لملمت الشمس خيوطها وانسحبت لتنسج الضوء في مكان آخر، تاركةً الدور لمولدات الكهرباء كي تنير عتمة المدينة، أسرعتُ الخطا وهديرُ المولدات يدوي في أعصابي، وصلتُ إلى وسط بيت جدي الذي يتوسطُ مدينتنا التي تتوسط بدورها المسافة بين حمص ودمشق، بين جبال القلمون القاسية. لا أحد غير جدتي، تسألُ بصوت مستغرب كعادتها: «يوه… مين؟»، بينما تجلسُ على أريكة عالية قرب موقدتها التي تجعل الغرفة أشبه بتنّورٍ أو غرفة ساونا.
جلسنا متقابلتين، جسدي يتعرق وجدتي ترتعشُ وتزيد جرعات المازوت للمدفأة، يقولون إنها تعوض الدفء عن كل سنوات عمرها الباردة. أتأملُ وجهها المزهر الذي تنعكس نيران الموقدة عليه فتكسبه ألقاً رحيماً.
لا أحد يعرف ميلاد جدتي بالضبط، حتى هي نفسها، توفيت أختُها قبل ولادتها، فأخذَت اسمها عندما أتت، وهويتَها فيما بعد، أي أن جدتنا في الهوية هي أختها في القبر، لكننا نخمّن أنها شارفت على الثمانين. رغم ذلك ما زالت بشرتها تحاكي بشرة الصبايا، فقد كانت تدهنها، وما زالت، بماء الورد وتدعكها بالليمون وقشر الخيار.
تشمّر جدتي عن ساعديها للوضوء، وتردد ديباجة أم أحمد التي ضبطت موعد قدومها على موعد وضوء جدتي، وأم اسماعيل التي استمرت بقرع الباب أثناء صلاتها. أنظرُ إلى ساعتي بحرجٍ ثم أتذكر أنه حتى الخطابات الرسمية والانقلابات السياسية وأوقات انقطاع التيار الكهربائي تضبط مواعيدها على وضوء جدتي ومواقيت صلاتها.
وبإجراء عملية حسابية لتقسيم أوقات النهار على الوضوء والصلاة، نستنتج أن بقيته ليست إلا دقائق قليلة هاربة من ساعة الزمن المخصصة للقيام بالأمرين، أو الهمّة لهما، وهذه لا ينالها إلا كل ذو حظ عظيم. فجدتي تصلي مع كل فرض فرضاً آخر لتقضي ما فاتها من الصلوات قبل أن تَدخُلَ الهداية إلى الإسلام منزلها، أي قبل أوائل التسعينات من القرن الماضي، بعد أن طلب أحد طلاب معهد الفتح الإسلامي يد حفيدتها الكبرى.
ها هو الأذان قادم، عشرُ مآذن تنادي للصلاة في مدينة صغيرة.
«الحمد لله على نعمة الإسلام، وكفى بها من نعمة»، تتمتم جدتي في سرّها ثم تدعو لأبنائها السبعة وأحفادها الموزعين بين ألمانيا وتركيا والخليج وأرض الوطن. كثيرون هم، لكن لم يبقَ منهم في البلاد غير ابنةٍ وحفنة أحفاد. نتبادل أحاديث سريعة مفككة كالعادة، أسألها عن موضوعها المفضل: طريقتها في تدبير المنزل، محاولةً أن أخفي عنها خبر حفيدتيها اللتين خلعتا الحجاب في البلاد الباردة.
عائلتنا قبل التديّن
كشأن معظم العوائل في القلمون، لم يكن للدين شأنٌ مهمٌ في عائلة جدي في الستينات والسبعينات، فلم يكن الحجاب مثلًا أكثر من تقليد اجتماعي وعرف سائد، النساء يغطين رؤوسهن بمنديل يكشف الجيد وبعض الشعر مع عباءة مطرزة، الرجال يلبسون الكوفية والعقال، والملابس محتشمة كشأن أعراف أهل القرى.
