«القتلى، الذين تعرّضوا للتعذيب، من تمّ إعدامهم… كلا، لا يَجُبُّ ما قبله ردُّ اعتبارٍ يأتي بعد موت، أو تسيير جنازة وطنية، أو تدبيج خطاب رسمي… ليس هؤلاء هم الأشباح التي يمكن تفاديها بعبارة ميكانيكية».

أشباح سيزير

كتب إيمي سيزير هذه الكلمات في مطلع رسالته إلى موريس ثوريز، الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي، حيث أعلن استقالته من الحزب بتاريخ 24 تشرين الأول 1956. سيزير شنّ هجوماً قاسياً على الحزب الشيوعي، الذي توانى عن إدانة ستالين وتطهير ممارساته من الإرث الستاليني، كما صادَق على سياسات الحكومة الفرنسية في مستعمرتها الجزائرية: «على أي حال، من الواضح أن كفاحنا –كفاح أبناء المستعمرات ضد الاستعمار، وكفاح الشعوب الملوّنة ضد العنصرية– يبقى أشدّ تعقيداً، بل لعلّه ذو طبيعة مختلفة تماماً عن كفاح العامل الفرنسي ضد الرأسمالية في فرنسا، لذا لا يمكن بأي شكل من الأشكال اعتبار كفاحنا جزءاً من هذا الكفاح أو بعضاً من فُتاته». شخّص سيزير الواقع آنذاك بالإشارة إلى فشل مزدوج: أولاً الفشل الجليّ للرأسمالية، وثانياً «الفشل المفزع لذاك الشيء الذي لطالما اعتبرنا أنه هو الاشتراكية، وتبيّن أنه محض ستالينية».

تثير رسالة سيزير مسائل يسارية جوهرية ما تزال تطرح نفسها إلى اليوم. هناك إرث يساري عريق يتمثل في تبرير الفظائع التي يرتكبها المعسكر باسم الثمن الذي لا بدّ منه من أجل س –ضع بدل س التقدم، حماية الثورة، الصراع مع الإمبريالية، إلخ– أو على الأقل التعامي التامّ عن تلك الفظائع. يلفت سيزير انتباهنا أيضاً إلى علاقة متوتّرة أخرى، نظرية وسياسية، تربط اليساريين في المراكز الرأسمالية بالمناضلين ضد الاستعمار في الأطراف. وكما أعلنت رسالته فشلاً مزدوجاً، فقد دعت إلى طلاقٍ مزدوج: مع تبرير الجرائم الستالينية باسم الاشتراكية، ومع إلحاق الكفاح ضد الاستعمار بالصراع الطبقي في حواضر الغرب.

تبدو التناقضات التي ينتجها عالم الحرب الباردة ذاك، بين معسكر رأسمالي ومعسكر اشتراكي، وبين شمال استعماري وجنوب خاضع له، وكأنها تنتمي إلى عالم قديم وبائد. غير أن الأسئلة التي يطرحها سيزير حول الفجوة بين الإيديولوجيا (الاشتراكية) والممارسة السياسية (الستالينية)، وحول التنظير لكفاح المستعمرات، ناهيك عن السياسات المشحونة والتضامن الأممي بين يساريي المراكز وثوّار الأطراف، تعود اليوم لتكتسب زخماً جديداً في زمن الثورات العربية.

ما من حالة أخرى تُظهِّر هذه الأسئلة كما يظهّرها الفشل السياسي والأخلاقي لقطاعات واسعة من اليسار الممانع في حواضر الغرب، التي تأرجحت بين الدعم الوقح لنظام الأسد «الممانع» و«العلماني» وبين خذلان السوريين في كفاحهم من أجل التحرّر من نظام قتل جماعي.

تلك الشرائح الواسعة من يساريي المراكز، الممانعين والرافضين للنضال التحرّري السوري، كثيراً ما يغوص السجال بشأنهم في مسألة هل هم مدافعون عن الأسد أم لا. لست مهتماً هنا بتناول قناعات الأفراد وتحليل ما يدور عميقاً في قلوبهم، ما يهمني بالأحرى هو استقراء خطاب يساريي المراكز المتعلّق بسوريا، والمنطق الذي يملي عليهم حججهم، والأشياء التي يتحاشون ذكرها. لا أريد محو الفروقات بين من يكتب ومن يطبّل، لكني سأضعها مؤقتاً بين قوسين بهدف تشخيص حزمة أعمق من السمات المشتركة بين ممانعي المراكز، خصوصاً في الولايات المتحدة.

