خمسة أعوام فصلت بين صدور الكتاب بلغته الأم، وبين ترجمته إلى اللّغة العربيّة ونشره. وهو عبارة عن حوارين أُنجِزا عن طريق الكتابة، أجراهما جون بريكمون مع نعوم تشومسكي على مرحلتين: الأولى بدأت عام 2001، والثانية عام 2009. ثم قام بريكمون بجمع هذين الحوارين ونشرهما في كتاب العقل ضد السلطة عام 2009، الذي ترجمه إلى العربية عبد الرحيم حزل وصدرَ عن داري الأمان المغربية والتنوير اللبنانية عام 2014. ويتخذ فيه تشومسكي من تعديّل «رهان باسكال» نموذجاً إرشادياً له (paradigm) في مجمل إجاباته، فما المشكلات التي تكمن في مثل هذا النموذج الإرشاديّ؟

يتناول الكتاب ثلاثة محاور جعلت من مراجعته عربياً مراجعة هامّة؛ لأنه يرتبط بما يجري الآن في المنطقة العربيّة من ثورات وفوضى وتدخل دوليّ من جهة. ومن جهة أخرى، يمكن إسقاط مضمونه على الواقعين، العربيّ والدوليّ؛ لامتحان أجوبته في سياقهما من أجل معرفة جدوى فرضية تشومسكي وقبله باسكال.

ونجد في هذه المحاور:

أ- قضايا متنوعة نحصد تداعياتها عربياً حتى الآن؛ كاحتلال العراق وأفغانستان والأزمة الماليّة.

ب- مسائل ما زالت راهنة تستحق إعادة التفكير فيها؛ كالتقدم والتراجع في حقوق الإنسان ومستوى الفقر وقضايا التحرر والثورات ومبدأ «مسؤولية الحماية» وتطبيقاته المزدوجة.

ﺟ- إشكاليات فلسفيّة متجددة؛ كرهان باسكال الاحتماليّ وجدوى التفاؤل وعبثية التشاؤم، وكمشكلة الطبيعة البشريّة (الشرّيرة والخيّرة) وعلاقتها بانعدام البديل للوضع القائم الراسخ في الظلم والاستغلال، أو علاقتها بإنتاج البديل وإمكانيته، ونقد الكتاب لفلسفة ما بعد الحداثة والفلسفة التأويليّة.

ويلخِّص الكتاب قلق تشومسكي من حدوث تغييرات في المستقبل، وعدم يقينه من تحقق البدائل، وذلك من خلال رهانه الأول؛ أي أنَّ «العقل ضد السلطة» لا معها. وهذا الرهان يستند إلى رهان باسكال بعد تعديله؛ أي الرهان الذي يقول: إنَّ العقل مع الإيمان بالله وضد الإلحاد به لغياب اليقين بوجوده. وهو الرهان نفسه الذي صاغه تشومسكي على الشكل التالي: إنَّ العقل مع التفاؤل بالبديل وضد التشاؤم منه لغياب اليقين بتحققه.

وبالرغم من قِدم صدور الكتاب نسبياً، إلا أن حداثة ترجمته النسبيّة، أيضاً، هامّة لأنها تعرّفنا على تشومسكي من زوايا مختلفة وجديدة بالنسبة لما عهدناه فيه من قبل؛ أي بشكل عامٍّ، كمثقف له طريقة تفكير خاصة به، وبراهين تؤسس لمواقفه.

نبذة تعارف

لا بأس من بعض تعريفٍ بالسائل/بريكمون، والمجيب/تشومسكي، وصاحب الرهان الأساسيّ/باسكال، والمترجم/حزل:

– جون بريكمون، فيلسوف علم بلجيكيّ وأستاذ الفيزياء النظريّة في جامعة لوفان، وقد كتب في نظرية الفوضى وتفسير كوبنهاغن للفيزياء الكموميّة، ومن كتبه الإمبرياليّة الإنسانيّة، ومثقّفون دجّالون بالاشتراك مع آلان سوكال.

– نعوم تشومسكي غنيٌ عن التعريف، وهو عالم لسانيّات وفيلسوف وسياسيّ له العديد من الكتب والأبحاث، والمواقف الجريئة من حرب فيتنام وحرب العراق وحرب أفغانستان ومبدأ «مسؤولية الحماية» الذي حددته الأمم المتحدة.