في أوائل الثمانينات دخل التديّن بشكل بسيط ليكون محصوراً في العائلة بين الابن الأكبر وأحد الأصهار، كحالة تديّنٍ فردية ومقتصدة، لكن في أواخر الثمانينات التزمت الحفيدة الكبرى بالحجاب بتأثيرٍ من خالها الشاب الملتزم الذي كان يسرّب لها كاسيتات أناشيد منذر سرميني الملقب بـ «أبو الجود»، الممنوعة في سوريا وقتها، ومن أستاذها الشيخ أديب الكلاس، الذي أوفد إلى القرية كأستاذ للديانة في ثانوية الفتيات، وهو أحد أهم مشايخ دمشق وقد تتلمذ على يد الشيخ أبو اليسر عابدين
تتبع جبال القلمون لمحافظة ريف دمشق، التي تتبع للعاصمة دمشق إدارياً وتتأثر بها فكرياً ودينياً وسياسياً، لذلك فإن معرفة ما يجري في المدينة شرطٌ لا بد منه لفهم الريف، وفي دمشق كانت علاقة الأسد الأب بالجماعات الدينية في أوائل حكمه متوترة، وكان معارضو النظام يركزون على مرجعيته الدينية للطعن في شرعيته، وكان حافظ يحتاج إلى الإسلاميين ويناصبهم العداء في الآن نفسه.
في الثمانينات حصلت مجابهة عنيفة مسلحة بين الإخوان المسلمين والنظام، سحق فيها الأسد الأب الإسلاميين ولاحقهم بالاعتقال والإعدامات، ليدرك بعد المجزرة المهولة أنه لكي يحقق الاستقرار فإن عليه تقديم تنازلات للسنة، فقام باستمالة رجال الدين مانحاً إياهم سلطة أكبر في الميدان الاجتماعي، وسامحاً لهم بنشر الإسلام وتعاليمه لكي يحدّ من نفوذهم في المجال السياسي، محتفظاً بدفة القيادة بين قبضتيه، حتى استطاع صوغ شكل ملائم لسلطته من الدين، وشجّع الناس عليه.
رغم أن النظام السوري علماني من حيث السمة العامة، أو يدعى العلمانية، إلا أنه وجد أن من الأنسب له أن يرخي قبضته عن «الدين العام السائد»، ويترك الطابع الإسلامي الذي تصطبغ به الحياة الاجتماعية، مقابل أن يستأثر بالسياسة والسلطة بشكل تام.
هنا قامت علاقة تعاون وتعاضد بين النظام ومجموعة أخرى من العلماء والمشايخ، استطاعت من خلالها تلك المجموعة إعادة الشرعية للنظام القائم، وحصلت على مكاسب وامتيازاتٍ في مقابل ذلك. كان شيئاً يشبه صفقة لصالح الطرفين، إذ قرَّبَ الأسد إليه المشايخ الذين اصطفاهم من أمثال أحمد كفتارو الذي افتتح مجمع أبو النور الضخم، وصالح الفرفور الذي أسس معهد الفتح الإسلامي، وسعيد البوطي الذي عادى التيارات الحركية الإسلامية وكل من يطمع بالسياسة والسلطة من الإسلاميين.
كان منهج البوطي هو الدعوة إلى الإسلام وترك السياسة والسلطان، فهو يقول مثلاً كتلخيص لنهجه: «إن على الدعاة في مرحلة دعوتهم إلى الله والتعريف بدينه أن يُعرضوا عن الحكم وأهله؛ حتى لا تشوب هوياتهم الإسلامية شائبة قصدٍ سياسي فتزول ثقة الناس بهم، فإذا تغلب الخير وشاع الالتزام بدين الله في المجتمع، اصطبغ الحكم آليّاً بصبغة الإسلام ونظامه»
الحفيدة الكبرى، الحجاب والزفاف
كانت الحفيدة الكبرى أول فتاة ترتدي حجاباً إسلامياً في العائلة، وسط مخاوف وتحفظ الجميع الذين ما زالت حكاية نزع الحجاب عن الفتيات من قِبل سرايا رفعت الأسد 1981 عالقة في أذهانهم. وكانت موافقتها على الزواج من طالب معهد الفتح
كان الشاب يحمل معه من معهده في دمشق فكراً إسلامياً جديداً بدماثة دمشقية، فحاصرهم بالودّ واللين والزيارات، حتى لانت له النفوس القلمونية الصلبة والتفت حوله، وبعد أشهر من الدعوة الإسلامية ارتدت الفتيات الحجاب، وشاعت الصلاة، وبدأت دروس الدين المنتظمة تعقد للكبار والشباب والرجال والنساء. واحتفت العائلة بالشاب رغم تحفظ الجد، واختفت مخاوفهم.