مكارثي على تويتر

كتب فريدريك ديبور مؤخراً مقالاً شجب فيه ما اعتبره محاكم تفتيش مكارثية، تلاحق كل من يرفض التدخل العسكري الأميركي في سوريا. أنهى ديبور مقاله بالقول: «الأسد وحش من نوع خاص؛ سوريا جحيم من نوع خاص. أتمنى أن يسقط نظام الأسد». لا داعي للشك في نية ديبور فيما يتعلق بالنظام، لكن من الإشكالي على أكثر من مستوى أن يستحضر المكارثية وزمن مطاردة الشيوعيين لتوصيف ما تعرّض له أمثال ماكس بلومنثال ورانيا خالق من تهجّمات شخصية وانتقادات وجّهها لهم مؤيّدو الثورة. هذا التوصيف يستدعي الخطاب اليميني والعنف الممنهج الذي كانت تمارسه الإدارة الأميركية ضد اليساريين أيام الحرب الباردة، ويسقطهما على انقسامات داخل اليسار تتعلق بسوريا، فيحيي ذكريات الاضطهاد والاستجوابات ويعيد اليساريين إلى موقع ضحايا الحملات المنظمة وسطوة القانون. لا شيء من ذلك يحدث اليوم، ليس اليساريون تحت أي مراقبة، ولا أحد يجبرهم اليوم على الاستقالة من أعمالهم أو على الوشاية بزملائهم. المكارثية التي يتحدث ديبور عن عودتها لها مواقع ومستويات وأدوات أخرى: مكارثي اليوم ينشط على وسائل التواصل الاجتماعي! هكذا يغضّ الكاتب النظر عن خصوصية هذه الوسائل، وعن انتشارها الأفقي، وعن سرعة تداول الكلام والصور عليها، وعن ممارسات أخرى تتيحها مثل التصيّد. من الصعب تخيل فجوة أعمق بين الكلمات والعالم في هذا الوصف المستجدّ للمكارثية.

استدعاء شبح المكارثية دعوة لإنهاء السجال السوري داخل اليسار: أنت لا تجادل مع المكارثية، أنت تقاتلها. الأسوأ من ذلك أن كل من يدعو للتضامن مع السوريين، في وجه القصف والقتل الأسدي والتحالف الدولي والإقليمي والتواطؤ الضمني الغربي، يتحوّل فجأة إلى مدّعٍ عام. التصدّي للمجزرة الأسدية في سوريا ليس أولوية على جدول أعمال اليسار، فهناك مكارثية عائدة في أميركا وقد أطلّ رأسها القبيح من جديد، هذه المرة على تويتر.

موضوعية موزونة

في دراستها الإثنوغرافية الرصينة خلفيات درامية: صناعة الخبر في الولايات المتحدة والسياسة في فلسطين (2012)، تصوغ آمال بشارة مفهوم الموضوعية الموزونة لفهم التقارير الصحافية التي تهدف للموازنة بين كل من الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني. تؤثر الموضوعية الموزونة في كيفية تحدّث الصحفيين عن عملهم، وفي أساليب كتابة النصوص وتأسيس المكاتب، بالإضافة إلى المبادئ الأخلاقية التي تحكم كتابة التقارير من موقع الحدث. ترى بشارة أن الموضوعية الموزونة ممارسة إشكالية، فهي أولاً تتغاضى عن تنوّع المواقف في كل من المعسكرين. وهي ثانياً تموّه الفضاء التواصلي بينهما، حيث تصوّر الفلسطيني والإسرائيلي كما لو أنهما في حوار، بينما الواقع أن أحدهما خاضع لاحتلال الثاني ووراء سياجه وتحت حصاره. ثالثاً، وهو الأهم، تطمس الموضوعية الموزونة الفرق في درجة ونوعية العنف المعاش بين الفلسطينيين والإسرائيليين خلال الانتفاضة الثانية.

