كانت أحداث آذار عام 2004 مُناسبةً استثنائيةً ليتعرف السوريون على «مواطنيهم» الأكراد، بعدما ظلَّ الأكراد قُرابة قرنٍ كامل من حياة سوريا المُعاصرة مقموعين سياسياً من قِبل الأنظمة السياسية الحاكمة، وغير مرئيين من قِبل المُجتمع السوري. الغريبُ أن تلك الأحداث جرَّت على الأكراد قراءتين غير موضوعيتين في عالم السياسة السورية: ذهبت أوساط النِظام للقول إن الكُرد هُم القوة السياسية الوحيدة المُنظمة والشعبية الباقية في البِلاد، وإنها الوحيدة القادرة على إحداث تأثير ما في «الموت العام» الذي يُغطي البِلاد؛ لذا حسب وجهة نِظرهم، فإن الكُرد ومجتمعهم السياسي الحيوي هُم الخطر الأكثر إلحاحاً على النِظام الحاكم. المُعارضة بدورها كانت تملكُ تفسيراً قريباً من ذلك حول الحيوية السياسية للكُرد السوريين، لكنها كانت تعتبر أن ذلك يجب أن يكون لصالح خلق منصات شعبية لقوى المُعارضة، التي يمنعها النِظام بجميع الأشكال من أن يكون لها قوة شعبية في أي منطقة سورية.

لكن الذي كان مُجمَعَاً عليه مُنذ ذلك الوقت وحتى الراهن في الأوساط السورية، هو الإيمان بأن الكُرد السوريون مُختلفون نسبياً عن نُظرائهم من باقي السوريين، وأن المُجتمع الكُردي السوري بقي مُحافظاً على «عالمٍ سياسيٍ» ما، في غير الدفة العربية السورية التي جففها النِظام.

تقول بعض القراءات إن نِظام حافظ الأسد سمح للكُرد بأن يكون لهم عالمهم السياسي ذاك، لكن على أن لا يتحول إلى مُعارضة نِظامه، وأن ينشغل بالسياسة الكُردية خارج سورية. وتذهب قراءة أكثر «مؤامراتية» إلى القول بأن تواطؤاً غير مُعلن عُقد بين الأسد الأب والكُرد السوريين، يحافظ فيه الكُرد السوريون على كثيرٍ من المكاسب غير المُعلنة، على أن يوالوا نِظامه في مواجهة المُعارضة مُنذ البداية، وهذه القراءة جزءٌ غير مُفصومٍ عن تحليل «تحالف الأقليات» الذي كان يُغطي على تفكير غير قليلٍ من قوى المُعارضة السورية.

ما تُحاولُ هذهِ المقالة تفكيكه هو الأحكام العامة الناشئة عن القراءة التي طغت على الأوضاع السياسية للأكراد السوريين لقُرابة عقدٍ كامل، والتي كانت أداةً لسوء فهمٍ عميق بين الكُرد السوريين وأقرانهم الآخرين. كما أنها تحاول الكشف عن جانبٍ من شكل ومضمون الحياة العامة التي تخصُّ الكُرد السوريين خلال نصف قرنٍ كامل.

ويُمكن تأطير ذلك في ثلاثة أشكالٍ من الردود على تلك القراءة السائدة:

1- لم يكن هناك حياة سياسية ضمن المُجتمع الكُردي السوري، بل كان ثمة عصبية قومية كُردية سورية.

2- لم يكن ثمة تنظيمات سياسية كُردية حيوية وفعالة في سوريا، بل كان ثمة تنظيمات حزبية كُردية، تضخم الوهم حول دورها وفعاليتها فقط لخواء الحياة العامة من أية مؤسسات أو فعاليات أخرى.

3- لم يكُن ثمة تواطئ بين الحركة السياسية الكُردية والنِظام السياسي الحاكم لسوريا، بل إن مزيجاً من الخصائص الداخلية والروابط الإقليمية سمحت للكُرد السوريين بالحِفاظ على خصوصية ما، لم يستطع نِظام الأسد الأب – ورُبما لم يُرِد- تجاوزها، لذلك تعامل مع المجتمع الكُردي السوري بأشكالٍ مُتحولة وأحياناً مُتباينة، حسب ظروف وحاجة نِظامه السياسي، بالضبط كما كان يتعامل مع باقي الجماعات الأهلية السورية. لكن شبه الثابت كان القمع التام لأي تطلعات سياسية حقيقة للكُرد السوريين، وحتى لأي حياة سياسية كُردية سورية حقيقية.