جدي
لم يكن جدّنا متديناً، ولم ينجذب للإيمان بسرعة، وقد عرفنا عن طريق الوشاية أنه كان يشرب الخمر وأنه عاد غير مرة إلى المنزل سكراناً، لكنه كان شديد النُبل مستقيماً مرهوب الجانب عالي الأخلاق، لم ينم ليلة وفي رقبته ليرة دين لأحد. كان يعمل مع الجيش السوري، يحبونه ويأخذونه للاحتياط ويعيدونه، كان وطنياً من طراز رفيع، لكنه انسحب من الجيش متذرّعاً بألم في ظهره بعد أن احتسى من مرارة الخيبة ما دفعه لينفض يده من المؤسسة الفاسدة، لينشغل بـ «فلاحة» العقول مفتتحاً مدرسة، ثم بزراعة الأرض.
لا نعرف الكثير عن جدنا، لأنه كان كتوماً من ناحية، ولأن تاريخه لا ينفصل عن التاريخ السوري المحرم والتابوهات الممنوعة. عرفتُ بعد الثورة من الأحفاد الذين يكبرونني سناً أنهم وجدوا بين أشيائه وسام شرف من المؤسسة العسكرية، يُمكّن حامله من تسجيل أولاده في أي جامعة شاءوا، لكنه رفض استعماله قائلاً بحزم لا يُناقش «ما بدي منن شي، ابني درس هندسة بعلاماتو»، عزّة نفسٍ لا تُفَسَّر!
وعرفتُ أيضاً أنه كان يحارب مع الجيش السوري على الخطوط الأمامية ضد العدو الصهيوني في حرب 1967، ثم وصل أمرٌ عسكريٌ للجنود يقضي بإخلاء المكان وألقاء العتاد والانسحاب، فرفضَ الأمر العسكري وأخذ معه قاطرة ومقطورة ملتقطاً ما استطاع من الجنود والسلاح والذخيرة والعتاد، وعاد الأدراج، ليُعاقَب بعدها بسبب عصيانه الأمر العسكري.
لم يكن جدي لين العريكة أو سهل العصر، كأنه كان معجوناً من تربة الأرض القلمونية نفسها، قاسياً وصلباً. كانوا يقولون لنا إن جدنا الحنون هو غيره الأب القاسي المتحكم الذي ربى أبناءه. ونتساءل أنه لو كان جدنا بيننا اليوم، هل سيكون مع الثورة مدفوعاً بكرهه للنظام؟ أم ضدها مدفوعاً بمعرفته لطبيعة النظام؟
التسعينات
في فترة قصيرة من الدعوة وبشكل تلقائي، انتشر الإيمان وفروضه في العائلة، رغم منافاته لطبيعة المكان وما أَلِفَه الناس من الاختلاط والخمر والسهر والبساطة، لكن الحجارة القلمونية لانت أمام طراوة المياه الدمشقية، وكانت قلوب الناس متلهفة لما يعطيها معنىً وإجابات عن أسئلتها، ويطبطب على وجدانها المطعون، فهزيمة حرب تشرين وخسارة الجولان كانتا جاثمتين على الصدور، إذ كيف ينتصر الجيش الإسرائيلي على الأغاني الوطنية والأنظمة التقدمية والدول العربية صاحبة الحق مجتمعة؟ وشاع وقتها أن الهزائم سببها الابتعاد عن شرع الله وأن الله لا ينصر من لم ينصره، مما ساهم بدفع الناس باتجاه الإله والدين، بالإضافة إلى تراخي القبضة الأمنية التي كانت تمسك بخناق الإسلاميين.
