ضحكاتُ أطفالٍ صغار، أصواتُ أقدامهم تتراكض على درج البناء، وكلماتهم الأولى الموجهة لي: «عطينا الشناتي خالة». أشعرتني تلك الكلمات بالارتياح، وأزالت عني قليلاً من عناء السفر والخوفِ من مكان جديد أجهله، أنا التي لم أسافر في حياتي أبعد من حلب، ولم أتوقع يوماً أن أكون خارج الحدود، مثل كثيرٍ من السوريين.

كان البناء جديداً ومؤلفاً من تسع شقق، سكانها سوريون من مناطق مختلفة، ويقع بالقرب من بلدية الشهيد كامل بمدينة غازي عنتاب التركية، في حيٍّ يعدُّ من الأحياء الجديدة نسبياً، تتوسطه محطة القطار «الترام»، ويجاوره مول «فوروم».

غالبية سكان الحي كانوا من الأتراك، باستثناء البناء الذي كنا نسكنه، وبناء آخر كان بالقرب منا. وعلى الرغم من صغر مساحة الشقق، التي لم تتجاوز 35 متراً، كان يراودني شعورٌ بأنني في بيت واسع بين أهلي ومعارفي، وأن أرواحاً من سوريا تحيط بمسكني، ربما هي حالة التعلق بالمكان التي تصيبنا أولَ خروجنا وتدفعنا لاختيار مكان يشبه ما كنا فيه للسكن.

«الشقة رقم 11… أنتِ مقابيلي»، بهذه الكلمات استقبلتني جارتي الجديدة أم محمد من مدينة كوباني (عين العرب)، والتي رأيت فيها وجه سوريا الحنون، وحزنها الممزوج بكثير من الحب. على الرغم من فارق السن بيننا إلا أنها غدت أختاً كبرى لي، وأماً أو خالة، تطهو لي الحساء عندما أمرض وتصطحبني معها إلى السوق لشراء ما يحتاجه المنزل، ولا يخلو يومٌ صيفي أو شتوي دون أن تطرق بابي لتعطيني صحناً مما أعدته للغداء.

بدأت أتعرف على باقي الجيران تباعاً وجميعهم سوريون. في الطابق الثالث، بالإضافة إلى بيتنا وبيت أم محمد، كان يقطن الدكتور أحمد وزوجته الدكتورة وحيدة، اللذَين جلبا معهما ما تعلماه من مهنة الطب ولم يتوانيا طوال فترة وجودنا عن خدمة الجيران عندما يمرض أحدهم أو يصاب بنزلة برد، فكانا يقومان بتقديم خدماتهما الطبية دون أي مقابل.

وعلى الرغم من أنهما كانا طبيبين على رأس عملهما في مدينة حلب، فإن القوانين هنا لا تسمح لهما بمتابعة عملهما إلا بعد إجراءات طويلة ومعقدة تتطلب مالاً وإتقاناً للغة التركية، وهو الأمر الذي دفعهما إلى تحويل مسكنهما الى ما يشبه العيادة المنزلية.

في الطابق الثاني كانت تقطن ثلاث عائلات من ريف حلب، نزح أفرادها بعد اشتداد القصف وتعرُّض منازلهم لكثيرٍ من الدمار، وفي محاولة للإبقاء على شيء من أجواء مدينتهم وذكراها قاموا بتجميع أنفسهم واستئجار شققهم في الطابق ذاته.

روى لي أفراد تلك العوائل التي لجأت الى تركيا كيف كانوا يصحون على أصوات البراميل المتفجرة، وهدير الطيران الحربي، وكيف أن الأسعار ارتفعت خمسة أضعاف عمّا كانت عليه قبل العام 2011، وزادت أجور النقل، وكيف دُمِّرَ كلّ شيءٍ يخصّهم.

الأخ الأكبر أبو محمد كان يزاول مهنة تجارة الحديد، إلا أنه وبعد اندلاع المعارك في مدينة حلب صيف العام 2012 تراجعت تجارته ثم توقفت، الأمر الذي دفعه إلى النزوح واللجوء لتركيا، حيث سعى لإيجاد عمل مناسب حسب خبرته، ولكن دون جدوى، ما اضطره للعمل في أحد المعامل التركية. وهو يشكو من تدني الرواتب وعدم كفايتها، ومن أن العامل السوري لا يتقاضى أجراً معادلاً لأجور غيره، مردداً المثل الشعبي الشائع «ما جبرك على المر إلا الأمر منه».

كلما صعدتُ الدرج كنتُ أشمُّ رائحة الطبخ الحلبي الأصيل ذي المكونات التي لا تقاوم، فتأخذني الذاكرة معها حتى أصل إلى أحد أبنية منطقة شارع النيل أو الإذاعة، أو ربما الصاخور بمدينة حلب.

كانت تلك العائلات ودودة ومسالمة ودائمة الابتسامة، لم أحفظ أسماء جميع أولادهم فهم كثرٌ وتجمعهم صلة قرابة، لكن وجه ابنهم عامر لا يخفى على أحد من سكان البناء.

يعاني عامر من إعاقة جسدية كبيرة وبطء في النمو، ولا يستطيع التعبير عما يريد إلا عن طريق تحريك يديه الصغيرتين. في كثير من المناسبات كان يقرع جرس المنزل ليقول لنا «كل عام وأنتم بخير»، ويسأل عنا بلغة الإشارة إن غبنا أكثر من المعتاد، ويشكو إلينا أولاد الحارة إن قاموا بمضايقته أو إزعاجه.

