في ثغرات الذاكرة يُفسَحُ مجال جديد للموت، أو لحياة جديدة. وفي سلسلة الدوالّ التي ترسم حدود وجودنا النفسي أماكنُ فارغة، انتزعت مكانها ذكرى أو رصاصة أو صوت طفل يبكي، أو ربما ابتسامة.
المقصود هنا هو حضور اللاوعي الكثيف في إدراكنا للواقع حتى بأدق تفاصيله، وإذا كان ذلك الحضور لا يبدو واضحاً إلا في أوقات محددة وأحداث مفصلية، إلا أن الإدراك يتم أساساً عبر سلسلة من الفلاتر التي تُمرِّرُ بعض المدركات وتحذفُ أخرى.
صحيح أن الذّاكرة تخزّن وفق تسلسل ذي منطقٍ ما، إلا أن ذلك التسلسل مليءٌ دائماً بالفراغات، فراغات يتم ملؤها بأحلام وترميزات وتفسيرات تلائمُ الواقع لحظة تخرين الذكرى، أو تخالفه تماماً. في جميع الأحوال، تلك الفراغات هي مساهمتنا اللاواعية في رواية الواقع، والذكرياتُ بصياغاتها الجديدة هي بمجموعها نسختنا عن ذلك الواقع.
وإن كنت أجادلً هنا إذاً أنَّ لا ذكرى كاملة، فإني أذهب أيضاً إلى القول إن لا نسيان كاملٌ أيضاً. فالنسيان ليس انفعالاً سلبياً، ليس فشلاً أو خللاً في الذاكرة، بل هو فعلٌ أيضاً، وجهٌ آخر لعمل الذاكرة. الدوالّ التي لا تخزن في السلسلة لا تسقُط سهوا، بل تُحذَفُ ضمن إطار نفسي له محدداته ونحوه الخاص، المُحدَّدُ في اللاوعي.
وبناءً عليه، لا يمكن الحديث عن الذاكرة بمعزل عن البنية النفسية السابقة للحدث، بل والمعاصرة له. كل ذكرى هي وليدة تفاعل جذري بين الحدث/الواقع، والبنية. وهكذا فإن الحرب لا تؤدي إلى قتل البشر وتخريب الأبنية فحسب، بل إن نتائجها تتجاوز ذلك إلى إعادة صياغة الأثر والذاكرة. والحروب هي نقاط علام في الذاكرة الجمعية لشعب أو حضارة ما، تماماً كما هي نقطة تحول ثقافي أو سياسي في المنطقة التي تنشب بها، فهي تحمل طابعاً تكوينياً نفسياً في حياة الشعوب والأفراد.
عندما غادرتُ حلب، اعتقدتُ أن ما عشتُه فيها خلال ما يتجاوز العشرين عاماً سيبقى فيَّ ما حييت، اعتقدتُ أيضاً أني لن أنسى يوماً حجارة القلعة وزفت الشوارع وبعض أشجار الحدائق ووجوه الجيران.
لقد كنتُ على حق، لم أنسَ فعلاً كل هذا، لقد بقيت ذكرياتٌ كثيرةٌ لم أنسها، ولا أعتقدُ اليوم أني سأنساها أبداً.
في مكانٍ ما اليوم في داخلي سلسلةٌ من الذكريات اقترنت بعناصر جديدة، صور الحرب والشهداء والقهر والذل والبرد الطيني، الفقير المحاصر الذي يخفي بكاءه وراء كبرياء لم يعد يأبه للموت. الوجوه والشوارع والحجارة لا تزال هنا، لكنها لم تعد هي نفسها.
إن معايشتي فصول الثورة السورية، وخصوصاً في حلب، خلال السنوات الماضية، شكَّلت بالنسبة لي سياقاً جديداً مختلفاً تماماً عن كل ما عرفته وأحسسته فيما يخص مدينتي حلب خلال فترة وجودي فيها. لقد شكَّلَت الدوالّ الجديدة التي صاغتها الثورة السورية بكل انتصاراتها وهزائمها وأفراحها وفجائعها حقلاً دلالياً جديداً، أعاد صياغة تفاصيل صغيرة جداً أحياناً، في ذاكرتي. ليس فقط بسبب عمق التغيير الذي أصاب المدينة، وإنما بسبب ما حركته تلك التغيرات من آلام وأحزان وذنوب وأشواق وحسرات، كانت بالنسبة لي حصتي، أو لنقل تدوينتي عن الثورة وعن حلب.
ولكن أليس قَدَرُ الذكريات كلها، أن تتغير، وألا تبقى على حالها؟ أجل، هذا صحيح، لكن ما تفعله الحرب هو حرمانك من قدرتك على رسم صيغة متجددة لذكرياتك تتغير وتتطور بتغيرك وتطورك ودلالاتك التي تنمو على طرف السلسلة، لتضفي لوناً وأسلوباً جديداً كلّ مرة.
يبدو لي أن الدالّ الرئيسي الذي يسدّ ذلك التدفق السلس، هو الموت/الخراب/الدمار/الفناء/العدم.
يأسرنا الموت الذي يسيل بدوره سلساً كالماء نحو حُفَر الذاكرة، يشفط المدلولات الأخرى كثقب أسود، ويتركنا معلَّقين هناك، حيث يصبح كل همّنا حماية أنفسنا من ذاكرةٍ «مرضية».