تأتي نقاشات اليساريين حول سوريا لتمارس الشيء نفسه، الذي دأبوا على انتقاده في أجهزة الإعلام المهيمنة والليبرالية وتغطيتها للشأن الفلسطيني. على سبيل المثال، خلال ندوة عن سوريا واليسار نظمتها مجلة مفتاح ودار فيرسو، أشار ماكس بلومنثال إلى أن هدف التركيز على أزمة حلب الشرقية هو «حماية السردية التي تشطب حلب الغربية»، بينما قال زميله في الندوة زين الأمين إن الكلام المستمر عن حظر جوي، رغم أنه مستبعد، «هو ما يدفع الطرفين إلى التشدّد وإلى تصعيد المجزرة بحق الشعب السوري». الشكل الثاني من الموضوعية الموزونة ليس الموازنة بين الطرفين، بل شطبهما معاً، حيث يشار إلى النضال التحرّري السوري بمفردات بسيطة مثل «الحرب» و«المأساة السورية» و«الأزمة السورية»، وكأن كارثة طبيعية هي التي دمّرت سوريا. في كلا الحالتين هناك طمس للفرق في درجة ونوعية العنف المعاش بين الطرفين، حيث يمتدّ عنف النظام من الضربات الجوية وتدمير مدن بأكملها إلى العنف البيروقراطي الخفي وتهميش المعارضين عبر حرمانهم من الأوراق الرسمية وتجديد جوازات السفر.

حرف الحديث

حرف الحديث حيلة أخرى شائعة جداً يستعملها يساريو المراكز لنقل السجال إلى مكان آخر، إما خارج سوريا تماماً أو بعيداً عن وحشية النظام. خلال الندوة المذكورة نفسها، حاول زين الأمين أكثر من مرة أن يقود النقاش نحو الوضع في اليمن. وبينما تتحطّم حلب، كتب روبرت فيسك مقالة عن زيارته لمتحف بيرغامون في برلين، حيث أخذته تأمّلاته إزاء «مأساة حلب» إلى السؤال عما إذا كان «علينا نحن الغربيين حماية الآثار العالمية». وجد فيسك في هذه المأساة التي لا مسؤول عنها فرصة للتأمل حول ما إذا كان الغرب لصاً مستعمراً أم منقذاً للتراث البشري.

يبقى أكثر أشكال الحرف انتشاراً تحوير النقاش من العنف الفعلي المنفلت العقال، والذي يرتكبه نظام الأسد بحق مواطنيه، إلى تدخل غربي وأميركي افتراضي مثل الحظر الجوي.

انبعاث مناهضي الحرب

حركة مناهضة الغزو الأميركي للعراق هي المثال النموذجي لرفض مثل هذا التدخل الافتراضي. من شأن مقارنة بسيطة أن توضح عدم صلاحية المقارنة بين الحالة السورية والعراق في 2003. فضلاً عن تمتّع النظام بحلفاء دوليين وإقليميين، وفضلاً عن التدخل التركي، «عدم تدخّل دول الغرب في سوريا خرافة»، كما قال ياسين الحاج صالح مؤخراً: «في الواقع تدخّل بشكل دقيق جداً، وبهدف منع نظام الأسد من السقوط إنما مع ضمان تدمير البلاد. الولايات المتحدة ضغطت على تركيا ودول أخرى في وقت مبكر جداً لمنعهم من تقديم الدعم الحاسم للمعارضة السورية».

عام 2003 كانت الولايات المتحدة تحشد قواتها، بناءً على دعاوى ملفّقة زائفة، لغزو دولة ذات سيادة يحكمها طاغية، وقد نشأ حراك عالمي لمناهضة الحرب ومعارضة تدمير العراق، لكن دون أن يضطر للوقوف إلى جانب النظام العراقي. بالمقابل، في موجة الانتفاضات العربية عام 2011، نشأ في سوريا حراك أصيل وجذري من أجل التحرّر من سلطة ووحشية أحد أنظمة ما بعد الاستعمار. أتت الثورة السورية لتنقل الممارسة السياسية من المركز الإمبريالي ومعارضته المقيمة في الغرب إلى حراك تحرّري في سوريا نفسها، ولتعيد بذلك طرح سؤال التضامن الأممي.

بغض النظر عن تورّط الثورة في أجندات جيوسياسية متضاربة، إلا أن القوالب اليسارية التي وضعت فيها، أي رؤيتها من منظور التدخل الغربي المحتمل، كانت عودة إلى اعتبار السياسة شأناً من شؤون المراكز الإمبريالية. هذه القولبة اليسارية ترى السياسة فقط كفعل تقوم به الإمبراطورية أو يقوم به من له علاقة بها، وهي بالتالي تلغي محاولات الشعب السوري لخلق تاريخه الخاص، وتنصّب الغرب مجدداً على أنه الفاعل والوكيل الحصري لصناعة التاريخ.

