في مكانٍ ما، جثثٌ مبعثرةٌ في طريق يبدو مدمراً كلياً، الدماء تحيط بأكياس برتقالية تحضن أجساداً ساكنة. ترى الأبنية المحطمة وقد ألقت بأجزاء منها بشكل فوضوي مبعثر داخل الكادر، بينما أبقت على سكانها تماماً تحت أنقاضها الصامتة.
حلب/الجزيرة نت: «قصفت قوات النظام جموعاً من المدنيين الفارين من أحياء حلب الشرقية، ما أدى إلى مقتل 45 شخصاً على الأقل، وأكدت شهادات ميدانية انتشار الجثث بالشوارع …».
إنها مجرد صورة، تحوي أمراً ما، حدثاً جديداً، يحمل آنيةً مفرطة، لكن انظر جيداً إلى الصورة، إنها تشبه حدثاً شاهدناه سابقاً، مراراً وتكراراً.
الغوطة الشرقية/العربية نت: «ارتفع عدد قتلى مجزرة دير العصافير بالغوطة الشرقية في دمشق، التي ارتكبها طيران الأسد إلى 32 مدنياً، غالبيتهم من الأطفال، وذلك بعد أن شنّ الطيران الحربي أكثر من 10 غارات جوية استهدفت مدرستين للأطفال ومستشفى في دير العصافير قرب دمشق».
يتعرض المشاهد في يومنا هذا إلى صور كثيفة لأحداث ضخمة ودموية، يتلقى من خلالها صدمات نفسية متتالية، واحدة تلو الأخرى، في مسافة زمنية حميمة للغاية. من الممكن أن يُشعِره ذلك بالخَدَر، أو بما يشبهه. الخَدَر بعد تعرض منطقة ما في الجسد للضربة الخامسة، الصفعة الخامسة، الغرزة الخامسة. هذا الشعور الناتج عن تكرار الضربات قد يكون مجرّد آلية دفاعية يبنيها اللاوعي لحماية نفسه، في عالم مليء بالعنف لا يملك سبيلاً للسيطرة عليه أو على مصيره فيه. إنّه سلاح المجابهة الأخير.
فتحت مها عيناً واحدةً فقط، نظرَت نحو الشباك المجاور لسريرها، الليل ما زال يخيّم على المكان. رفعَت رأسها بتثاقلٍ شديد لتلقي نظرة على الساعة المعلقة على حائط غرفتها. إنها الثامنة صباحاً، تحركت من مكانها بهدوء، ارتدت ملابسها وخرجت في الظلام نحو عملها في المدينة التي انتقلت للإقامة فيها العام الماضي، بعد رحلة شاقة، حلب ثم تركيا، ثم بحراً وبراً إلى أن وصلت إلى السويد.
في الطريق، خارت قوى جسدها كلياً، كادت أن تسقط، جلست على حافة الطريق، وضعت يدها على قلبها، دقاته متسارعة بشكل مخيف. شعرت بالقلق، التنفس بات أمراً مستحيلاً، خلال ثوانٍ قليلة، سقطَت أرضاً.
تعمل الفتاة العشرينية في إحدى المنظمات المعنية بالشأن السوري، ومهمتها الأساسية هي توثيق الصور ومقاطع الفيديو المتعلقة بالأحداث الجارية في بلدها. تقضي أكثر من ثماني ساعاتٍ يومياً تتابع، تشاهد، وتوثق المجازر، القتلى والجرحى.. تضع كل شيء في خانات محددة، بالأسماء، التواريخ والأمكنة. حركة المشاهدة والتوثيق عملية روتينية بالنسبة إليها: «إنه مجرد عمل روتيني، لا أشعر بشيء، لقد اعتدتُ على المشاهدة…»، أو هكذا تقول.
الروتين صمام الأمان كما أسمته مها. تخرج من المكتب، تلتقي بعض الأصدقاء من جنسيات مختلفة، يتحدثون عن أمور حياتية بسيطة، وتتوجه بعد ذلك إلى منزلها في أحد الأحياء الهادئة، تشاهد فيلماً وتنام. طوال 360 يوماً لم تغيّر روتينها اليومي، إلى أن جاءت تلك اللحظة التي سقطت فيها أرضاً.
من الممكن أن نقول إن أساس نوبة الهلع هو قلق مها. إنه تصادم اللاوعي بالوعي، الوعي المتمثل برغبتها في النسيان، التأقلم والاستمرار، واللاوعي المحمّل بصدماتها السابقة والحالية. يبدو أن نوبات الهلع وليدة الإحساس بعدم الأمان، فقدان السيطرة الكلي، تجاهل الضعف وافتعال الإحساس بالقوة. هي رسالة الإنذار المباشرة والواضحة من الجسد بأنه لم يعد قادراً على ارتكاب فعل التجاهل.
في الحروب تكثر أمراض جسدية مختلفة، يرجع سببها إلى التداعيات النفسية ومحاولات التعامل مع النفس بقسوة صارمة. لربما كان الإحساسُ بالعجز واللاجدوى أمام مصير مهدد دوماً، وانعدامُ مشاعر الأمان تجاه سلطة الكوكب، الدافعَ نحو العدوانية تجاه الذات.
