يُعَدُّ الأكراد السوريون حالياً من أكبر المستفيدين من الظروف التي نتجت عن اندلاع الثورة السورية، إذ استطاعوا انتزاع بعض حقوقهم التي حُرِمُوا منها لعقود، وتمكنت قواتٌ كرديةٌ من السيطرة على المناطق التي يشكلون فيها أغلبية نسبية، واستطاعت تنظيم أمورها وإدارتها بشكل جيد، وصار من الصعب إعادة مناطقهم إلى ما كانت عليه من تبعية للنظام المركزي السابق، وباتوا بالفعل قريبين من المضي قدماً في تحقيق الحلم القومي التقليدي، وهو إنشاء الدولة المستقلة، إذ يعتبر إنشاء الإقليم الكردي السوري خطوة هامةً على طريق تحقيق ذلك الحلم.
وعلى الرغم من خصوصية الحالة الكردية السورية، إلا أنه لا يمكن فصلها عن القضية الكردية الإقليمية، إذ يجد الأكراد أنفسهم أمام فرصة قد لا تتكرر للسير خطواتٍ على طريق إقامة «الدولة الكردية الكبرى»، التي جرى تأجيلها لأكثر من 100 عام، منذ أن تم إعطاء الأكراد وعداً من قبل البريطانيين والفرنسيين بإقامة دولة كردية مستقلة، وذلك بموجب معاهدة سيفر عام 1920، لكن هذه الدولة لم ترَ النور نتيجة الظروف السياسية التي سادت العالم حينها، والتي كان الأكراد ضحيتها الأبرز.
بدايةً، ولفهم المزاج الكردي بشكل عام، أُذكّرُ بما قاله مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، في لقاء مع صحيفة الحياة، من أن «الحدود الموروثة من اتفاقية سايكس-بيكو هي حدود مصطنعة، وأن الحدود الجديدة في المنطقة تُرسم بالدم داخل الدول أو بينها». أيضاً، صالح مسلم، رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، صرَّحَ في لقاء مع صحيفة الشرق الأوسط: «الأكراد كانوا لزمن طويل، وعبر التاريخ، جنوداً للآخرين، وفي القرن الـ 21 قررنا أن لا نكون جنود أحدٍ إلا أنفسنا».
في التصريحين السابقين إشارات واضحة إلى قناعة الأكراد عموماً، وفي العراق وسوريا خصوصاً، أن عليهم القتال لنيل حقوقهم، وأنهم يرون أنفسهم أمام فرصة تاريخية عليهم استغلالها وعدم التفريط بها بأي حال من الأحوال. لكن، ما مدى واقعية هذا الحلم؟ وما مدى قابلية تحقيقه؟
يقود تحليل الوقائع والمعطيات إلى الاعتقاد بأن إقامة إقليم كردي سوري مستقل في هذه الظروف أمر مستحيل، أو على الأقل بالغ الصعوبة، فعلى الرغم من وجود عوامل كثيرة مساعدة، إلا أن العوائق التي تحول دون تحقيقه كثيرة وكبيرة أيضاً. وعلى الرغم من استناد الأكراد عموماً، ومنهم أكراد سوريا، في مطالبتهم بإقامة دولة خاصة بهم، على جملة من المبادئ الأخلاقية والقانونية، منها حق الشعوب في تقرير مصيرها وتحديد خياراتها السياسية، وهو الحق المقرر والثابت في ميثاق الأمم المتحدة، إلا أن السياسة ليست رهينة المبادئ والمواثيق بأي حال من الأحوال.