***

يُحيل الحديث عن «حياة سياسية» ما ضمن أي مُجتمع إلى مفهومي «السُلطة» و«التداول العام». لأن الأولى جوهر ما يرمي إليه الفاعلون ضمن هذه الحياة السياسية، والثانية بمُختلف أدواتها وطرائقها هي الأداة لتحقيق ذلك المرمى.

ضمن المُجتمع الكُردي لم يكُن ثمة «سُلطة» سوى شكلها الاجتماعي الأكثر بدائية وطبيعية. كان المُجتمع الكُردي السوري خالياً من السُلطة السياسية، فالكُرد لم يكُن حتى مُعترفاً بوجودهم السياسي في البِلاد. وحتى ما كان النِظام قد تركه من «سُلطات» لباقي السوريين، وإن بشكلٍ نسبي جداً، لم يكُن للكُرد جزءٌ منه.

في المُحصلة كان ثمة شبكة من أشكالٍ مُختلفة من السُلطات، إذ كانت التنظيمات والمؤسسات والأجهزة التابعة للنِظام تُشكل أنواعاً من السُلطات تحتوي المُجتمع السوري، وتُدرُّ على المتفاعلين معها أشكالاً من المنافع والطاقات، تُشكلُ بمجموعها ديناميكية لتنافس غير قليل ضمن «الطبقة الكريهة» غير القليلة بدورها، للاستحواذ على تلك السُلطات. لم تكن النقابات المهنية والمؤسسات البيروقراطية التوظيفية والوزارات والأجهزة الأمنية والمُمثليات الخارجية، ولا حتى اللعبة الاقتصادية ومؤسسات النهب العام خارج هذا العالم من السُلطات، التي كانت تجرُّ أنماطاً غير قليلة من التنافس عليها فيما بين فئات اجتماعية سورية واسعة.

كان الكُرد على الدوام خارج هذا تماماً، بل على العكس، فإن المزاحمة للوصول إلى تلك المواقع كانت محل «ازدراء» اجتماعي على الدوام. لا ينفع الحديث كثيراً بأن تلك المواقع كانت سُلطوية بشكلٍ نسبي جداً، وأن المُقرر الرئيس في المُحصلة كان النِظام ورجاله الأكثر نفوذاً، وهذا مُدرَكٌ ومعروفٌ تماماً؛ لكن في المُحصلة كان ثمة «سُلّمٌ سُلطويٌ» ما في الأوساط السورية غير الكُردية، بينما كان الكُرد السوريون محرومين تماماً من ذلك السلم. وهُنا تجدر مُلاحظة أن المُنخرطين في ذلك السلم لم يكونوا أقلية من المُجتمع السوري، على عكس ما هو مُتخيل، فأغلبية واضحة من المُجتمع لم تكن مُهتمة بطبيعة النِظام السياسي القائم ولا حتى سلوكياته القمعية تجاه الناشطين السياسيين المُعارضين، بل كانت غارقة في عالم المؤسسات السُلطوية بكُل تفاصيلها وشروطها، وكانت تخوض حروباً بأدواتها المُمكنة للوصول إلى «منابع» الثروة المادية والرمزية التي توفرها تلك المؤسسات والمواقع السُلطوية في كافة أجهزة الدولة.

على السوية نفسها من غياب «السلّم السُلطوي»، كان المُجتمع الكُردي السوري محروماً من أي شكلٍ من أشكال «التداول العام». فصحيحٌ أن السوريين من غير الكُرد لم يكونوا يعيشون عالماً من التداول العام الحُرّ والمدني الحيوي، لكن كان ثمة فضاءٌ ما يُمكن لأي شخص أن ينشغل به بشكلٍ يومي، بالرُغم من كُل مساوئه الجانبية.