في التسعينات بدأ التديّن يزداد بشكل لافت تحت أعين الدولة، إذ سمح النظام بعودة بعض المشايخ الذين هجّرهم قسراً عقب أحداث حماة، من أمثال عبد الفتاح أبو غدة وأبناء عبد الكريم الرفاعي مؤسس جماعة زيد، وذلك بواسطة من المشايخ المقربين منه. وبدأ يسير التديّن «الشامي»، أو ما يسمونه مذهب أهل السنة، مع السياسة بخط لولبي، تتحايل عليه تارة ويتحايل عليها أخرى، وتمكنت المجموعات الإسلامية من أن تبني أدوات معرفية مكنتها من إعادة إنتاج نفسها، ومن توسيع شبكتها ودورها الاجتماعي والسياسي، وسار التديّن مع الناس بخطٍ شاقوليٍ في عمق المجتمع وأفقيٍ من حيث التوسع والانتشار، فامتلأت المساجد بحلقات التدريس، وازداد طلاب المعاهد الشرعية ووصلت الدروس إلى البيوت، تزامناً مع علاقات اقتصادية قوية، خاصة مع فئة التجار الذين كانوا مكسباً للدعوة، واستخدام التكنولوجيا حيث انتشرت الكاسيتات الإسلامية والكتب والقصص المصورة. كانت عرائش الدين تمتد مع قضبان السياسة وتتشابك.
دخلَ التدين قلوب الأبناء، وكان من الطبيعي أن تديّنَ الجيل الأول، الأبناء والبنات، يعني أوتوماتيكياً تحوّلَ أبنائه، الجيل الأول من الأحفاد، إلى الإيمان. فأسلوب التربية كان قائماً على القبول والانصياع دون سؤال، وهكذا التزم الجميع بدون كثيرٍ من الأخذ والرد. كان هذا ما يجب فعله: إطاعة الأوامر. فتاةٌ واحدة من بين الجميع تمردت على الأمر، ورفضت الانصياع: «لا أريد أن أرتدي الحجاب».
بعد التسعينات نشأ في العائلة جيل تبرعمَ قلبه منذ طراوته على الأفكار الدينية، ليفوق آباءه تديناً والتزاماً، ويكون هذا الجيل هو جيل الثورة فيما بعد.
وفاة الأسد الأب
في العاشر من حزيران عام 2000 توفي حافظ الأسد، وصلى عليه الشيخ البوطي وخطب في رثائه متأثراً وباكياً. ضغط جدي على يديه المتشابكتين بشدة قائلاً: نافَقَ البوطي!
كنا نعرف الشيخ البوطي ونراه كثيراً على شاشة التلفاز، لكننا في معظم الأحوال لم نكن نفهم ما يقول، فقد كانت لغته صعبة على أذهاننا. وفي عهد بشار شرعن البوطي توريث السلطة للأسد الابن بعد تعديل الدستور ودون انتخابات حقيقية، حيث أشار في كلمته في أربعينية تأبين الرئيس الراحل إلى «الديموقراطية المطبوخة المصطنعة»، في مقابل «بيعة صادقة صافية من الشوائب من هذا الشعب» للرئيس الجديد بشار الأسد
سمحَ النظام مثلاً في عهد الأسد الابن لمجموعات أخرى من المشايخ بالعودة إلى سوريا، مثل عبد القادر حبنكة ومصطفى البغا، وفتح المجال أمام مجموعة زيد للعودة إلى نشاطها تحت قيادة الأبناء أسامة وسارية الرفاعي، وصعد نجم الداعية محمد راتب النابلسي، ووهبة الزحيلي، وكانت قلوب الشعب تتعلق بصنارة الإسلام، وتزداد التصاقاً في المحن والأزمات التي تتالت على الوطن العربي: الغزو الأمريكي للعراق، أحداث 11 سبتمبر، اغتيال الحريري، وحصار غزة.