التحالفات الكردية مع الدول المؤثرة
يعدُّ تحالف الأكراد مع الولايات المتحدة الأمريكية نقطة قوة أساسية لهم، إذ باتوا يشكلون قوة رئيسية في الحرب الجارية ضد داعش. ومع بداية حرب التحالف الدولي ضد الأخير، كان الأكراد حليفاً طبيعياً له، وذلك بسبب التجربة الأمريكية السابقة مع قوات البيشمركة العراقية من جهة، وابتعاد الأكراد، كما يرى الأمريكيون، عن احتضان الفكر المتطرف، من جهة أخرى. وقد تمثّل هذا التحالف في معركة كوباني، من خلال الإسناد الجوي الذي وفرته طائرات التحالف للقوات الكردية، والتي أثبتت جدارتها في القتال، ونجحت بطرد التنظيم من كوباني، ولاحقاً في تل أبيض ومنبج وغيرهما. وحتى اللحظة، يزوّد الأمريكيون حليفهم الكردي بمختلف أنواع الأسلحة والذخائر، إضافة للمال، فقد أشارت عدة مصادر إلى أن الـ 500 مليون دولار التي خصصها البنتاغون لدعم المعارضة السورية ذهبت في معظمها إلى ميليشيا YPG.
كذلك يشكل الدعم السياسي الأمريكي للحليف الكردي أمراً بالغ الأهمية، حيث مضت الولايات المتحدة في دعمه إلى حد التخلي عن حليف مهم في المنطقة، وهو تركيا، والتي فضلت الذهاب إلى الحلف الروسي بسبب السياسة الامريكية الداعمة للأكراد، والمحرضة، من وجهة نظر الأتراك، على إنشاء كيان كردي مستقل في شمال سوريا.
أيضاً يمتلك الأكراد علاقات جيدة مع الروس، وتجلى ذلك الأمر إبان المعارك التي خاضتها وحدات حماية الشعب الكردية في ريف حلب الشمالي، حيث استطاعت، وبغطاء جوي روسي، السيطرة على مناطق واسعة أهمها مدينة تل رفعت ومطار منغ العسكري، إلا أن العلاقة القوية بدأت بالتراجع بعد أن فضلت روسيا التحالف مع تركيا للتعامل مع الوضع السوري.
خلافات داخلية كردية عميقة
تهيمن الخلافات الداخلية على المكونات السياسية الكردية، ويظهر الخلاف الكردي-الكردي الرئيسي بين طرفين، هما حركة المجتمع الديمقراطي (التي ينتمي إليها حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي يعتبر جزءاً من هيئة التنسيق المعارضة) والمجلس الوطني الكردي (الذي يعتبر جزءاً من الائتلاف السوري المعارض). ويمكن القول إن الخلاف هو بين تيارين، أحدهما يتبع للمدرسة «الأوجلانية»، والآخر للمدرسة «البرزانية». وقد تم التوصل إلى تكوين الهيئة الكردية العليا المؤلفة من هذين المكونين، إضافة لبعض الأحزاب والشخصيات الأخرى، ولكن دون تنسيق فعال وواضح.
تدير المناطق الكردية حالياً حكومة «الإدارة الذاتية»، وقد شَكّلت ثلاثة كانتونات (الجزيرة وكوباني وعفرين)، وتضم ممثلين عن معظم المكونات الكردية المنضوية تحت لواء حركة المجتمع الديمقراطي. أما عسكرياً، فيسيطر حزب الاتحاد الديمقراطي على الوضع تماماً، وتتبع له القوى العسكرية الأهم وهي: وحدات حماية الشعب YPG، ووحدات حماية المرأة YPJ، وقوات الأسايش/الأمن الداخلي. وقد أسست الأولى ما يعرف بـقوات سوريا الديمقراطية، وهي تضم إلى جانب وحدات حماية الشعب قوة عسكرية عربية (الصناديد)، ومسيحية (المجلس العسكري السرياني/السوتورو)، وجيش الثوار، بالإضافات إلى كثيرٍ من الميليشيات المسلحة الأخرى، ويبلغ عددها حوالي 27 ميليشيا. وقد عمدت بعض المجموعات في المجلس الوطني الكردي إلى إنشاء فرق مسلّحة، إلا أن تأثيرها لا يزال هامشياً.
من الناحية الديموغرافية، تتواجد في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد عدة مكونات أخرى، ففيها العرب والآشوريون والسريان وغيرهم، ولا يشكل الأكراد غالبيةً ساحقةً في تلك المناطق، بل لعل عددهم لا يزيد كثيراً عن مجموع المنحدرين من جماعات أخرى. كما أن المناطق الكردية متباعدة وتفصل بينها مدن وقرى عربية، كجرابلس وإعزاز ومنبج والباب وغيرها، ما يجعل سيطرتهم على تلك الأراضي، في ظل الخطاب القومي والممارسات الإقصائية، أمراً بالغ الصعوبة.