أما في الطابق الأرضي، كانت الشقة رقم 1 لعائلة الكاتب والصحفي الكردي فاروق حجي مصطفى، الذي نزح إلى تركيا وفي قلبه حسرة على محتويات مكتبته التي قام عناصر داعش بإحراقها كاملة، بالإضافة إلى مركز إعلامي صغير كان يديره لكنه سوّيَ بالأرض بعد تعرضه للقذائف.

مارس فاروق مهنة الكتابة عندما كان في بلدته كوباني، ونقلها معه وهو في غربته، لينشر ما يكتبه من مواد في صحف سورية أو صحف عربية، علّ الكلمات تنسيه ليالي الشتاء الباردة هنا، وتواسيه بعد ضياع أهم ما يملك.

لا يخفي فاروق عدم ارتياحه في هذه البلد، فهو يشعر أنه غريب عنها وعن شوارعها وأزقتها، وهو الذي كان يمشي في حلب القديمة وسوقها المسقوف، وكان يزور دمشق بشكل دوري، ويحفظ أسماء شوارعها وكأنه كان يسكن في العاصمة.

في الشقة رقم 2 المقابلة لشقة الكاتب كانت تسكن عائلة وصلت من مدينة دوما بغوطة دمشق الشرقية، حاملة معها شجون ومآسي ما يتعرض له أبناء منطقتها من حصار وويلات. كانت عائلة أبو خليل تقطن سابقاً في منزل تقدر مساحته بحوالي مائة وخمسين متراً، وتتوفر لهم العديد من مزايا المعيشة كغيرهم من أهالي الغوطة، إلا أن القصف وأخبار الموت غيّرت ملامح كل شيء في المدينة، فاضطروا أن يعتادوا مع أبناء منطقتهم نمط حياة أكثر قسوة. لذا، لم يكن سهلاً أن تتأقلم عائلة عاشت لسنوات على أصوات الطائرات، واعتادت أكل خبز الشعير والذرة وجعلت طعام العصافير غذاءً لها، وأن تعيد ترتيب أوراقها من جديد وتنتقل الى تركيا.

لم يكن التأقلم على الوضع الجديد سهلاً لولا المساندة التي حصلت عليها العائلة من قبل باقي الجيران، إذ بدأ أطفال البناء باللعب فوراً مع الطفلين الجديدين القادمين من دوما، خليل المشاكس وتُقى الذكية. أذكر عندما صنعت لي تُقى يوماً مزهرية ورود جميلة من الورق الملوّن، وطلبت مني أن أحتفظ بها، ولا زلتُ أفعل.

يتحدث أفراد عائلة أبي خليل عن دوما وكأنهم خرجوا منها للتو، يتمنون أن لا يطول انتظارهم في بلد اللجوء، وأن تعود الأمور أفضل مما كانت عليه.

أما نهاد مدير البناء، فقد كان كردياً من بلدة كوباني (عين العرب)، عاش لسنوات طويلة في مدينة حلب وكان له فيها أصدقاءٌ كُثُر، وهذا هو السرّ الذي دفعه لأن يختار جميع سكان البناء من السوريين. كان مدير البناء يقنع المالك بأن لا يرفع الإيجارات، وأن يكون رحيماً مع السوريين، ويتساهل في مسألة دفع الإيجار والفواتير.

كان نهاد يسأل بشكل مستمرٍ ودوريٍّ عن حال جميع الجيران، ويعتبر أن سكان البناء أهلٌ وأقرباء، وأنه يجب عليهم أن يساعدوا بعضهم بعضاً ريثما يعودوا إلى بلدهم.

في شهر رمضان لم أشعر بثقل الغربة، «السكبة» التي كان الجيران يسكبونها لبعضهم بعضاً وقت أذان المغرب كانت أكثر ما خفَّفّ عليَّ غربتي، إلى درجة أن الساكن في البناء يصادف أكثر من سبعة أطباق صغيرة مختلفة الأشكال والألوان على مائدته.

صوت أذان المغرب ومدفع الإفطار، المختلط بضجيج أولاد البناء وأصوات قرقعة الصحون ووقع أقدام الجيران على الدرج، كل هذا أشعرني بأنني لا زلت ضمن أسوار منزلي في دمشق. مضى عامان بسرعة، حضرنا فيهما أفراحاً كثيرة، شهدنا تعازٍ وأحزاناً. مرضتُ خلالهما فوجدتُ جارتي الحنونة أم محمد تعدُّ لي حساء العدس وتغسل عني الصحون وترتب المنزل أحياناً. بكيتُ فوجدت من يخفف عني غربتي، ضعفتُ فأسندتُ رأسي على جدار يحمل شيئاً من قوتي وصلابتي التي كنتُ عليها في سوريا.

يعمل السوريون على التأقلم مع أوضاعهم الجديدة في الغربة، وأنا كذلك بحثتُ عن وطني عندما رحلت، فوجدتُه في بيوتٍ لا تتجاوز مساحة الواحد منها خمسةً وثلاثين متراً، وعزائي الوحيد أنني لا زلت أزور ذلك البناء حتى بعد انتقالي منه، علّي أخبىء بعضاً من مؤونة الفرح لأيام لا ندري ماذا تخبىء لنا.