كان ثمة صحافة يومية في سوريا، تطرح بمستويات مُختلفة من الرداءة شؤون شريحة من السوريين، خصوصاً في بعض الصفحات الاقتصادية والثقافية، وإلى جانبها كان التلفزيون بمُنتجاته الثقافية والدرامية يشغلُ حيزاً لا يقل عن ذلك، وكان ثمة مهرجانات ومراكز ثقافية وإنتاج سينمائي ومسرحي، ومعها كثيرٌ من المؤسسات الرديفة لحزب البعث، في المدارس والجامعات …إلخ. وهي مُجتمعةً كانت تخلق فضاءً عاماً، كان في المُحصلة، وبكُل سيئاته، أحد أهم أدوات الحياة السياسية، لأنها كانت توفر شيئاً ما من «الكلام العام».

أتذكرُ أنني سعيتُ طوال عامي 2006-2007 مع أحد الأصدقاء للحصول على نُسخٍ مُتتالية من الجريدة المركزية لأحد أكبر الأحزاب الكُردية السورية، وحصلنا بعد زيارات مُتكررة للسياسي الكُردي المُخضرم رشيد حمو في إحدى قُرى منطقة عفرين على أعداد مُتتالية صدرت من تلك الجريدة طوال عقدين من الزمن، ما زلتُ أحتفظ بعشرات النُسخ منها. كان شكلُ الجريدة يدلُّ على فُقرٍ مُدقع يعيشهُ القائمون عليها، وحجمها الصغير يدلُّ على مستوى السرية الذي كانت تُطبع وتُنشر به، وفوق ذلك كان مجموع مضامين تلك الجرائد عبارة عن جمعٍ بين مقالات افتتاحية لسكرتير الحزب، تكاد أن تكون صورة عن بعضها، مع سرديات رتيبة لقضايا الكُرد والمُطالبة بحلها. أي أن تلك الوسيلة الوحيدة التي كانت متوفرة في الوسط الكُردي الموازية لنظيرتها التي في غير المُجتمع الكُردي، كانت خالية تماماً مما يُمكن أن يُطلق عليه «الكلام العام».

قد يكون مستغرباً القول إن الكُرد السوريين كانوا محرومين من ذلك «الكلام العام» بشكلٍ مُطلق، لكن تلك البواعث سابقة الذكر كانت معدومة الفرصة تماماً، وهذا الشيء بالضبط كان الأداة الأكثر فاعلية لنكوص طبيعة التداول في المجال العام ليغدو بالغ الشخصنة والفردية والصِغر، وليكون غارقاً في الخِطابات المُفارقة لما هو مُعاش ويومي وعام.

لكن إلى جانب ضمور الحِراك السُلطوي والتداول العام الكُردي، كان ثمة انشغالٌ كُردي عام ودائم بـ«السياسة»؛ لكنها كانت سياسية بواحدة من معنيين غير تقليديين. فإما أنها كانت حديثاً عاماً مُضخماً عن المستويات المُختلفة من المظلومية الكُردية، سواء تلك التاريخية التقليدية المُتعلقة بمُجريات القرن العشرين أو المتعلقة بالحرمان الكُردي في الدول الإقليمية الأربعة من حقوقهم. أو أنها كانت نقاشاً سياسياً رديفاً عن الوقائع اليومية للمظلومية الكُردية، وعن المواجهة اليومية المُستمرة مع مؤسسات الدولة وإيديولوجيتها وأدواتها لإغراق وصهرِ الهوية الكُردية، ويُمكن أن ينسحب ذلك التداول والانشغال اليومي إلى أحاديث «القيل والقال» عن التنظيمات الحزبية الكُردية، ومعاركها الصغيرة فيما بينها.

مجموع الأمرين لم يكُن يُنتج حياةً سياسيةً بما تعنيه الكلمة بشكلٍ موضوعي، لأن الأسس الجوهرية لذلك لم تكن متوفرة، بل كانت تُنتج أشكالاً مُتشنجة من العصبيةالعصبية المقصودة هُنا هي العصبية بالمعنى الخلدوني، وليس بمعنى التعصب. القومية/السياسية، أساسها تراكب المظلومية التاريخية العميقة التي ما شفي منها الكُرد قط، بالضبط مثلما لم يشفَ الأرمن من إرث المذبحة المريرة أثناء الحرب العالمية الأولى، ومثلما لم يشفَ الإسلاميون من أثر انهيار الخلافة الإسلامية بداية القرن العشرين، مع عاملٍ كُردي مُضاعف يتعلّق بمواجهة آثار هذه المظلومية بشكلٍ يومي دائم.