الجانب الاقتصادي
يعتبر الاقتصاد ركيزة أساسية من ركائز بناء الدول، ويمتلك أكراد سوريا مقومات اقتصادية واعدة، حيث تعتبر مناطقهم أراضٍ غنية بمختلف الموارد، وخصوصاً النفط، ويسيطر الأكراد على بعضٍ من أهم حقول النفط في سوريا وأكثرها غزارة، منها حقول الرميلان والسويدية وكراتشوك وحمزة ومعشوق وليلاك وعليان، وكانت هذه الحقول قبل اندلاع الثورة السورية تنتج أكثر من 16% من نفط سوريا، كما أن أراضيها خصبة قابلة للزراعة ووفيرة المياه.
لكن، وفي الوقت ذاته، يعتبر الاقتصاد من زاوية أخرى عامل ضعف للإقليم الكردي في حال قيامه، فعلى الرغم من غنى المناطق الكردية، إلا أنها تعتبر مناطق معزولة لا تمتلك منفذاً بحرياً، ولا أي طريق للاستيراد أو التصدير، وبالتالي يرتبط مدى قابلية الكيان الكردي للحياة اقتصادياً بعلاقته مع الدول المجاورة، وفي ظل حصارٍ قد تفرضه تركيا شمالاً ومعارك جنوباً مع بعض الفصائل، أو مع تنظيم داعش، قد تبقى كردستان العراق المنفذ الوحيد، وهذا المنفذ يتأثر أيضاً بطبيعة القوة الكردية المسيطرة على السلطة في الإقليم السوري، ما سيجعل الإقليم الكردي يعيش حالة «تبعية اقتصادية».
الوضع الإقليمي المعقد
اتفقت الدول الإقليمية الأربعة، تركيا وإيران والعراق وسوريا، والتي ينتشر فيها الأكراد، وعلى مدى ما يقارب المئة عام، على منع استقلال الأكراد في أي من هذه الدول، باعتبار أن قيام إقليم كردي مستقل في أي جزء سيؤثر على القضية الكردية في الأجزاء الأخرى، وسيكون شرارة لمزيد من المطالبات، وصولاً إلى دولة قومية كبرى تجمع أكراد الدول الأربعة.
تركيا، التي تحارب حزب العمال الكردستاني في أراضيها، لن تسمح بأي حال من الأحوال بسيطرة مجموعة موالية له على مقاليد السلطة في المناطق الكردية السورية. ويرى الأتراك أن قيام الدولة الكردية سيؤدي إلى تمزق دولتهم، وأن سماحهم لمرة واحدة بانفصال أي مكون من مكونات الجمهورية الحديثة كفيل بتمزيق الدولة وتحطيمها، وتنظر تركيا إلى تحركات الأكراد في سوريا على أنها تصبّ في إطار مشروع قيام دولة كردية كبرى، ولن تتوقف عند سوريا.
