وصلَ الأب في سبعينات القرن الماضي من إحدى القرى القريبة إلى مدينة دير الزور مثل كثيرين من أبناء الريف، وأصبحت المدينةُ مكان سكنه الدائم وموطنه الجديد. كبر الأبناء وصارت العائلةُ عائلتين، عائلة أبي الحسن وعائلة أبي عمار، الأخَوَين اللذين يسكنان حي الحميدية القديم في دير الزور.

منذ انطلاق الثورة كان لكلٍ من العائلتين موقفٌ مختلفٌ عن الأخرى، فانضمامُ أبناء أبي الحسن للجيش الحر حتّمَ عليه الخروج من المنطقة مبكراً في منتصف العام 2012، فيما بقي أخوه أبو عمار في الحميدية، يمارس عمله في إحدى مديريات النظام، ولم يخرج من المنطقة.

في نهاية العام 2013 كانت أحياءٌ عدة في مدينة دير الزور قد أصبحت تحت سيطرة الجيش السوري الحر، ومن بينها حي الحميدية الذي كان التواجد الأمني للنظام ضعيفاً فيه أصلاً، فاضطُرَ أبو عمار للمغادرة إلى حي الجورة الذي بقي تحت سيطرة النظام، وذلك حتى يتمكن من البقاء في عمله ومن تقاضي راتبه الشهري.

لم يعد أبو الحسن إلى بيته في الحميدية بعد سيطرة الجيش الحر عليه، وذلك لأسباب عديدة أبرزها شدة القصف على الحي وسوء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية فيه. وعلى مدى العام 2013 كانت العائلتان تتواصلان مع بعضهما بعضاً بشكل متقطع، وفي نهاية ذاك العام استشهدَ واحدٌ من أبناء أبي الحسن في الاشتباكات مع قوات النظام على أسوار مطار دير الزور العسكري. حاول أبو عمار الذهاب للعزاء بابن أخيه لكنه لم يستطع لأسباب كثيرة، منها صعوبة الخروج من الأحياء الواقعة تحت سيطرة النظام والخوف من الاتهامات بالتعامل مع النظام من قبل الفصائل المسيطرة على المناطق المحررة.

لاحقاً كان لانقطاع الاتصالات الخليوية والأرضية الدور الأكبر في قلة التواصل بين العائلتين خلال عام 2014، وفضلاً عن ذلك تسبّبَ اختلاف الأماكن والآراء ببعض الجفاء. لم يكن أبو عمار مؤيداً للنظام، لكنه كان متحفظاً على الطريقة التي قامت بها الثورة حسب قوله، منطلقاً من خوفه على مستقبل أولاده الدراسي وحالته المادية، وهي حججٌ كان يراها أبو الحسن واهية أمام ما يحدث من إجرام في البلاد.

عائلة أبي الحسن التي تركت بيتها في وقتٍ مبكر والتحق أبناؤها بالجيش الحر، عانت النزوح من منطقة لأخرى في ريف دير الزور، الذي كان الطيران لا يغادر أجواءه. بقيت العائلة تتنقلُ في ريف دير الزور الشرقي، وأبناءُ أبي الحسن يقاتلون في صفوف الجيش الحر على الجبهات، حتى سيطرة داعش على المنطقة في الشهر الثامن من عام 2014، حين غادر الأبناء المقاتلون إلى تركيا خشية بطش التنظيم.

في بداية العام 2015 أتمَّ تنظيم الدولة سيطرته على معظم محافظة دير الزور، وفرضَ حصاراً تاماً على الأحياء التي يسيطر عليها النظام. وهكذا بالإضافة إلى الابتعاد المكاني والنفسي، زادَ هذا الحصار من التباعد بين العائلتين، إذ تعيش كلٌ منهما ظروفاً بالغة القسوة تحت حكم قوتين متحاربتين تمارسان كمية كبيرة من العنف والقمع بحق السكان في مناطق سيطرتهما.

شَهِدَ العام 2015 العديد من المجازر بسبب القصف الذي لم يوفر بيتاً ولا مشفىً ولا سوقاً، وفي كل مرة كان الطيران يقصف، كان أبناء أبي الحسن الصغار يبكون خوفاً وجزعاً. بدأت آثار القصف والنزوح تظهر على حياة العائلة التي لا يجد أبناؤها أو رب أسرتها أي عمل، ولا يحصلون على أي مساعدات بسبب عزوف المنظمات الدولية عن الدخول إلى مناطق تنظيم الدولة كما يقول أبو الحسن.