التذكّر، أو إحضار الذكرى إلى ساحة الوعي، محكومٌ بالكبت، ودافعه عند مرضى الصّدمة ليس هو الألم فحسب؛ بل أساساً الانفتاح القسري على اللامعنى، الذي يجبرنا عليه الموت.
خلال عملي كطبيبٍ نفسي تسنى لي رؤيةُ العديد من ضحايا الحرب والهاربين منها، الذين يتعاملون كلّ يومٍ مع ثقل هائل من الذكريات، يحاولون بكل طاقتهم الابتعاد عنها، وتحجيم مساهمتها في الحياة اليومية. رأيتهم مرهقين، متأهبين، متوقعين للمصيبة، فهم ببساطة لا يريدون أن يتذكروا ما عاشوه وما شاهدوه. ورغم أن تلك الذكريات ودونَ مقدماتٍ محسوسة، تقفز إلى ساحة الوعي على شكل شريطِ صورٍ قصير المدة، أو على شكل كوابيسَ متكررة تعيد إحياء إحدى لقطات المشهد الصدمي، إلا أنّ ذلك لا يجعلهم يكفون عن محاولة النسيان مراراً ومراراً.
في مكاني البعيد، في ألمانيا، حيث تصغر الصورة وتكبر في آن معاً، كنتُ أراقب بين الحين والآخر تغيرات مسّت مفاهيم أساسية في تكوين كل شخص، كالعدالة والحب والهم الإنساني المشترك، بل والعلاقة بالأهل والإخوة والأصدقاء.
الغربة في هذا الخصوص مكانٌ بعيدٌ ومختلف، يحميك من صورٍ و«ذواكرَ» مشابهة لتلك التي حملتها معك من الوطن، لكنه بالمقابل، يتركك لنفسك وذكرياتك وصراعات هويتك، ويجعلك مرغماً تبحث عن إجابة في الداخل حول ما حصل وحول ما أنت عليه بعد حصوله، وهذا وجهٌ آخر من الأسر والاغتراب.
لا تموت الذاكرة ولا يصيبُ النسيانُ الكامل، إلا نادراً، مساحاتٍ هامة من حياتنا، لكن الموت، وإلى حد كبير الألم، يمنعنا من التذكر ويحرمنا من صياغة حكايتنا عن الماضي. ولا أدعي هنا نهاية لتاريخ ما، ولا موتاً للذاكرة. بل ستبقى الرغبة تحرك حيواتنا يوماً بعد يوم، وأملاً بعد يأس.
إلا أن اللامعنى الذي تكثّفَ ويتكثّفُ اليوم أيضاً في تلك البقعة من الأرض ومن الذاكرة، ذاك الشقاء البارد الجاف الذي رافق احتمال ولادة «معنى» على امتداد مراحل مختلفة من الثورة، في بلد منكوب منذ عقود، يفتح الباب أمام التجارب الصدمية المبكرة، التي لا تخلو منها أي بيوغرافيا نفسية لأي شخص.
كان على أحد اللاجئين السوريين في ألمانيا، الذين يعانون من اضطراب الصدمة، أن يعيد التصالح مع ذكريات طفولية مؤلمة لأبيه وهو يعنّف أمه ويضربها، بعد أن ضُرِبَ بشكلٍ وحشيٍ في أحد الفروع الأمنية. وكان لا بد لإحداهن أن تواجه ذنبها تجاه والدها المتوفي منذ وقت طويل، بعد رؤيتها لجثة رجل عجوز مرمية على طرف الطريق.
لاجئٌ آخر يعاني من كوابيس تتجسد فيها أخته، التي ماتت طفلة إثر مرض لم يُشخّص وقتها حين كان عمره لم يتجاوز عشرة أعوام بعد. تلك أمثلة على أعباء الذاكرة التي تساهم في عرقلة تطور هؤلاء الأشخاص، وخصوصاً إذا ما نظرنا إلى كمية ونوع العمل الذي من المفترض علينا كسوريين القيام به في قادم الأيام، في بلد مدمر كثير المشاكل ومجهول المستقبل.
تلك الأمثلة وغيرها تقدم دليلاً مهماً على أن العلاقة مع الذاكرة، وخصوصاً بالنسبة لنا كسوريين، علاقة معقدة ثنائية الجانب، لا يمكن تحييد جوانبها المؤلمة بالابتعاد عنها والنأي بالنفس عن تأثيراتها، وتبني، كما يحاول كثيرون، «هويةً جديدةً» في بلاد اللجوء، تضع حداً، مرة واحدة وإلى الأبد، لماضٍ محمل ٍّ بـ«ذواكر» مؤلمة.
لقد بتُّ اليوم أكثر تأكداً وإصراراً على أن حلب ستبقى جزءً بالغ الأهمية في تكويني، ولن يكون من مصلحة استقراري أن أحاول نسيانها، لكنني صرت اليوم أيضاً أكثر إدراكاً أن حلب المدمرة والمجزأة، حلب شوارع الموت والخراب، أسَرَت وستأسرُ ذاكرتي إلى أجل لا أعرفه.