– بليز باسكال، فيلسوف وعالم وكاهن كاثوليكيّ عاش في القرن السابع عشر، اخترع الآلة الحاسبة، ومبدأ الضغط في السوائل، ويقاس الضغط بوحدة تسمى باسمه، وساهم في تأسيس علم الاحتمالات أو نظرية الحظوظ. وقد رأى باسكال أنَّ الله لا يمكن برهان وجوده بالعقل كما فعل ديكارت قبله، فاكتفى بالبرهان العقليّ على جدوى الإيمان ونفعه كقيمة متوقعة، سواء كان الله موجوداً أم لا. واعتبر باسكال في فلسفته أنَّ علم الإنسان ناقص على الدوام؛ وبنقصه هذا تكمن عظمة الإنسان، الذي يخترع في كل مرة شيئاً جديداً، بسعيه الدائم إلى الكمال الذي لن يصل إليه الإنسان مهما سعى. وبخلاف هذا اعتبر أنَّ علم النحلة كامل على الدوام، وبكماله هذا تكمن آلية النحلة وتكرارها للعمل نفسه دون اختراع شيء جديد. وبهذا يؤسس باسكال لتجاوز الإنسان لنقصه من خلال سعيه للكمال بالإيمان؛ لأن علم الله وعمله ومعرفته وجبروته -حسب باسكال- أكبر من علم البشر وعملهم ومعرفتهم وجبروتهم دوماً. وبهذا يكون الإيمان بالله عند باسكال استراتيجيّة نافعة على المدى البعيد، ودعوة لملء النقص القائم في طبيعة الإنسان وعلمه وعمله.

– عبد الرحيم حزل، كاتب ومترجم مغربيّ له عدة ترجمات مثل: على عتبة المغرب الحديث، وتازماموت، والبربر: ذاكرة وهويّة، والموت في سبيل فلسطين، والفضاء الروائيّ. ومن كتبه أسئلة الترجمة، وسنوات الجمر والرصاص، وعددٌ من المقالات.

في عنوان الكتاب ومقدمتيه

عنوان الكتاب

وضعه جون بريكمون لاعتقاده أنَّه يُلخِّص فلسفة تشومسكي، التي يستخدم العقل فيها كأداة، والقريبة من فلسفة باسكال. ولكن يمكن لنا نقاش هذا العنوان باتجاهات متنوعة بوصفه:

أ- عبارة خبريّة تقريريّة؛ تخبرنا الصدق وتقرِّر الحقّ في أن العقل ضد السلطة دون إشارة تعجب أو استفهام في آخر العبارة. وكانت عبارة مشابهة قد استخدمت كعنوان للمناظرة التي جرت عام 1971 بين فوكو وتشومسكي هي: الطبيعة البشريّة: العدالة ضد السلطة. والحق يُقال إنه منذ ذلك الوقت وقبله، تستخدِم السلطة العدالة لتقوية نفسها، ناهيك عن استخدامها العقل أيضاً بما يخالف رؤية تشومسكي وبريكمون، وكذلك باسكال، للأمر.

ب- بدهيّة لا تحتاج إلى برهان ومفروغ من البحث في صدقها؛ بحيث يستند إليها تشومسكي، كما فهمه بريكمون، ليبني عليها بناءً نظرياً. ولكن مثل هذه النظرية لم نجدها بين صفحات الكتاب، بل نجد كره تشومسكي لمصطلح «نظرية» الذي يعتقد أنه مصطلح «عفى عليه الزمن»/ص52.