كنا نجلس قبالة التلفاز نتابع ما يجري في كل محنة، ثم نصلي صلاة الجماعة بخشوع، كان المشايخ يقولون لنا إنه إذا صلح الشعب يصلح النظام، وأن النظام أداة إلهية تُسلَّط علينا بذنوبنا، فكما نكون يولّى علينا، ويدعوننا أن نقيم دولة الإسلام في قلوبنا وعندها سنراها ماثلة على الأرض، ورغم الأزمات المتتابعة على سوريا والبلاد ساد في عائلتنا كما في سوريا كلها شعور متفائل بأن الدولة والإسلام سيتجهان للأفضل تحت قيادة الدكتور الشاب. أتذكرُ كم كانت فرحتنا عظيمة حينما قال الأسد في خطابه: «سوريا الله حاميها!»، ظننا أن الهداية تدخل قلب الرئيس وأن دولة الإسلام قادمة، يبدو أننا كنا قد ابتلعنا الطعم البعثي تماماً.
عام 2000 كانت الفتاة التي تمردت على الحجاب أمام خيارين: «يا حجاب ودورة بكالوريا، أو لا هاد ولا هداك»، وأصرَّت الفتاة على العناد متخليّةً عن دورة البكالوريا الصيفية، ومتمسكةً بحريتها، وبعد بضعة أشهر ارتدت الحجاب مع مجموعة من صديقاتها اللواتي لم يكن قد تحجبن بعد، متأثرةً بعمرو خالد الذي كان نجمه قد سطع حينها.
كان يبدو بوضوح دعم الدولة للإسلام «الوسطي» بتعبير تلك الأيام، و«الرسمي» في أيامنا هذه، ففي حين رفضت الدولة جميع طلبات ترخيص منتديات ما عرف بربيع دمشق في تلك الفترة، وافقَ النظام عام 2001 على الترخيص لمنتدى يهدف إلى نشر «فكر إسلامي معتدل» بعد شهرين من تقديم الطلب وفقاً لمحمد حبش، مدير مركز الدراسات الإسلامية والنائب في البرلمان. وما بين 2003 و2008 نشطت معاهد الأسد لتحفيظ القرآن نشاطاً غير مسبوق، وانتشرت دروس الدين، وانتعشت ظاهرة القبيسيات.
القبيسيات
مجموعة من الداعيات النساء، تعود التسمية إلى الشيخة «منيرة القبيسي» تلميذة كفتارو، مفتي الجمهورية السورية في عهد حافظ الأسد. صرّح لهن النظام بالعمل رسميًا بعد 2003، بعد أن نُقِلَ عن الشيخ البوطي قوله إنهن: «يقمن بالدعاء المستمر للرئيس بشار الأسد من دون التطرق إلى السياسة، وإن ولاءهن للرئيس الأسد لا غبار عليه»، بعد أن كنَ يعملنَ في الخفاء منذ الثمانينات. تغلغلنَ في المجتمع السوري بكثافة، وانطلقنَ منه إلى البلاد العربية المجاورة وإلى أوروبا.
تعمل القبيسات كمدرسات في المدارس والمعاهد غالباً، وكانت إحدى الآنسات تزورنا في منزلنا لتحفّظنا القرآن وتحكي لنا القصص النبوية قبل الـ 2003، وبعد التصريح الرسمي للقبيسيات، استلمنَ كل معاهد الأسد لتحفيظ القرآن واحتكرن التعليم الديني للفتيات.
تقريباً جميع فتيات العائلة حضرن عندهن الدروس وحفظن أجزاءً من القرآن، ولم يكن التعليم الديني دروساً مجردة، بل كان تربية اجتماعية وثقافية، ومقترناً بنشاطات مسلية وتشجيعات مستمرة وهدايا واحتفالات بعد كل فصل صيفي أو شتوي، لتكريم حفّاظ القرآن مع رحلات لأداء العمرة.
لم يكن ثمة مسرحٌ أو سينما أو مقهى أو مكانٌ لتعليم الموسيقى في مدينتنا، الأطفال يقضون الصيف بين دورات الحاسوب واللغات ومعاهد القرآن، ثم يعودون إلى المدارس شتاءً.
مشغل للملابس الإسلامية
في عام 2003 كانت مظاهر التدين محصورةً في عدد من العوائل في قريتنا، وكانت إحدى الصعوبات التي تواجه المجتمع المسلم الناشئ، هي إيجاد ملابس ملائمة للمحجبات من بناته، ملابس واسعة وعصرية وأنيقة، فالسوق لم يكن مصمماً ليتناسب مع الحجاب، ومن هنا أتت فكرة إنشاء مشغل خياطة صغير لتصميم ملابس إسلامية، وبيعها فيما بعد.
