يميلُ الكلام العابر بين سوريي لبنان، لاجئين وعمالاً وأرباب عمل، إلى استخدام كلمة الأحداث عند الإشارة إلى تاريخ اندلاع الثورة في سورية، أو لوصف الواقع كما جرى ويجري منذ نحو ستة أعوام: «هون من قبل الأحداث»، «بسبب الأحداث»، أو «بالأحداث».

المرجح أن تكون الكلمة قد استدعيت من الماضي لوصف الحاضر، بهدف التخلص من الأعباء تجاهه، وربما للتحرر من الأوهام بشأنه. لـ «الأحداث» دلالة راسخة في الذاكرة الجمعية السوريّة، واليوم أيضاً، يمكن ملاحظة النبرة المرتابة التي كانت للكلمة في الماضي.

بينما تصدّر هذا المانشيت (منفذةً أهداف الإمبريالية والصهيونية… عصابةُ الإخوان ترتكب جريمة وحشية جديدة… في حي الأزبكية) الصفحةَ الأولى لجريدة تشرين، صباحَ 30 تشرين الثاني عام 1981، اختارَ الناس كلمة «الأحداث» للإشارة إلى وقائع المواجهة المسلحة التي جرت بين تنظيم «الطليعة المقاتلة» والسلطة خلال الفترة الممتدة بين نهاية سبعينيات القرن الماضي والأعوام الأولى من ثمانينياته.

لاحقاً، أصبح للكلمة وظيفة اجتماعية للتأريخ، فهناك من ولد «خلال الأحداث»، ومن تزوج أو أنهى جامعته بعدها، وثمة طبعاً من (راحَ) «قُتِلَ أو اختفى» في الأحداث، التي بقيت واقعةُ تعرّضِ حافظ الأسد خلالها لمحاولة اغتيالٍ أبرز ذكرياتها المنسيّة.

لم يتبن الجمهور السوري العام التسمية السلطوية للواقع، ومانشيت تشرين عينةٌ مخففة عنها. هذا لا يعني أن الخوف لم يكن سبباً لاستخدام الكلمة المحايدة، التي تحذرُ من «الحكي في السياسة»، وتغيّبُ الفاعلين في عالم الخلود الذي خلقه سوريو «سوريّة الأسد»، حيث الله هو الشخص الذي تعرّض لمحاولة اغتيال.

على النقيض مما حصل قبل نحو ستة أعوام، لم يكن لـ «الطليعة» أي أفق تحرري. كانت صرخة هستيرية أطلقتها ثقافة أهلية تتهيأ لهزيمة نهائية أمام سلطة أحزاب «نشر الوعي» وضباطها، بينما جرى الهتاف للحرية بدءً من آذار 2011، ولُعِنَت روح الأسد الأب على الملأ بأصوات الملايين.

كان تنظيم «الطليعة» تجمّعاً نخبوياً اعتمد الإرهاب الطائفي المسلّح طريقةَ عمل، ما شكل ذريعةً لتبرير عدم الإحساس بالمسؤولية العامة تجاه ما حصل، وعدم التمرد على رواية صحف «سرايا الدفاع». في حين أن الثورة اندلعت في الشارع، وقدمت نموذجاً في ازدراء السلطة/النظام، ووضعت البلد أمام تحدي اختبار بقائه. بدت معجزة.

الاختلاف التام بين الحدثين الأبرز في تاريخ سورية الحديث لن يمنع شارعاً تجدَّدَ عزله السياسي من الاتجاه نحو إطلاق تسمية واحدة عليهما. يتعلق الأمر بستة أعوام من التحولات، تغيّرت خلالها أشياء كثيرة، وصار المستقبل مجهولاً كبيراً.

خُذِلَت الثورة إنسانياً وسياسياً، ما جعل الإيمان بها يتلاشى تدريجياً. وهي، من جهتها، لم تقترح، في شارعها ومجتمعها وعالمها، قيماً مختلفة للحياة الجديدة التي تريد، بما يضمن لها الاستمرار. ثم كانت الدماء والدمار واللجوء والشتات والأفق المغلق.

وصلت الثورة إلى وضعية قديمة/جديدة، هي «الكفاح ضد الاستبداد» أو «مقارعة الطغيان» أو مواجهته، وهذه تعابير متقادمة بالنسبة لأجيال ما بعد «الأحداث» ونخبوية، من خلالها، انتهت الثورة إلى المعارضة، وهذه، بدورها، مُدرَكٌ سوريٌ خاصٌ لـ «النضال» ضد نظام الأسد، ولد قبل أربعة عقود، خلال «الأحداث»، واتسعت قاعدته الاجتماعية، في السنوات الستة الماضية، من لا شيء تقريباً إلى الكثير.

من جهته، النظام، لم يبدّل تسمياته: إرهابٌ وإرهابيون وحربٌ على الإرهاب. الدراما التلفزيونية الرائجة، وجدت مصلحة في الحديث عن «هدول» و«هدوك» و«هالطرف» و«الطرف الثاني»، ما يدعم الميل إلى القبول بـ «الأحداث» بالنسبة لجمهور سوري كبير بعضه جمهور تظاهرات الثورة، وفي الحقيقة كل من ليس له كلمة؛ اللاجئون في المقدمة وعموم الناس.

عززت التحوّلات الميل إلى التخلي عن الموقف أو الرأي بشأن ما يجري. لم يعد هناك ثورة، ولا معارضة وموالاة، أو إرهاب. «أحداث» فقط!

كانت «أحداث» الثمانينيات إعلاناً لنهاية حقبةٍ تعايشَ بعدها الناس مع التواطئ على دعوة جرائمِ حربٍ «أحداثاً»، ويمكن لأبناء جيلي (مواليد الثمانينيات) اعتبار أن أهاليهم قد بدأوا تعليمهم الكذب، في الشأن الاجتماعي/السياسي، خلال السنوات التي تلت «الأحداث». في المقابل، تبدو «أحداث» اليوم إعلاناً لنسيان سورية بالمعنى الجغرافي، مع تخفُّفٍ كبيرٍ من عبء المسؤولية عما حلّ وسيحلّ بالبلد.

والحال، فإن دعوة ما يجري حرباً كأي حرب أخرى بأوهامها المعتادة وعبثيتها المجرّبة، تبدو واقعية مقارنة بثنائية «الموالاة/المعارضة» أو أحادية «الإرهاب»، أو «الأحداث» طبعاً، وقد تخلقُ الحاجةَ إلى رؤية مختلفة للواقع وإلى ثقافة جديدة.