ﺟ- مصادرة عسكريّة من الرأس على الواقع، يضعها المحاور وضعاً رغبوياً أو إيديولوجياً؛ لأنه -حسب مضمون الحوار- كان يجب عليه أن يضيف إلى العنوان «تغيير رهان باسكال» وألا يكتفي كما فعل بإضافة «رهان باسكال» فقط؛ لأنَّ تشومسكي عدَّل وغيّر من رهان باسكال أولاً. أما ثانياً فيقع بريكمون في مفارقة تخالف فحوى عنوانه نفسه، إذ يقول -في مقدمته عن فهمه العامّ لتشومسكي- إنه يراهن على السلطة أيضاً: «ورهان باسكال إذ يغيّر منه تشومسكي يصير كذلك رهاناً على السلطة وهو يبدو في ظاهره غير مأمون، ورهاناً على العقل ضد السلطة»/ص14. والمفارقة هنا أنَّ تشومسكي بات لديه رهانان، أحدهما على السلطة والآخر على العقل ضد السلطة؛ الشيء الذي يخالف فحوى العنوان الذي لخص فيه بريكمون فلسفة تشومسكي من جهة، ويثير الريبة في الفهم الذي يقدمه بريكمون عن تشومسكي عند القارئ المدقق فيما يقرأ من جهة ثانية. ولا سيّما، ثالثاً، إذا ما عرفنا أن نقد تشومسكي لمثقفين آخرين يقوم على معيارين اثنين: الأول مساندتهم للسلطة ورهانهم عليها بمعنى من المعاني، والثاني الابتعاد عن الحقائق الواقعيّة. وهذا خلافاً لما يعتقده بريكمون من أنَّ تشومسكي ينقد مثقفين آخرين لاعتبارهم العقل سلطة أو أداة إكراه.

د- فرضيّة جدليّة غير مجرّبة يمكن اعتمادها في باب الرأي والخاطرة، والكاتب حرّ في رأيه، ولا يمكن اعتمادها في باب التبويب والتصنيف والتلخيص؛ أي باب العلم والحقيقة لنبني عليها استراتيجيّة من أجل مقاومة السلطة المبثوثة في كل شيء وغير المركّزة في شيء بعينه كالدولة أو الحزب أو مجلس الأمن أو الجيش… كما كنا نعتقد لقرون طويلة. فهل يمكن لأحد أن يبرهن برهاناً مُقنِعاً على هذه الفرضيّة؛ أي العقل ضد السلطة، أو على مركزة السلطة لا انبثاثها؟!

ولكن، إذا أخذنا رهان باسكال بعين الاعتبار، كجزء من العنوان، تمكنّا من وضع هذا العنوان في سياق فهمه أساساً، وكيف طوّر تشومسكي هذا الرهان وعدّله. وهنا تبرز عدة أسئلة حول العنوان والرهان: فهل العقل فعلاً ضد السلطة؟! آمل ذلك. أم أنَّ العقل سلطة؟ أو أداة إكراه وقمع وضبط كالسلطة ومن إنتاجها؟! وفي حال كان الجواب بالإيجاب فعن أي عقل نتكلم؟! أليس العقل نسبياً يرتبط بالزمان والمكان والمحرز العلميّ؛ أي بالعالم والعلم؟ أم أنه عقل مطلق بلا حدود؟! وإذا كان العقل أعدل قسمة بين الناس -حسب ديكارت، الذي أكد على أنَّ الله أصبح امتداداً للعقل وضامناً لشكِّه وريبته، بعدما كان العقل امتداداً لله وكانت جلّ وظيفته تسبيح الله- فلماذا لا يوجد دائماً بصيغة عقلانيّة، حسب ماركس، لاستيعاء القيمة التبادليّة والاستغلال المرتبط بها؟ ولماذا نجده مرة مع السلطة وأخرى ضدها ومرة يكون من أنتجها ومرة تكون هي من أنتجته؟ أوليس العقل سلطة كذلك؟ وأخيراً، ما رهان باسكال الكاهن الكاثوليكيّ الذي طوّره تشومسكي، بالرغم من أنَّ هذا الأخير لا دينيّ كما هو واضع العنوان كذلك؟ أوليس الرهان ضرباً من المقامرة التي تحدث في سباق الخيل وألعاب الورق واليانصيب؟ أوليس الرهان القائم على الاحتمالات المرجّحة يُهمل الاحتمالات غير المرجّحة التي يمكن أنْ تقع أيضاً؟ ليصبح عندها مصير الناس وأمنهم واستقرارهم مجرد لعبة حظ، لا دراما ومأساة وكدّ وكدْح وكبْح كما في الواقع! أوليست حياة الناس الفعليّة مليئة بالحظ والصدفة والطارئ والعرضي والعبثيّ، ووظيفةُ العقل ترويض وعقلنة هذه الحالات عبر التاريخ؟

مقدمتا الكتاب

للكتاب مقدمتان؛ الأولى من المترجم، والثانية من بريكمون الذي أجرى الحوارين وجمعهما ونشرهما بهذا الشكل وهذا العنوان.

