايات السوريين. وليس بينهم واحد وضع يديه في أي يدٍ ملوثة بالدم المراق والمال المسروق من مثل بشار وطغمة القتلة واللصوص من أركان حكمه.

لسنا تبسيطيين نردُّ صراعنا إلى بعد واحد هو الصراع ضد الطغمة الأسدية. هناك بعدٌ ثانٍ، الصراع ضد المنظمات العدمية الإسلامية. لكن ليس خارج أوساطنا، نحن المنخرطين في الصراع السوري على أسس ديموقراطية وتحررية، يمكن تطوير سياسة ديموقراطية جذرية في شأن الإسلاميين. هذا إلا إذا كانوا يعتقدون أن الكره الماهوي للإسلاميين، الذي قد تكون محركاته طبقية أو طائفية، هو شيءٌ ثوري. مخطئون جداً إن كانوا يعتقدون بذلك. هذا صراع ديني أو طائفي، رجعي حتماً وعنصري غالباً. الموقع الأمثل قطعاً للصراع ضد الإسلاميين هو الموقع الديموقراطي الثوري المناضل ضد الفاشية الأسدية.

ولسنا غافلين، بعد ذلك، عن بعدٍ ثالثٍ لصراعنا، يتمثل في تدخلات متنوعة من مراكز إمبريالية تقليدية أو صاعدة، مباشرة أو عبر وكالات إقليمية، في صورة دول أو منظمات ما دون الدولة. وهنا أيضاً نرى أن الموقع الأكثر اتساقاً وجذريةً ضد الإمبريالية هو الذي يدرج الاستعمار الداخلي الأسدي في حسابه، وينحاز للضعفاء والمحرومين في سورية والإقليم. أولئك الذين يظنون أن بشار الأسد وطغمته سندٌ لهم في الصراع ضد الإمبريالية مُغفّلون جهلة في أحسن الأحوال، وعنصريون معادون للديموقراطية في أسوئها.

هذا الصراع الثلاثي الأبعاد يُعرِّف العالمية بالنسبة لنا، إن لم يكن للعالم ككل.

ولا أقول بعد كل هذا إننا لسنا مقصرين، أو إن ما نقوله عن هذه القضايا وغيرها هو الحكم النهائي بشأنها. نحن نعمل ونتعلم. تقصيرنا الأكبر يتمثل في أننا مشتتون، قوانا غير منظمة، وهو ما زاده شرط الاعتقال والقتل تحت التعذيب الذي طال جذع الثورة الاجتماعي، وشرط اللجوء، والتحطيم الواسع للمجتمع السوري على يد الطغمة الأسدية وشركائها الإمبرياليين والتنظيمات العدمية الإسلامية. جهودنا تصطدم في كل وقت بالمدى المذهل وغير المسبوق للمأساة السورية. لكننا مستمرون في العمل.

والخلاصة أن الصراع فيما يخصنا، نحن الديموقراطيون واليساريون السوريون، هو صراعٌ من أجل الاستقلال: استقلال بلدنا عن قوى مستعمرة وضعت على وجهها مثل كل القوى المستعمرة في التاريخ أقنعة كاذبة تتكلم على السيادة أو الوحدة أو التعددية أو محاربة الإرهاب…، واستقلال صراعنا عن مستعمرين آخرين، يفرضون علينا الصمت ويريدون منا أن نكون نسخاً منهم، تحت أقنعة كاذبة أيضاً، مثل مناهضة الإمبريالية ومحاربة الإرهاب.

نقد اليسار الأنتي إمبريالي الغربي وغير الغربي هو فيما يخصنا مساهمةٌ في الصراع من أجل الاستقلال، أي من أجل الحرية، وجهدٌ لامتلاك الكلام منفتحٌ على بناء شراكات تقوم على الرفقة والمساواة.