من الحجج التي يضيفها اليساريون أيضاً أنه ما من فاعل ثوري في سوريا كي نتضامن معه، فتقريباً كل معارضي الأسد إما «ثوار جهاديون» أو «سنّة طائفيون». هذا لا يشطب فقط تنوّع الفاعلين غير الدينيين ضمن الثورة السورية، بل أيضاً يموّه التمايزات بين مختلف الفاعلين الثوريين الذين ينهلون من اللغة الدينية لصياغة رؤاهم السياسية. يستعمل هؤلاء النقاد التصنيفات نفسها التي يستعملها النظام السوري ومستشارو الحكومات الإمبريالية، ويبثّون لغة إسلاموفوبية هي اليوم إحدى أهم أدوات الحركات الشعبوية اليمينية العنصرية التي تكتسح أميركا وأوروبا.

في الصيف الماضي تم تدشين «تحالف ارفعوا أيديكم عن سوريا»، وتمت صياغة بيان «نقاط وحدة» الذي اتفقت عليه المجموعة المنشأة. حسب موقع التحالف، «وقّعت 250 منظمة و500 ناشط سلام وحوالي 1500 فرد عبر العالم على بيان ’نقاط الوحدة‘ الذي صاغه التحالف». بين الموقّعين أحزاب شيوعية من مختلف أنحاء العالم، جمعيات أميركية مناهضة للحرب، فروع لمنظمة «محاربون قدماء من أجل السلام»، نقابات معادية للإمبريالية، إلخ. النقطة الأولى من البيان تنّص على أن «استمرار الحرب في سوريا هو نتيجة مكيدة أميركية لتدخّل تقوده الولايات المتحدة والناتو وحلفاؤهم الإقليميون والقوى الرجعية بهدف تغيير النظام في سوريا». هكذا يتم تبنّي سردية النظام في تفسير انتفاضة الشعب السوري كحرب دبّرها الأميركيون وحلفاؤهم. استبدال الفاعل السياسي الأساسي بالإمبراطورية الأميركية نقلة مباشرة نحو الأفق المرغوب للمعركة: لا يعود هناك ثورة ضد نظام قاتل، بل مجرد قوى خارجية تريد تغيير النظام وانتهاك القانون الدولي وإعلان حقوق الإنسان وحق «الشعب السوري في الاستقلال والسيادة الوطنية وتقرير المصير» (النقطة الخامسة). يتّضح من هاتين النقطتين أن النسخة السورية من حملة «مناهضة الحرب» تبنّت خطاب الأسد بالجملة، رغم أنها تنصّ على أنها «غير معنيّة بأي تأييد أو معارضة» له (النقطة السابعة).

انفصال

منذ تلاشي التضامن الأممي في العالم الثالث، إثر الكسوف الذي حل في سياسات اليسار ثم صعود الصحوة الإسلامية في السبعينات والثمانينات، انشغل يسار المراكز بالتصدّي للتدخّل الإمبريالي، حتى في غياب أي حلفاء سياسيين له في المنطقة. وجد هذا اليسار نفسه على توتّر مع يساريين سابقين، ومع جيل جديد من ناشطي العالم العربي الذين اتكأوا على لغة حقوقية ليبرالية لكفاحهم ضد القمع المتواصل في بلادهم. لكن يساريي المراكز يرون في حقوق الإنسان حصان طروادة تحرّكه الإمبريالية، وهو يسعى لتقويض سيادة الأنظمة المعادية لأميركا، جنباً إلى جنب مع العقوبات الاقتصادية والتدخلات العسكرية. من جهتهم استنكر الناشطون على الأرض تغاضي حلفائهم اليساريين المفترضين عن عنف هذه الأنظمة، وتبنّيهم لخطاب يوازي خطاب النظام القومي الممانع.

الانتفاضات العربية كسرت النهاية المسدودة بين الناشطين الحقوقيين الليبراليين في الأطراف والممانعين اليساريين في المراكز، وأعادت إحياء السياسة كفعل شعبي من الأسفل –رغم وجود انقسامات وانتماءات إثنية وطائفية وجهوية– في مواجهة الأنظمة. كما لم تضع هذه الانتفاضات الموقف من إمبريالية الغرب في أساس تفكيرها وتموضعها السياسي. هذا ما يجعلها تختلف عن حركات التحرر الوطني المعادية للاستعمار، وعن الأنظمة السلطوية التي أتت بعد الاستعمار وادّعت حماية سيادة الأمة من العدوان الإمبريالي.