لاقت الفكرة قبولاً وحماساً، لكن لم يكتب لها أكثر من أن تكون فكرة، بسبب صعوبة إيجاد خياطات ماهرات وأسباب أخرى.
بنيت الجوامع بغزارة في القرية التي كانت تتحول إلى مدينة ويتحسن مستواها الاقتصادي بسرعة بسبب الأموال التي تضخ إليها من الخليج، حيث سافر عدد كبير من شبابها إلى المغترب.
مع برامج عمرو خالد التلفزيونية العصرية، وجهود المشايخ والآنسات، طغى التديّن وانتقل من ظاهرة فردية وعائلية، ليصبح ظاهرة اجتماعية، ويسود الحجاب مع المانطو (الجلباب الطويل)، ويصبح المتدينون أكثرية تجتذب إليها البقية أو تمارس عليها سلطة المجموع التي هي أقسى من سلطة الدولة.
الحرية، العصا التي شققت الجليد
باشتعال فتيل الثورة في درعا وقرب الجامع الأموي، احتدمت النقاشات في شجرة العائلة وفي كل أغصانها، كانت الأرواح في حالة من التمرد والتوتر الرهيب. القوس مشدودٌ إلى آخره، وكنا نسمع في داخلنا تمزق قلوبنا، انتظرَ الشبابُ النخبَ الدينية كعادتهم، لتسير فيسيروا وراءها.
ولمفاجأتهم، كان موقف شيخ العائلة ضد الثورة، انشرخت العائلة لأول مرة إلى شطرين، مع الثورة أو ضدها، أي مع الشيخ أو ضده، وكان الإحباط كبيراً. ناقشَ الشباب بصوتٍ عالٍ لأول مرة أستاذهم، بينما كانت رياح الشباب السريّة الحامية تخفق في صدورهم، وسخروا من آرائه المؤيدة للنظام، ليكتشفوا بعدها أنه ليست آراءه شخصياً بل آراء المؤسسة الدينية كلها. وكان الإحباط أكبر.
تتالت النقاشات ثم تحولت إلى عراكات لسانية، لم يكن الشباب على دراية بالتاريخ تكفلُ تقريبَ ما يجري إلى عقولهم، كان يبدو لهم أن تحالف الإسلاميين السابق مع السلطة ما هو إلا توازنٌ مؤقتٌ تستلزمه المرحلة وتجبر عليه الظروف، لكن اليوم بعد أن ثار الشعب، أين النخب؟
بدا واضحاً مع الوقت أن النظام قد رسم للإسلام السياسي نهجاً محكماً محبوكاً، وأنه بدوره سار وفق الخطة، وبعد نقاشات طويلة ومحتدمة ومجازر مهولة، بدا واضحاً أن القطار لن يخرج عن السكة المرسومة منذ عقود، وهنا خرج الناس عن القطار وخرجوا ضد الأسد من المساجد التي وضع عليها يده وطبع عليها اسمه، لتصبح المؤسسات التي رُتَّب لها أن تكون معاقل للتدجين، بؤراً للحراك.
كانت العائلة متماسكة ظاهرياً، بمرجعية دينية واحدة، وآراء واحدة، ثم كانت كلمة «حرية» هي ضربة العصا التي كسرت التوازن الجليدي القائم لتشطره إلى قسمين، أحدهما مع الثورة والآخر ضدها، ثم بدأت الضربات تتالى، والصدوع تتزايد، ليصبح شكل العائلة أشبه بمرآة تلقت ضربة فأس فشققتها إلى مئات الجزيئات والانكسارات الصغيرة، أو كلوحة فسيفساء تجرحُ من يحاول لمسها.
بذرة التمرد
أولئك الذين كانوا يحقنون العلم في أوردة الشباب ويملؤون الرؤوس بأماني النهضة ويسندون السماء بأكتافهم أن تقع قبل الثورة، فرّوا مذعورين أمام أول هتاف بالحرية، والأماني العظام التي علّقها عليهم الشباب استحالت إلى أكياسٍ من العظام البالية. لم تصدر منهم كلمةٌ على قدر الموقف، القادة اختبأوا وانعزلوا، ثم طلعوا بفقه الفتنة، وبعدها أيدوا الظلم. كان الموقفُ شبه الموحد لعلماء الدين والمشايخ ضد الثورة، مع بعض الاستثناءات التي تؤكد القاعدة. كان ذلك صادماً.