***

لكن على مُستوى التنظيمات الاجتماعية الحيوية، حافظ الكُرد، على عكس غيرهم من الجماعات السورية، على تنظيمات سياسية هي الأكثر «نفوذاً» وهيمنة على البُنى الاجتماعية الكُردية. كان من المُلاحظ مثلاً أنه أثناء الاجتماعات العامة عقِب حدوث قلاقل أو أحداث اجتماعية عامة في منطقة الجزيرة السورية، فإن زُعماء العشائر كانوا يُمثلون عرب المنطقة، بينما كانت مُختلف الطوائف المسيحية تتمثل برجال الدين، وتبقى التنظيمات الحزبية الكُردية المُختلفة مُمثلةً للكُرد في هذه الحوادث.

كانت تلك اللوحة توحي من بعيد بوجود فروق واضحة في التنمية السياسية لنُخب الجماعات الأهلية في المنطقة، وبأن الكُرد هُم الجماعة الأكثر «حداثةً» سياسياً ضمن هذه التشكيلات المُجتمعية. لكن، وإن كان شيءٌ من ذلك صحيحاً إلى حدٍ ما، لكنها صورة تُخفي سؤالاً جوهرياً عن طبيعة هذه الأحزاب، عالمها الداخلي وانشغالها، حيويتها وعلاقتها مع البُنى الاجتماعية الكُردية الأعم، الديناميكيات التي تُحركها، إرادتها وقُدرتها على التأثير والتغيير في المُجتمع الكُردي السوري، طبيعة النُخب التي كانت تقودها، خياراتها الاجتماعية والسياسية والثقافية، ومدى تباين هذه الخيارات مع التي كانت للبُنى العشائرية والمناطقية والمشيخية التقليدية الأقدم. يحدد مجموع هذه الأسئلة غير المطروحة مدى تطابق هذه الأحزاب الكُردية الشتى حقيقةً مع ما تدعيه كتنظيمات حزبية سياسية مدنية/حداثوية في الأوساط الكُردية السورية.

لو تركنا التفاصيل الأكثر ثانوية طرفاً، فإنه ومُنذ بداية السبعينات كان في العالم الحزبي الكُردي السوري ثلاثة أحزاب رئيسية، واحد يمُثل القوى العشائرية الكُردية التقليدية المُحافظة اجتماعياً، تشكل العائلة البارزانية أمثولتها الأعلى. وتيار آخر حاول بشكلٍ كاريكاتوري الجمع بين الخطابات القومية الكُردية والقيم اليسارية الماركسية، وانشق هذا التنظيم عشرات المرات على نفسه، وأنتج التيار القومي الكُردي الأكثر تشدداً، وبعددٍ لا يُحصى من التنظيمات. وبينُهما كان تيار «يمين الوسط» الكُردي السوري، الذي كان الحزب الديموقراطي التقدمي بقيادة عبد الحميد درويش يُمثله، الحزب الذي أراد جمع النزعة القومية الكُردية مع المطالبة بحل المسألة الكُردية على المستوى «الوطني» السوري، دون أي أوهام قومية عابرة للمعايير والأحوال الموضوعية للكُرد السوريين.

في أي تحليلٍ موضوعي للبُنية الداخلية لهذه الأحزاب، تُكتَشفُ ثلاث حقائق مُركبة، تعمل مُجتمعة على توضيح الطبيعة الموضوعية الفعلية لهذه التنظيمات الحزبية السياسية الكُردية السورية. إذ ليس ثمة أي تنظيم كُردي جماهيري بالمعنى التقليدي للكلمة في المنطقة، فواحدٌ فقط من هذه الأحزاب يتجاوز عدد المُنتسبين إليه عدة آلاف، بينما بقية التنظيمات تبقى ما دون ذلك. أي أننا نتحدث عن تنظيمات حزبية لا يتجاوز أكبرها عدة آلاف ضمن الجماعة الكُردية السورية التي كان تعدادها يُقارب مليونين ونصف مليون. كان ذلك العزوف عن الانتظام في الأحزاب الكُردية ناتجاً عن مُركب الخوف من قمع النِظام مع أحساسٍ دفينٍ بعدم الجدوى، وفوقهُما «ازدراءٌ» ما من قِبل النُخبة الكُردية الأكثر تعليماً لهذه التنظيمات، لواقعها وطبيعة انقساماتها الداخلية، ولسلوكيات الناشطين داخلها وتعاطيهم المُخجل فيما بينهم.