لم يشعر اليسار بأي وخزة ضمير وهو يمجّد الثورات ضد الأنظمة المدعومة أميركياً، في تونس ومصر والبحرين، ثم حين وصلت الموجة إلى سوريا تبخّر، ثم أصابه العمى عن محنة السوريين والصّمَم عن أصوات معاناتهم. أظهرت سوريا الحاجة لطلاق آخر، يشبه طلاق سيزير الأسبق بين سياسة اليسار في المراكز والكفاح التحرّري في الأطراف: هذه المرة ليس ضد هيمنة الكفاح الطبقي على الكفاح ضد الاستعمار، بل ضد هيمنة الاعتبارات الجيوسياسية على الكفاح ضد سلطوية أنظمة ما بعد الاستعمار.

الطائفة الأنتي-إمبريالية

يعلن هذا الطلاق الفشل الأخلاقي والسياسي ليساريي المراكز، المعلّقين غريزياً بأوهام عازلة لا يخدشها العالم الخارجي. في العالم الحقيقي يدّمر الطيران الروسي حلب المحاصرة، وفي عالم الأوهام يقود الناتو حملة أميركية لـ «تغيير النظام» في سوريا. بعض تنويعات اليسار الأميركي الممانع تقترب بخطى ثابتة من تلك الطوائف المتديّنة، التي تنسج واقعها الخاص الطافح بالخوف من لوثة أخلاقية. يقلّب هؤلاء الهويات لافتداء البشرية من الآثام الإمبريالية التي ارتكبتها باسمهم الولايات المتحدة في هذا العالم، ومن باب التطهّر الشعائري، يعلنون عن عقيدة تسعى لأقصى درجات المعارضة والابتعاد عن تلك الإمبريالية. هذه سياسة مبنية على أركان الإيمان وعلى عضوية في الطائفة الناجية، وليست استجابة للأحداث والمراحل السياسية المفصلية لصياغة مواقف مناسبة لها، وهو ما يبدو جلياً في انبعاث شعارات مناهضة حرب العراق في هذه الأيام.

لكن ما إن يتعلق النقاش بسوريا حتى تبدأ الأشباح الإمبريالية بالالتصاق بممانعي المراكز هؤلاء، متغلغلةً في محاججتهم ومنطقهم وحساسيتهم: كلا الفريقين، الإمبريالي والأنتي-إمبريالي– عاجزٌ عن تخيل فعل سياسي غير تابع للإمبراطورية أو غير معرّف بعلاقته بها؛ وكلاهما ينهل من المفاهيم الإسلاموفوبية نفسها، فيميّز بين مسلمين طيّبين ومسلمين سيّئين؛ كلاهما مقتنع أنه يعرف أكثر من الناس على الأرض، خصوصاً حين يتحدّى هؤلاء سياسته الإمبريالية/الأنتي-إمبريالية؛ وكلاهما ذو سياسة مشبعة بالأخلاقوية، ممسوسة بروح صليبية تسعى لاستئصال الشرّ من العالم (أميركا ماحقة الشرور / أميركا مصدر الشرور)؛ أما على مستوى الحساسيات فكلاهما يزهو إعجاباً بنفسه وطمأنةً لذاته بأنه في الجانب الصحيح من التاريخ.

صرّح الأسد مؤخراً أن بإمكان دونالد ترامب أن يكون «حليفاً طبيعياً». لعلّ أولئك اليساريين، الذين أغلقوا باب التضامن مع كفاح السوريين التحرّري، وطردوا الثوّار من دائرة السياسة ورموهم جميعاً في خانة «الجهاديين» و«الطائفيين»، ينهلون من العدّة المفاهيمية نفسها التي ينهل منها من يقترح «قاعدة بيانات للمسلمين» في بلادهم.

أعود إلى سيزير لأختم هذا المقال باقتباسٍ آخر منه: «ما أريده أنا هو وضع الماركسية والشيوعية في خدمة الشعوب السوداء، وليس وضع الشعوب السوداء في خدمة الماركسية والشيوعية؛ ما أريده مذهبٌ وحركةٌ يتشكّلان بما يناسب الناس، لا إعادة تشكيل الناس بما يناسب المذهب أو الحركة».