أولاً-مقدمة بريكمون: يشرح فيها رهان باسكال، والدواعي التي أوجبته لعنونة الكتاب بهذا العنوان؛ فالإنسان حسب تشومسكي غالباً ما يجد نفسه أمام رهان باسكال لعدم يقينه من خياراته، والحيطة تقتضي من الإنسان أنْ يستخدم عقله. ومثل هذا الرهان هو جواب تشومسكي عن سؤال جدوى الفعل السياسيّ ودرجة اليقين منه. وهنا يرى بريكمون أنَّ مثل هذا الجواب صائب، وأننا لا نستطيع أنْ نأتي بجواب غيره/ص12. فهل فعلاً لا نستطيع الجواب عن جدوى الفعل السياسيّ إلا بمثل هذا الجواب؟ ويُذكِّرنا بريكمون أيضاً كيف أجرى الحوارين ونشرهما تحت عنوان واحد بالرغم من الفاصل الزمنيّ بينهما. وهو يرى أن العنوان: «”يُمثِّل تلخيصاً وافياً بأعمال تشومسكي، وإجمالاً لمسار حياته. فالمثقف الذي من طينته لا يملك إلا العقل وسيلة لخوض المعارك. فهو لا يملك أسلحة، ولا يستند إلى دولة، أو يعوّل على محاكم»/ص13. وبعد أنْ يشرح رهانَ باسكال يقوم بربطه بجدوى العمل السياسيّ بوصفه رهاناً لا يقوم على يقين، بل على مقامرة. ثم يشير إلى آراء تشومسكي عن الطبيعة البشريّة وعلاقتها بالتقدم، وعن الدين، والعولمة، والفلسفة الوضعيّة وتلك التأويليّة منها، وأيضاً فلسفة ما بعد الحداثة. ويرى أن إيمان تشومسكي بالعقل ليس ساذجاً، كما أنَّ إيمانه بالتقدم كذلك. وذلك خلافاً لمعاصرين له يرون العقل من نتاج السلطة وأدواتها في الضبط والإكراه لا ضداً لها. ومن الدلائل التي يقدمها لتدعيم رأيه هذا؛ التقدم في الديموقراطيّة، والحريّات الفرديّة، وتحرر المستعمرات، وحقوق الأقليّات والمرأة والأجيال القادمة، وإعادة النظر في الأشكال التقليديّة للسلطة. وهذا التقدم حصل بفضل النقد العقلانيّ والتحرّريّ الذي تنامى منذ عصر الأنوار حتى الآن.

ثانياً-مقدمة المترجم: أما مقدمة المترجم فتفترق عن مقدمة بريكمون في إشارتها لأهمية الدين التي قال بها تشومسكي، وما ستلقاه عند المسلمين من سند لهم قادم من مثقف أميركيّ لا دينيّ. فتشومسكي يقول:«إنني أحياناً أحسد الأشخاص الذين يحملون مبادئ دينيّة صادقة. فأنا أرى كم أنَّ هذا الأمر يكون باعثاً على الراحة النفسيّة، وكيف أنَّ هذا الأمر يمكن أنْ يجمع بين الناس، وهو شيء نفتقر إليه كثيراً للأسف في مجتمعنا المستلَب والمنقسم على نفسه»/ص58. وكأنَّ المتدينين عندنا غير مستلَبين وغير منقسمين ولا يعكِّر صفو أنفسهم شيء! وأيضاً تذكر مقدمة المترجم تنويه تشومسكي إلى أنَّ وضع المرأة في ظل الاحتلال الروسيّ لأفغانستان كان أفضل مما هو عليه في ظل الاحتلال الأميركيّ، وكأن تشومسكي مثقف منحاز للشرق ضد الغرب حسب المترجم. وهذا معناه أنَّ الاحتلال شرّ لا بدّ منه لأفغانستان! وبهذا نغرق في تفاضل بين الاحتلالين عبر معيار وضع المرأة المتقدم، لا رفض الاحتلالين معاً. وهنا تبدو روائز التقدم عند تشومسكي جزئيّة وحصريّة؛ فالتقدم مفهوم قابل للقياس والإحصاء، وهو تقدم في الإنتاج أساساً (إنتاج + فائض)، وتقدم في التدمير والعدوان أيضاً؛ لأنه ليس مفهوماً سلبياً أو إيجابياً نحبه أو نكرهه. فنحن نراه ونحصيه في الولادات والصحة والتعليم كما نراه في الوفيات والأوبئة والأميّة… فإما أنَّ الوجود يتقدم وإما أنَّ العدم يتقدم، إما معسكر الأصدقاء يتقدم أو معسكر الأعداء يتقدم… فالتقدم الجزئي يجب أنْ لا يجعل منا مغفلين نغض الطرف عن التقدم الكليّ أو عن نقيضه المفهوميّ؛ أي التراجع الأخلاقيّ والجماليّ والحقوقيّ والقبول بالاحتلال كطبيعة بشريّة أو مجتمعيَة ثابتة.