تمتلك تركيا كثيراً من الأوراق في مواجهة المشروع الكردي، منها دعمها للعديد من التشكيلات السورية الرافضة لانفصال الأكراد. وفعلاً، بعد أن سيطرت قوات سوريا الديمقراطية، التي تشكل وحدات حماية الشعب الكردية YPG عمودها الفقري، على مساحات واسعة من الشمال السوري، وخصوصاً مدينة منبج الاستراتيجية، أعلنت تركيا عن بدء عملية درع الفرات يوم 24 أغسطس/آب 2016. وكان الهدف المعلن من تلك العملية استعادة مدينة جرابلس السورية الواقعة على الضفة الغربية لنهر الفرات والمتاخمة للحدود التركية بريف حلب الشمالي من قبضة تنظيم الدولة، وتأمين المدن التركية الحدودية من نيران قصفه، فيما كان الهدف الأكثر أهمية بالنسبة لتركيا هو التوسع في ريفي حلب الشمالي والشرقي لمنع الأكراد من التمدد غرب الفرات وإنشاء شريط لهم على طول الحدود السورية التركية يصل بين مناطق سيطرتهم شرقاً وغرباً، خاصة ما بين كانتوني كوباني وعفرين، وقد أدى التدخل العسكري التركي لقطع الطريق أمام توحيد الأجزاء التي يطمح الأكراد للسيطرة عليها، وبات أمر وصل المناطق ببعضها بحاجة لمعركة شاملة ضد فصائل درع الفرات، ومن خلفها تركيا، وقد حدثت بالفعل صدامات عسكرية بين الطرفين، إلا أن تلك الصدامات ظلت محدودة ولم تتطور إلى معركة شاملة حتى الآن، غير أنها مرشحة لمزيد من التصعيد إذا ما بقيت قوات سوريا الديمقراطية مصرّة على موقفها الرافض للاستجابة لمطالب الأتراك بالخروج من مدينة منبج إلى الضفة الشرقية من نهر الفرات.
من ناحية أخرى، تشكل العلاقة الطيبة بين تركيا وإقليم كردستان العراق ورقة ضغط أخرى تجعل من وضع الأكراد السوريين أضعف في مواجهة الأتراك، حيث تستطيع تركيا بالتنسيق مع كردستان العراق فرض حصار خانق على المناطق الكردية السورية وتحويلها إلى جزيرة معزولة.
كذلك يشكل النظام السوري قوة معارضة لا يستهان بها أمام إقامة إقليم كردي سوري، وطريقة تعامله الحالية لا تعني أبداً تسليمه بإقامة هذا الإقليم، وما يفعله حالياً ليس سوى تكتيك يهدف إلى الاحتواء المرحلي لا أكثر.
في مواجهة استقلال الأكراد، يمتلك النظام السوري أهم الأوراق، وهي تنسيقه، وربما سيطرته، على القوة المسلحة الأهم في المناطق الكردية وحدات حماية الشعب، والتي تعتبر فرعاً من حزب العمال الكردستاني PKK، حيث انسحب النظام دون قتال من بعض المناطق وسلّم إدارتها لوحدات الحماية، وما يزال يحتفظ ببعض الجيوب هناك، كالأفرع الأمنية وبعض النقاط والحواجز العسكرية، ولم تتعرض مناطق سيطرة وحدات الحماية لأي عملية قصف أو محاولة اقتحام من قبل النظام، على عكس بقية مناطق سوريا.
أما إيران، فبالإضافة لمعارضتها قيام إقليم كردي قد يشجع قيام «كردستان إيران»، فهي تمتلك سبباً آخر للرفض، فإيران المعروفة بسياستها الطائفية لن تسمح بامتلاك الأكراد، وغالبيتهم من الطائفة السنية، لدولةٍ قد تهدد مستقبلاً حلفاءهم الشيعة في المنطقة، وهي تعمل بالتنسيق مع نظام الأسد على منع مثل هذا الأمر.
نهايةً، إن العوامل التي تحول دون تحقيق الأكراد لحلمهم القديم كثيرة وقوية، ويدرك ساسة الأكراد جيداً استحالة تحقيق الاستقلال في الوقت الحالي، ويعلمون تماماً أن المقومات المتوافرة لديهم لا تقارن بما قد يواجهونه من صعوبات، لذلك لا نجد في برامج الأحزاب الكردية السورية أية إشارة إلى «كردستان الكبرى»، لكنها تؤكد على حق الأكراد في الحكم الذاتي أو الاتحاد الفيدرالي، وقد قال صالح مسلم في حوار له مع صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 24\10\2014، إن «الأكراد يحلمون، تقليدياً، بإقامة دولة مستقلة»، لكن ما يسعى إليه حزبه في سوريا هو «دولة ديمقراطية تعددية لا مركزية»، في إشارة منه إلى الوعي الكامل بالصعوبات الموجودة، والرغبة بمنطقة حكم ذاتي في إطار سوريا فيدرالية.