ضمن المستوى نفسه، لم تكن التنظيمات الكُردية حداثويةً/مدنيةً فاعلةً ضمن المُجتمع الكُردي السوري بأي شكل، ولا مُفارقةً للتنظيمات العشائرية والمشيخية والمناطقية التي كانت تُسيطر على المُجتمع الكُردي من قبل. إذ لا أنسى أني سألتُ أكثر من مرة أقدم سكرتيرٌ حزبيٌ كُردي لمراتٍ لا تُحصى عن أي أنجازٍ مدني -غير الاحتفالات- قام به حزبه لأكثر من نصف قرن، دون أن أحصل على إجابة.

لم تنتج الأحزاب الكُردية طوال هذه السنوات كِتاباً معرفياً واحداً عن سوريا أو حتى عن الكُرد السوريين، ولم تجترح أي برامج سياسية أو مجتمعية أو ثقافية قادرة على الوصول إلى الطبقات الأعم من الكُرد السوريين وتحقيق شيء ما لهم، وكُل نشاطها كان مُقتصراً على الجريدة الحزبية الشهرية، والاجتماعات الحزبية الأسبوعية والشهرية البائسة، التي تُذكّر بما كانت الأحزاب اليسارية الستالينية تفعله في مُختلف الدول، بالمنطق والأدوات والرؤية نفسها.

ومع ذلك، فإن القواعد الاجتماعية الكُردية السورية كانت مُلتزمة بما يصدر عن هذه الأحزاب أثناء الملمات والأحداث الكبرى، لكن أبداً ليس لأن هذه الأحزاب كانت أحزاباً جماهيرية وذات تأثير عميق على هذه المُجتمع الكُردي السوري، بل فقط لأن القواعد الكُردية بقيت مُحافظة على العصبية الكُردية المذكورة سابقاً، بفعل الأحوال الكُردية الخاصة في سوريا وعموم الإقليم. كانت علاقة الكُرد الوجدانية مع هذه الأحزاب تشبه إلى حدٍ بعيد علاقة الأب بـ «الابن العاق الوحيد»، الذي بالرُغم من كُل شيء، يبقى الابن الوحيد.

 لكن فوق ذلك كُله، فإن الأحزاب السياسية كانت أبرز التعبيرات وأشكال الانتظام الجمعية في المُجتمع الكُردي، ليس للمضامين والأدوات الحيوية التي كانت تعتمدها هذه التنظيمات في علاقاتها وهيمنتها على المُجتمع الكُردي؛ بل فقط وبالضبط لأن المُجتمع الكُردي كان خلاءً تماماً من أي أشكالٍ أخرى للانتظام العام، حتى تلك الأشكال غير السياسية القليلة التي كانت متوفرة في باقي المناطق السورية.

ليس من باب المظلومية القول إن المنطقة الكُردية لم يكُن فيها «حياة اقتصادية» مثلاً، كان ثمة فلاحون ومزارعون يعملون لأقل من شهر في السنة، ثم تمتصّ المُدن الصناعية والتجارية الداخلية كُل تلك الموارد ببساطة. لم يكُن في المناطق الكُردية مصانع أو مُنشآت سياحية أو مؤسسات بيروقراطية أو مراكز تجارية، كان يُنظر لها على أنها الحديقة الخلفية التي تدرّ النفط والسُلع الزراعية الرئيسية. أدت تلك السياسة إلى أن تكون تلك المنطقة خالية من النُخب الاقتصادية ومُبادراتها وسلوكياتها وأدوارها في التحولات المُجتمعية، ومن ثم فإنه لم يكن هناك طبقات اجتماعية ما يمكن الالتفاف حولها، وصِناعة أمثولات منها.