صباحاً، بيروت، استيقظتُ السابعة صباحاً. الاستيقاظ المبكر، تلك العادة الجديدة التي التصقت بي منذ بلوغي الحادية والثلاثين. شددتُ اللحاف نحو وجهي، لففتُه حولي بشكلٍ محكم، أشعر بنعاس عارم وإرهاق لا أعرف مصدره، لكن المحرك، أي دماغي، بدأ العمل بشكل فوضوي، مطالباً إياي بالنهوض. تجاهلتُه، تجاهلتُه مرة أخرى، استسلمتُ له. نهضتُ من السرير، قمتُ بالعملية اليومية البشرية في الحمام، ثم توجهتُ نحو المطبخ، أعددتُ قهوتي، أدرتُ جهازي الشخصي، وبحركة اعتيادية مكررة ككل شيء، فتحت عدة صفحات لمواقع إخبارية، إلى أن توقفت عند هذا الخبر.
نشر موقع العربية نت على صفحته خبراً جاء فيه: «أعلن وزير الخارجية الفرنسي، جان مارك إيرولت، الأربعاء، أن بلاده ستضغط لإصدار قرار دولي من الأمم المتحدة لفرض عقوبات على نظام الأسد لاستخدامه أسلحة كيماوية». انتابتني الحيرة عند قراءة الخبر، للحظةٍ ظننتُ أني دخلتُ إلى أرشيف الموقع دون أن أنتبه، لكني قرأتُه مجدداً، وتأكدتُ من التاريخ. إنه خبرٌ جديد، تصريحٌ مكرر، لحدثٍ مكرر.
في عام 2013 ارتكبَ النظام السوري مجزرة في غوطة دمشق، مستخدماً فيها الأسلحة الكيماوية. كانت ردود الفعل العربية والدولية غاضبة، صارمةً وحادّة.
باريس/CNN: «قال الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، الثلاثاء، إن مجزرة الكيماوي التي وقعت في سوريا الأسبوع الماضي، لن تمرَّ دون رد، وذلك في الوقت الذي تزداد فيه حدة التوترات بين الغرب وسوريا حول استخدام السلاح الكيماوي ضد المدنيين».
بعد دقائق، وقفت، مشيتُ في المنزل، ذهاباً وإياباً، تحدثتُ مع نفسي بصوت عالٍ جداً، في محاولة لاسترجاع ردة فعلي الأولى، شعوري الأول تجاه الخبر. ردة فعلي الأولى كانت التأكد من تاريخ الحدث، الاستهزاء من تكرار رد الفعل عليه من قبل وزير الخارجية الفرنسي. تأكدتُ من مقتل وإصابة مدنيين جراء استخدام النظام للأسلحة الكيماوية، الشعور الأول حزن وغضب طفيفان من العالم الذي لم يحرك ساكناً حتى اللحظة، وبعد كل هذه السنوات، لإيقاف كل المجازر المرتكبة بحق المدنيين في سوريا.
ردة فعلي الثانية، أجريتُ اتصالاً هاتفياً لمتابعة أمرٍ حياتيٍّ ما، ثم أكملتُ عملي الذي كنت قد اقتربت من إتمامه أمس.
توقفتُ عن الحركة، طلبتُ من دماغي تفسير ذلك بشكل علمي بحت، قائم على الإصابة بمرض عضوي، دون التطرق إلى نظرية الاعتياد والتكرار وإلخ، أنا لا أريد أن أتعود. فقام ببناء نظرية لا أدري مدى منطقيتها، قال إن «ذاكرتي تحمل الكثير من الأحداث والصور المتعلقة بالحرب في سوريا، كما المشاعر والأحاسيس المرتبطة بها، لذلك فإنّ ما حدث في الثواني الأولى لتعرضكِ للخبر الجديد، هو استرجاعُ ذاكرتكِ صورةَ مجزرة الكيماوي في 2013، مرفقةً إياها بالمشاعر التي أحسستها حينها، إنه الوقت…». لم أفهم مقصده، حاولت مقاطعته لكنه تجاهلني متابعاً: «الفترة الزمنية التي مرت منذ عملية التعرض الأولى، التخزين والاسترجاع الأخير، لم تلغِ الغضب والحزن تجاه الحدث الجديد، لكنهما غضب وحزن مستهلكان، تم استرجاعهما أثناء استحضار ذاكرتك للحدث السابق، وما ساعد في ذلك شدة التشابه بينهما، هذا كل ما في الأمر».
إنّه الوقت إذاً. هل أصدّقه أم أصدّق مها التي سقطت أرضاً، أم أصدّق الصور المستمرّة بالتدفّق من حلب؟
العربية نت: «النظام يسيطر على ثلث المناطق الخاضعة للمعارضة في حلب…»
الجزيرة نت: «حلب اليوم… جثث مرمية وجرحى ينزفون ومعسكرات اعتقال…»
CNN: «الأمم المتحدة تحذر من تحول حلب إلى ’مقبرة عملاقة’.»
على الرغم من أن مجازر النظام السوري تجاه المدنيين حدثٌ لم يتوقف منذ بداية الثورة السورية، أحداثٌ وصورٌ مستمرة مكررة، إلا أن مشاعر الغضب والحزن والاستنكار تجاه ما يحدث في حلب اليوم تسود كل وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.
في مكانٍ ما، جثثٌ مبعثرةٌ في طريق يبدو أنه مدمر كلياً، الدماء تحيط بأكياس برتقالية تحضن أجساداً ساكنة، ترى الأبنية المحطمة وقد ألقت بأجزاء منها بشكل فوضوي مبعثر، بينما أبقت على سكانها تماماً تحت أنقاضها الصامتة. لكن في هذه الصورة، وفي منتصف الكادر، جسد امرأة، لا نرى منها سوى السواد. إحدى قدميها مرفوعة، هل تمشي نحونا مباشرةً أم أنها تسير إلى الأمام بعيداً عنا؟
قريباً سوف تخرج هي من الكادر، وسوف نختفي نحن تماماً.