عرفتُ العائلتين عن قرب قبل الثورة وخلال مراحلها الأولى، وبقيتُ على تواصلٍ معهما كلما سنحت الفرصة في ظل ظروف الحرب وصعوبة الاتصالات، وبعد انقطاعٍ طويلٍ جراء الأوضاع التي تتردى يوماً بعد يوم، تمكنتُ من التواصل مع أبي الحسن وأبي عمار، وهما اسمان مستعاران، وكان أن تحدث الرجلان عن ظروفهما بالغة القسوة والتشابه، رغم اختلاف الأمكنة.

يقول أبو الحسن: «الأمور سيئة بسبب قصف الطيران من جهة، وبسبب الحصار الجزئي للمنطقة التي تعيش على الشريان الحيوي الذي يربط دير الزور بمناطق سيطرة التنظيم في حلب والرقة من جهة أخرى. هناك نقصٌ كبيرٌ في كثيرٍ من المواد الأساسية، خاصة تلك التي لا يتم إنتاجها محلياً. كذلك تراجعَ سعر صرف الليرة أمام الدولار، ما جعل الأسعار ترتفع بشكل جنوني حتى بلغ سعر ربطة الخبز ما يقارب الـ 200 ليرة، وقد تجاوزت هذا الرقم في بعض الأحيان. كذلك فإن الخضار والفواكه والسكر وغيرها من متطلبات الحياة الأساسية لا تثبت على سعر معين، فهي تمسي على سعر لتصبح على آخر أكثر ارتفاعاً.

هذا جزءٌ من المعاناة، لكن معاناتنا لها عدة أوجه كالموشور، جميعها تسلط الضوء على مأساتنا. الجانب الآخر هو عدم توفر سبل الحياة الأساسية، فالكهرباء شبه حلم بالنسبة لنا وهي تأتي في أوقات قليلة جداً لا تتعدى الساعتين يومياً في جميع المناطق، وقد انقطعت لأكثر من مرة لفترات طويلة بسبب استهداف محطات الغاز من قبل الطيران الحربي.

عناصر التنظيم والعاملون معه ينعمون بتيار كهربائي دائم في منازلهم وكذلك في مقرات التنظيم، في حين يعيش البقية ظروفاً صعبة، إذ يعتمد الناس على القطاع الخاص بعد أن اشترى بعض الأشخاص مولدات كبيرة وأخذوا يبيعون الكهرباء بالأمبير، ويتراوح سعر الأمبير بين 400 ليصل الى 1000 ليرة سورية، ويتراوح عدد ساعات التيار الكهربائي بين 10 ساعات و6 ساعات يومياً.

المعاناة الأخرى هي عدم توفر الماء الصالح للشرب طيلة الوقت، وعدم وجود خدمة الاتصالات، كذلك عدم توفر اللقاحات المطلوبة للأطفال بسبب عزوف المنظمات عن الدخول الى مناطق سيطرة التنظيم. غير أن المعاناة الكبرى كانت في نقص الكوادر الصحية التي غادر معظمها بسبب مضايقات عناصر التنظيم، والقوانين التي أصدرها من قبيل منع أطباء النسائية والجلدية من العمل، وكذلك فرض الحصار على عمل الطبيبات والمخابر والصيدليات. انتشرت بعض الأمراض التي كانت شبه منقرضة، وكذلك زادت معاناة المرضى الدائمين، وبسبب انقطاع التيار الكهربائي فإن هناك كثيراً من الأجهزة الطبية لا تعمل، مثل أجهزة الطبقي المحوري والحواضن وأجهزة الإرذاذ وغيرها.

الحصار والقصف وقوانين التنظيم المتعلقة بالتعليم جعلت أبناءنا لا يذهبون إلى المدارس منذ عامين، بالإضافة إلى استهداف المدارس من قبل الطيران. وتضافُ إلى ظروف الحصار معاملةُ ديوان الحسبة وعناصره للقاطنين في مناطق سيطرة التنظيم، والتي تمتاز بالتضييق والعنجهية والتعالي، كما أن التنظيم لاحَق المنتمين للجيش الحر مما جعل أبنائي يغادرون المنطقة خوفاً على حياتهم، فبقينا أنا وزوجتي وأطفالي الصغار، ما جعلنا نعيش في خوف وترقب دائم.

هذا جزءٌ من المعاناة التي نعيشها تحت قصف الطيران وشبح الجوع والمرض وتهديدات عناصر التنظيم».