عن رهان باسكال

يقوم رهان بليز باسكال على عقل الاحتمالات من جهة، وربطه بالجدوى والمنفعة من جهة أخرى؛ فالإيمان بالله عنده أفضل وأربح من الإلحاد به بغض النظر عن وجوده الفعليّ أو عدمه. فالله احتمالياً إما موجود أو غير موجود، والاحتمالان متساويان كل منهما يساوي النصف من واحد. فإذا كان الله موجوداً، فإنَّ المؤمن به سيربح ربحاً لانهائياً، وإذا كان غير موجود، فإنه لن يخسر شيئاً. أما الملحد بالله، فإنه سيخسر خسارة لانهائيّة في حال وجوده، ولن يربح شيئاً في حال عدم وجوده.

من هنا يبدو أن الحساب العقلاني للاحتمالين، يقود إلى أن يختار الفرد الإيمان بالله لا الإلحاد به، إذ أن عاقبة الإيمان جيدة كاستراتيجيّة؛ لأنَّ القيمة المتوقعة جيدة في لعبة التخمين هذه، فهي توازن بين النتائج وتحدِّد قيمة الأكبر والأصغر، الإيجابيّ والسلبيّ، وتتيح المفاضلة بين الخيارات.

في هذا السياق يمكن فهم عنوان الكتاب ورهان تشومسكي؛ فتشومسكي يُعدِّل من رهان باسكال قليلاً بافتراضه أنَّ العقل ضد السلطة. ولهذا علينا بالتفاؤل كاستراتيجيّة مجدية، فإن نجحنا نكسب وإن فشلنا لا نخسر، على عكس التشاؤم الذي يُخسِّرنا في الحالتين. وهنا نرى تشومسكي لا يهتم بفعليّة وواقعيّة وراهنيّة وصدقيّة القضيّة التي نتفاءل بخصوصها، والتي ربما تكون وهماً وسراباً وتضليلاً، طالما هي مجدية ومفيدة ومربحة لنا. فهل هذه الاستراتيجيّة كافية لإيجاد بديل عن الوضع القائم؟

في مضمون الكتاب

يقوم التزام تشومسكي، ويقينه بجدوى التزامه، على رهان أنَّ العقل ضد السلطة للإجابة عن أسئلة من قبيل: ما الداعي للفعل السياسيّ/الاجتماعيّ؟ وهل يُحدِثُ فرقاً أم لا؟ وهل من يقين ترتكز إليه جدوى وجدارة مثل هذا الفعل أم لا؟ إنها أسئلة متجددّة يعيد بريكمون طرحها على تشومسكي ليجيب عليها من جديد، ولكن في سياق جديد يتمثّل في:

1- حالة اللاجدوى من الفعل ونمو العبثيّة في العالم، والتشاؤم من عجز البشر بالنسبة إلى موازين القوى.

2- فلسفة اللاتفاضل بين الأفعال، ونسبيّة جدوى الأفعال، وحالة «كُلّه ماشي» سواء أفعل الفاعل أم لم يفعل.

وهنا لا يملك تشومسكي، لغياب اليقين عنده من جدوى الفعل التحرري، إلا تغيير رهان باسكال؛ وذلك بالرهان على التفاؤل والنضال من أجله لا الغرق في التشاؤم واليأس. ونحن هنا نناقش أجوبة تشومسكي في سياق الفوضى العارمة في المنطقة العربيّة وحالة اللاقطبيّة الدوليّة والتدخل الدوليّ الواقعيّ بما هو دون مبدأ «التدخل الإنسانيّ» النظريّ.