على هذا المستوى نفسه، لم يكن في المناطق الكُردية جامعات أو مهرجانات ثقافية أو تطوير عُمراني أو مؤسسات مركزية أو إنتاج دارمي أو نشاطات سياحية… إلخ. كانت عالماً منسياً تماماً، ومحظوراً عليه أن يكون على غير ما هو عليه. لقد حظرت تلك المُجريات على المُجتمع الكُردي التعرف والتماهي والتمركز حول النُخب والخيارات غير الحزبية، ففقدَ المُجتمع الكُردي طاقة التطيّف المتنوع حول مُختلف مؤسسات وتنظيمات المُجتمع، وبقيت الأحزاب السياسية الكُردية شكل الانتظام المُجتمعي الوحيد، وهي كانت الخيار الوحيد للذين يسعون لعبور حالتهم الفردية نحو مستوى الانتظام والعمل الجماعي. لذا بالضبط كانت هذه التنظيمات الحزبية تبدو وكأنها بالغة التأثير والحضور في المُجتمع الكُردي السوري.

***

على أن آخر «الأوهام» حول استثناء الحياة السياسية الكُردية تتعلق بتصورٍ يقول إنه ثمة تواطؤاً غير مكتوب بين الحركة السياسية الكُردية والنِظام، سمح للكُرد بالحِفاظ على حياةٍ وتنظيمات سياسية ما، بينما حُرِمَ السوريين من غير الكُرد من ذلك تماماً.

يُبنى هذا التصور بجزء واسع منه على مزيج من نظرية المؤامرة مع نظيرتها التي تتصور وجود تحالفٍ ضمني بين مُختلف «الأقليات» السورية والإقليمية ونظام حافظ الأسد، لكن هذه الرؤية لا تُراعي ثلاثة خصائص موضوعية وثابتة كان النِظام يتعامل عبرها مع الكُرد السوريين، تطابق الطرائق التي كان يتعامل بها مع باقي الجماعات الأهلية السورية.

أولاً لم يكن النِظام يتعامل بوتيرة واحدة من أي جماعة أهلية سورية، بل كانت طريقة «هضم» النظام لهذه الجماعة السورية أو تلك تتحول حسب حاجات النظام وعلاقة تلك الجماعة مع حاجة النظام تلك.

كان الكُرد على الدوام الجماعة التي يسعى النظام إلى عزلها عن الكُتلة السُنية الأعم، حتى يخلق مزيداً من الاهتراء ضمن الجماعة السورية الأكبر، السُنة، الذين كانوا على الدوام بالنسبة للنِظام البديل الموضوعي الوحيد المُمكن لهُ.

بدأ نظام الأسد حُكمه بحملات قمعٍ ضد النُخب السياسية والمُجتمعية الكُردية السورية، ففي بداية السبعينات كان هو المُطبّق الفعلي لمشروع الحزام العربي العُنصري بحق الكُرد، وعلى إثر ردة فعل النُخبة السياسية الكُردية السورية اعتقل العشرات من السياسيين الكُرد بداية السبعينات، واستمر في قمعه للنُخب الكُردية السياسية حتى نهاية السبعينات، عند اشتداد صراع النظام السوري مع نظيره العراقي وصعود جماعة الإخوان المُسلمين، حين استشعر نظام الأسد ضُعفاً جماهيرياً، خصوصاً في منطقة الجزيرة، حيث كانت أغلب العشائر تحمل ولاءً نفسياً ورمزياً لنظام صدام حسين، وفي الداخل لقوى الإخوان المُسلمين، ولذلك أطلق سراح السياسيين الكُرد، وخلق بعض المؤسسات التنموية في المناطق الكُردية.

ومثل هذا التواتر جرى بين الكُرد والنظام طوال عقود، بين مدٍّ وجزر، حتى وصلت الأحوال إلى أحداث القامشلي عام 2004، حين كان النِظام وقتها يعتبر الكُرد السوريين عدوه الداخلي الأول، ومارس أشد السياسيات «العدوانية» تجاههم، وصلت إلى درجة أنه حُظر على الكُرد بيع أي من مُمتلكاتهم دون موافقة أمنية مُسبقة، ودفعت الضغوط الاقتصادية مئات الآلاف من الكُرد السوريين للهجرة الداخلية نحو دمشق وحلب.