على الضفة الأخرى حيث يوجد الأخ الآخر أبو عمار، ثمة حكاية معاناة شبيهة من حيث حجم الألم، ومختلفة في بعض التفاصيل: «أنا لم أدخل مناطق النظام حباً به ولا تأييداً له في قتله للناس، لكنني لم أرغب في أن ينقطع سبيل معيشتي ورزقي، ذلك الراتب الذي استلمه آخر الشهر من عملي الحكومي هو وحده ما يسدّ رمقي ورمق عائلتي.

أما أحوالنا فهي لا تسر، نعيشُ منذ بداية العام 2015 حصاراً تاماً من قبل تنظيم الدولة الذي أغلق جميع المنافذ النهرية والبرية بعد سيطرته على أحياء الحويقة وعلى أجزاء من طريق دمشق-دير الزور. ضاقَ الخناق على الأحياء الواقعة تحت سيطرة النظام، وأصبحنا تحت رحمة تجار الأزمات الذين يتعاملون مع عناصر الأمن ليدخلوا المواد الغذائية التي ارتفعت أسعارها أضعافاً مضاعفة، وأصبح بعضها حلماً، حتى أن الأطفال الذين ولدوا في الحصار لا يعرفون أشياء كثيرة من تلك يتناولها الأطفال في مثل أعمارهم.

تدهورَ سعر صرف الليرة مع بقاء الأجور على ما هي عليه، وزادَ ارتفاعُ الأسعارِ من المعاناة، بالترافق مع صعوبة الخروج من الأحياء المحاصرة. الخروج إلى مناطق التنظيم يجعلك تحت رحمة مقصلته بتهمة التعامل مع النظام، عدا عن المبالغ التي يحتاجها ذلك، والخروج بالطائرة إلى دمشق عبر مطار دير الزور العسكري بالغُ الصعوبة، إذ يحتاج موافقة الجهات الأمنية، وهذا يتطلب إجراءات كثيرة، وبسبب الفساد المعروف لدى عناصر الأمن فإن الحصول على إذن الخروج يتطلب دفع مبالغ مالية كبيرة، حتى تعدت تكلفة الخروج الشخص الواحد 200 ألف ليرة. أما البقاء في الأحياء المحاصرة فهو يعني أنك ستبقى دون كهرباء وماء، التيار الكهربائي متوفرٌ لمدة أربع ساعات كل يومين، أما الماء الصالح للشرب فهو نادر، لذلك نضطر لنقل الماء من نهر الفرات.

كنا نشاهد المساعدات التي كانت الأمم المتحدة تلقيها للمدنيين -كما تدعي- في الجو، ومن ثم يصلنا القليل منها فقط، ونشاهد معظمها فيما بعد في الأسواق، إذ يستولي عليها عناصر النظام ويبيعونها بأسعار مرتفعة.

الكارثة الكبرى التي حلّت بنا كانت حين بلغ ابني سن الخدمة العسكرية، حاولنا إخراجه حتى لا يتم سوقه للقتال لكننا فشلنا في ذلك، حتى تم اعتقاله في النهاية بتهمة التهرب من خدمة العلم، والآن لا نعرف عن مصيره شيئاً.

فوق ذلك هناك المعاملة السيئة التي يتعرض لها أهالي الأحياء من قبل عناصر النظام، والفساد المالي والأخلاقي والتقارير الكيدية، وانتشار الرشوة حتى زادت نسبة الفساد عشرة أضعاف، والتهم جاهزةٌ دائماً للاعتقال أيضاً.

لا توجد رعاية طبية، والمشفى الوحيد الذي يقدم الخدمات هو مشفى (الأسد)، الذي يعاني فقراً ونقصاً حاداً في جميع المستلزمات، كذلك هناك فساد كبير في إدارته ناهيك عن الاشتباكات المستمرة في محيطه. في ظل هذه الظروف نعيش تحت القصف وقذائف تنظيم الدولة التي تستهدفنا بشكل شبه يومي، فيما تستخدمنا قوات النظام دروعاً بشرية».

بين ضفتي الموت تعيش العائلتان اللتان فرقتهما جغرافية الحرب، وليس ببعيد، يقف أبو عمار تحت قذائف تنظيم الدولة ينظر إلى طائرات النظام التي تنطلق لتقصف مناطق سيطرة التنظيم، هناك حيث بيت أخيه أبي الحسن قد يكون أحد أهدافها.