مضمون أول: لينين وتروتسكي أسوأ أعداء الاشتراكيّة

يحتج بريكمون على وصف تشومسكي للينين وتروتسكي بأنهما «أسوأ أعداء الاشتراكيّة»، ويعتبره وصفاً صادماً لكثيرين. فيجيب تشومسكي أنهما عدوان للاشتراكيّة من وجهين: الأول تفكيك التنظيمات الاشتراكيّة والشعبيّة التي ظهرت في حالة الحماس الثوريّ، وثانياً القيام بهذا التدمير باسم الاشتراكيّة/ص60. ونحن هنا غير مصدومين من الوصف، ولا نهتم بالدفاع عن لينين أو عن تروتسكي أو حتى عن الاشتراكيّة، بل نهتم بطريقة تفكير تشومسكي، التي تستخدم الإنكار كآلية دفاعيّة عن اشتراكيّة متخيلة في رأسه لم تتحقق. ولأنَّ لينين وتروتسكي لم يتماشيا مع فهمه للاشتراكيّة، أنكرها عليهما وجعلهما أسوأ أعدائها. والحق يقال إنَّ مثل هذه الطريقة منتشرة بشكل واسع؛ فكثيراً ما نقرأ مثلاً أنَّ تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن وتنظيم الدولة الإسلاميّة ضد الإسلام، أو أنهم ليسوا إسلاماً، أو يختلفون عن أصل الإسلام الأول والنقي أو عن التصور المتخيل للإسلام. أو أنَّ حافظ الأسد وصدام حسين ليسا بعثيين، وابتعدا عن البعث الصحيح بالأصل أو المتخيل، أو أنَّ فرنسا خانت شعارات الثورة الفرنسيّة ويطالبونها بالعودة لأصل الشعارات. ومثل هذه القراءات، إما قراءات رغبويّة تتخيل المسائل «على كيفها» ولا ترى ما تحقَّق واقعياً رغم نقصه وتلوذ بكمال المتخيل أو نقاء الأصل، أو قراءات أصوليّة لا ترى في تاريخ الشيء تنويعة على أشكاله. فلماذا من الصعب الاعتراف بما تحقّق بالواقع وبالتاريخ كتنويعة على شيء ما والاكتفاء بالإنكار لصالح أصل مزعوم أو مخيلة واهمة؟ إنه المرض الذي شخَّصه ميكافيلي يوماً؛ أي الاكتفاء بتخيل الواقع لا الذهاب إليه مباشرة. وبالرغم من أنَّ طابع الأسئلة اعتراضيّة تعبر عن مجمل النقاشات التي دارت حول تشومسكي، إلا أنَّ بريكمون يصرّ على وصف تشومسكي بالواقعيّة! فأين هي هذه الواقعيّة بحضور مُتخيّل تشومسكي على حساب الواقع؟

مضمون ثانٍ: لا يوجد بديل

وهي عبارة طالما واجهت بها مارغريت تاتشر المحتجين على الظلم والاستغلال القائم والراسخ في العلاقات الاجتماعيّة، وطالما واجه المجتمعُ الدوليُّ السوريّينَ بها. وثمة حجج تؤكد أنه لا يوجد بديل عن واقع العلاقات الاجتماعيّة الراهنة (ليس في الإمكان أحسن مما كان). وترتبط هذه الحجج بما يقدمه فهمنا عن «الطبيعة البشريّة الفطريّة». أفلا ينتج عن الطبيعة البشريّة تشاؤم بقيام بديل ما؟ يرد تشومسكي بأنَّ الطبيعة البشريّة يمكن فهمها حسب افتراضاتنا؛ فإذا افترضنا أنَّنا نفهم تماماً الطبيعة البشريّة ونفهم أنَّ العلاقات الاجتماعية مطابقة للطبيعة البشريّة كنا متشائمين بصدد التغيير وإيجاد البديل، أما إذا اعترفنا أننا لا نعرف إلا القليل عن الطبيعة البشريّة والقليل عن ارتباطها بالعلاقات الاجتماعيّة، فإنَّ هذا يدعو للتفاؤل بشأن حصول تغييرات وبدائل.