ثانياً، كان النِظام أكثر من يُدرك الطبيعة الداخلية لهذه الأحزاب والحياة الداخلية الكُردية السورية، فهو كان يعرف بأن هذه التنظيمات لا تُنتج سياسية بالمعنى الموضوعي المُضرّ بشكلٍ فعلي لاستقرار النِظام، وأن السياسة في الأوساط الكُردية إنما تشبه التديّن أو العشائرية أو الطائفية في أوساط المُحافظين السُنة، مُجرد خطابٍ يومي عام، تحطيمهُ يُكلّف النِظام أثماناً بالغة، وغير مضمون النتائج، بينما يُمكن احتواؤه والتلاعب به وإعادة تدوير عائداته لصالح الاستقرار الداخلي والألعاب الإقليمية.

في أي قراءة موضوعية لطبيعة التنظيمات الحزبية الكُردية قبل نظام الأسد وأثناء حكمه، يُستدل على حجم التخريب والتشويه الذي مورس في زمن الأسد بحقها، وعلى أن الأشياء التي بقيت من الحركة التحررية القومية الكُردية إنما بقيت بفضل نضالات العشرات من المُنخرطين في صفوفها، وليس أبداً كنتيجة لما أفسحه النِظام من مجال خاصٍ لها.

أخيراً فإن حواجز اللغة والعصبوية القومية، مع كثيرٍ من «الاعتزاز» ومنح الاعتبار للناشطين السياسيين القوميين، وهو تُراثٌ مُجتمعيٌ كُرديٌ عميق، متوارثٌ عن تبعات الثورات الكُردية مُنذ بداية القرن العشرين، منحت مُجتمعة التنظيمات الحزبية الكُردية حصانة وحماية مُجتمعية، لم تسمح للنِظام سوى باختراقات بسيطة لها، بعكس تنظيمات باقي المُجتمعات السورية، التي اجتاحتها موجات النِظام المؤلفة من مزيج كريه من الانتظام الحزبي بمنطق وخيارات حزب البعث والأجهزة الأمنية، والانجراف نحو المُحافظة والراديكالية الدينية، والركون نحو حياة خاصة تماماً، وترك أي شيء عام.

كان تطبيق ذلك الشرط على الكُرد السوريين صعباً على النِظام للغاية، نتيجة لذلك التُراث المُجتمعية التقديسي للحركة القومية، وليس أبداً نتيجة ما أفسحه النظام أو تواطأ به مع الحركة القومية الكُردية.

***

إن عملية كشف وتفكيك ونقد الطبيعة الحقيقة للتنظيمات الحزبية الكُردية السورية ضروري لخلق مسارين ضروريين غائبين في الحِراك الديموقراطي السوري، خصوصاً ما يتعلق منه بالتعامل مع المسألة القومية الكُردية في سوريا ومُستقبلها.

تتعلق الأولى بإزالة أية الأوهام حول المُجتمع الكُردي المتمايز بـ «عسكرته السياسية» عن باقي السوريين، وهو وهمٌ تماماً، لا يساعد سوى على مزيدٍ من التخوف والهواجس غير الحقيقية وسوء التقدير تجاه الكُرد السوريين من قِبل نُظرائهم من غير الكُرد.

المسألة الأخرى تتعلق بأوهام الأجيال الكُردية الأحدث عهداً حول مُجتمعهم ونُخبهم السياسية، والإيمان العميق والواجب من قِبلهم بأن الحداثة والتغيير المُنتظران من الدولة والمُجتمعات غير الكُردية في سوريا، إنما هما مفروضان وواجبان على الكُرد السوريين بالدرجة نفسها ورُبما أكثر، وأن أوهام التفوق والحداثة السياسية المُدعاة من قِبل غير قليلين من الكُرد السوريين، إنما هي أوهام نرجسية، تُطابق أوهام مُفاخرة العرب باختراع الإسطرلاب، ليس أكثر.