هضم الشباب الحقائق المخزية وأدركوا مكرهين أن السلطة الدينية والسياسية بعضهم أولياء بعض، وفي معركتهم مع النظام اكتشفوا تورط الدين مع السياسة إلى الحد الذي جعلهم يشككون في كل ما وصل إليهم عن طريق النظام، بعد أن أدركوا قدرة النظام الهائلة على الكذب والتلفيق. التهبت العقول وسقطت في الأحشاء بذرة التمرد.
أدرك الشباب بداية أن ثمة فرقاً بين ما يسمى مؤسسة دينية وإسلاماً رسمياً، وبين الدين الحقيقي، والتف الشباب حول الشيوخ الذين حملوا لواء الحرية رغم تأخرهم عن الركب، مثل: سارية الرفاعي، كريّم راجح، ومعاذ الخطيب، والدعاة الذين دعموا الثورة، مثل: أحمد خيري العمري، مأمون ديرانية، وعبد الكريم بكار. وكانت شبكة الإنترنت تتحسن بسرعة في البلد، والأجهزة الذكية وصلت إلى كل يد، ولم يعد منع دفق المعلومات والأخبار الرهيب أو التحكم به ممكناً للنظام كالسابق.
كانت القلوب تتفتح وتزيح الحدود التي رسمتها من قبل، وأصبحت الثورة والمجازر ضاغطة بشدة، واحتدمت النقاشات أكثر. كان الشيخ في نقاشاته مسلّحاً بأقوال ومواقف تعود للسلف الصالح، مثل الحسن البصري الذي سُئل بعد واقعة «القراء»: «ألا تخرج على الحجاج فتغيّر؟»، فقال: «أرى ألا تقاتلوه، فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادّي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاءً فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين»
وكذلك بأحاديث من الصحاح تعود نسبتها للرسول عن طاعة ولي الأمر «ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك!»، وقصص وحكايات من التاريخ تعود إلى عصر الحجاج ومعاوية. ورغم أن القرآن يمدح ثورة موسى ويذم طغيان فرعون، إلا أن النقاش مع المشايخ والعلماء على الأرضية نفسها كان يُحسَم لصالح المشايخ غالباً، فالملعب ملعبهم.
في حين كانت الثورة حدثاً أسطورياً فاتناً بالنسبة للشباب ولحظة تاريخية لا تعوض، كانت مجرد تمثيلية مكرورة بالنسبة للمشايخ، بدوا وكأنهم يعرفون تماماً حُجَجَ الخصم، ويحتفظون بردود جاهزة عليها.
الفتنة والمؤامرة والخراب كانت الردودَ على الحرية والكرامة والمساواة، المشايخ يخافون على المكاسب التي كبّروها «كل شبر بندر»، ويرون أن ما يحدث ما هو إلا مؤامرة لقطع وتين الدين وعنقه. يأسَ الشباب من النقاش وعلا صوت الدم ثم سقطت جميع النخب أمام الأعين وتهاوت الجبال تباعاً، ليتعلم الشباب الدرس القاسي، أن لا بد لهم أن يشقوا طريقهم وحدهم، وأن يتقدموا.
بدأ شباب العائلة يبنون أسطولاً صغيراً ليمخر في البحر بحثاً عن مبادئ لا تُخجِل قلوبهم، وعن مرجعيات أكثر انسجاماً مع قلق العصر الروحي وعصيانه، متجاهلين نداءات النخب وتحذيراتها، تاركين خلفهم جميع النتائج الفاخرة التي صاغها قدماءٌ خائفون أو متواطئون مع الأنظمة.
ما سبق لي توصيفه في هذه المقالة هو شؤون تتعلق بعائلة جدي ولكنها لا تختصُّ بها، فلسنا في المجتمع سوى خلية صغيرة وعينة عشوائية، تتأثر بما يجري للجسد كله وتؤثر فيه.