وهنا يجد تشومسكي نفسه في موقف شبيه بموقف رهان باسكال فيقول: «فلنفترض أنَّ لا شيء ممكن، فسيحدث الأسوأ؛ ثم لنفترض أنَّ في الإمكان أنْ ندفع الأمور نحو الأفضل، وإذاً فلربما تسنّى لنا أنْ نحقق هذا المراد. فإذا ما اعتبرنا بهذا الاختيار كان الموقف الذي نتخذه واضحاً، مهما تكن أحكامنا الذاتيّة (التي لا تقوم على أساس متين)»/ ص66. فالرهانات المتفائلة لا تقوم على أساس متين وكذلك الرهانات المتشائمة. فالأفضل الأخذ بالمتفائلة لأنَّ الاعتبارات الذاتيّة حول متانة الأسس مهملة.

مضمون ثالث: الطبيعة البشريّة

يمكن تكثيف آراء تشومسكي حول الطبيعة البشريّة بأنها طبيعة مزدوجة؛ بمعنى أنها تتراوح «بين الأكثر قدسيّة والأشد وحشيَة»/ص35. وقد تطورت تطوراً ولم يخلقها إله ما، ولكن في الوقت نفسه لا يحكمها مبدأ الانتقاء الطبيعيّ الداروينيّ. كما يرى أنه «لا وجود لطبيعة بشريّة خارج التاريخ»/ص157، ويرفض الحجج التي تقول إنَّ الطبيعة البشريّة تقف وراء انعدام البديل. يعتبر «المساعدة المتبادلة» عاملاً من عوامل التطور الذي تفرضه الطبيعة البشريّة، وطالما أنَّ فهمنا للطبيعة البشريّة ناقص، فلا يجوز لنا الاستناد إليها في البرهنة على غياب البديل والتشاؤم، بل على العكس من ذلك، إذا ما انطلقنا من فهمنا الناقص هذا، فإننا نؤمن بوجود البديل ونتفاءل به.

مضمون رابع: مبدأ مسؤولية الحماية

مفارقة: مساندة مبدأ التدخل الإنسانيّ (مسؤولية الحماية بصيغته الجديدة أو ما يسمى حقوق الإنسان ونشر الديموقراطيّة) تعارض مبدأ سيادة الدول وحقها في الدفاع عن نفسها، ورفض مبدأ التدخل الإنسانيّ يعني القبول باستمرار مركزيّة الدولة والسلطة وتغولها على المجتمع. وحجج الطرفين سطحيّة ولا تقوم على أساس صلب.

خاتمة

يمكن تلخيص هذه المراجعة بنقدين أساسيين لرهان باسكال/تشومسكي:

الأول- يؤكد الرهان عدم القدرة على إثبات وجوديّة القضية المُراهن عليها عقلياً، وبالرغم من هذا فهو ينطلق منها كقضيّة غير يقينيّة، وبالتالي يغيب عن القضية الجانب الفعلي والواقعي والراهن. ومن هنا نجد كثيراً من السوريين مثلاً وقفوا إلى جانب النظام؛ لأنه إذا لم يسقط فهم يربحون، أما إذا سقط فهم لا يخسرون شيئاً؛ أي أنهم لا يهتمون بواقعية قضيتهم وفعليتها وراهنيتها، بل يهتمون بالربح والخسارة كثنائية مجردة.

الثاني- يجعل الرهان من الحياة لعبة بختٍ وحظ، بينما هي مأساة ودراما وجدّ وكدّ وكدح وكبح يتخللها كثيرٌ من اللهو واللعب والحظ والمصادفة.

وأخيراً أختلفُ مع تشومسكي وبريكمون في أنَّ العقل ضد السلطة، وأنه لا بديل عن رهان باسكال. وذلك لأنَّ أفعال المقاومة المبثوثة وغير المركّزة هي التي ضد السلطة، سواء أكانت عقليّة أو عاطفيّة أو حدسيّة. ولأنَّ البديل عن رهان باسكال يبدأ بالأفعال الصغيرة جداً؛ فأي فعل يحوي درجة من درجات التغيّر، مهما كانت صغيرة، تتكرر عبر المستويات المختلفة. وهذا ما يجعلنا على يقين من أنَّ درجة التغيّر المتكررة هذه هي التي ستقود إلى إيجاد البدائل على المدى البعيد، كما فعل الإنسان عندما قهر سلطة الطبيعة والكنيسة والسلطة المطلقة عبر التاريخ.