يعلو هدير المروحيات في هذا الصباح، كما في أكثر الصباحات هنا في مدينة طرطوس. ينتظرُ الجالسون الكهرباءَ في الورشة الصغيرة، يدعو الأول للطيران بالنصر وانتهاء «الأزمة»، ليضحك الثاني من صديقه الغبي الذي لا يتعلم ولا يملّ، منتظراً من الثالث أن يدعو للطائرات بالظفر على «الإرهابيين والمسلحين» كعادته. لكن الثالث يهزُّ رأسه مطأطئاً: «يلا… متل العادة بيروحوا ع أساس عم يقاتلوا إرهابيين… والمسا منشوف أطفال مقتولة عالتلفزيون».
في ظل دهشتنا مما سمعناه، يروي الأخير، وهو مخبرٌ لإحدى الجهات الأمنية، كيف تمّ إذلاله وضربه على أحد الحواجز دونما أي سبب، لينهي حديثه بشتم البلد والنظام والرئيس!!
إعلان التدخل الروسي
«بدأ سلاح الجو الروسي بتوجيه ضربات جوية في الأراضي السورية بتاريخ 30 سبتمبر 2015، وهذا بعد أن طلب الرئيس السوري بشار الأسد دعماً عسكرياً من موسكو ووافق مجلس الاتحاد الروسي على تفويض الرئيس فلاديمير بوتين استخدام القوات المسلحة الروسية خارج البلاد».
هذا ما جاء في موقع ويكيبيديا في تأريخ بداية التدخل الروسي، لكن الوقائع غير ذلك، لأن التدخل الروسي بدأ منذ أن دعم الاتحاد السوفيتي نظام حافظ الأسد. ولسنا هنا في معرض تقصي قديمٍ معروفِ البداية، لكن من المهم أن نفتح البال على الألفة التاريخية بين الشعب السوري والوجود الروسي؛ والأسلحة الروسية أيضاً.
غالبية السوريين تدربوا في سنوات الحروب وخدمة العلم أو التطوع في الجيش على الأسلحة الروسية، ولعل هذه الألفة جعلت البدايات أقل حيطة. غير أن التدخل الروسي الأكثر تأثيراً بدأ منذ أعلن نظام بشار الأسد معركته الدموية ضد الثائرين عليه، الذين لم يكن أمامهم إلا أن يدافعوا عن أنفسهم.
أما التدخل الروسي المباشر فقد جاء بعد تقهقر جيش الأسد والمليشيات الداعمة له، أمام توسع نطاق المناطق الخارجة عن سيطرته. ومنذ إعلان القوات الروسية الدخول في معركة النظام، استغل الأخير هذا ليرفع من معنويات أنصاره التي كانت تتأرجح عكسَ أهوائه، نتيجة للخسارات البشرية والمادية اليومية على جبهات المعارك.
بدأت الأجهزة الأمنية بترويج أخبار عن نتائج حتمية وتغيير فوري ونهايات للأزمة وما شابه، كما دعت الفارين من جنودها إلى الالتحاق، ووعدتهم بتسوية أوضاعهم، التي ستكون مرافقةً لتسوية أوضاع البلاد كلها بعد التدخل الروسي.
كذلك أعلنت عن عودة فورية لقيمة الليرة السورية وهبوط تدريجي سريع لسعر صرف الدولار، الذي سيغير شكل المعركة وينهي «الخطر المحدق»، فالترويج لعودة قيمة الليرة أمرٌ بالغ الأهمية أمام غلاء الأسعار الذي يرهق أنصار النظام، والذي يأكل مأكله في مجتمعه. ويعدُّ الجانب الاقتصادي من أهم أدوات النظام في إغراء أنصاره بالالتحاق إما بالجيش أو بالمجموعات التي تظهر كل حين لضم الفارين منه. وغالباً ما تكون رواتب هذه المجموعات عالية لجذب غير الفارين أيضاً، وهي عموماً تكون بدعم مباشرٍ من إيران.
روجت الأجهزة أيضاً لسيطرة كاملة على طريق حلب الذي يعد ميزان قوة الأطراف، ما عزز من معنويات أنصار النظام، ودفع الغالبية للالتحاق بالقتال. ومن الملفت بشكلٍ جدي أن بعض الوقائع جرت معاكسة تماماً لما روّجه النظام الأسدي بين أنصاره، فمنذ دخول الطيران الروسي معادلة المعركة، ارتفع سعر صرف الدولار أمام الليرة، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار بشكل كبير ومباشر، كذلك أُغلِقَ طريق حلب وخرج عن سيطرة النظام لمدة أسبوعين في تلك الفترة.
,
أثر التحليق اليومي المنخفض للمروحيات الروسية
منذ إعلان روسيا دخولها المعركة العسكرية، وطائراتُها تحلّق بشكلٍ شبه يومي على ارتفاع منخفض فوق مدن الساحل. أربع مروحيات تحلّق صباحاً فوق أبنية المدينة مباشرةً، لتهدر بصوتها في آذان وقلوب أنصارها، وتمرَّ بشكل مقصود -كما يؤكد أكثر من ملاحظ لهذه الظاهرة- فوق المنطقة الصناعية في مدينة طرطوس، التي تضم أعداداً كبيرةً من العاملين من كل المناطق السورية، من أهالي طرطوس ومعهم أعدادٌ كبيرةٌ من المهجّرين من حلب خاصة، وحمص وغيرهما أيضاً. إذ يتجمع كل مركز العمل في المنطقة الصناعية بسبب توفر الكهرباء من الصباح حتى بداية العصر دون انقطاع، وذلك إرضاءً للمعامل ودعماً للحركة الصناعية والتجارية التي طوَّرَها ودعمها وجود كبار المهنيين الحلبيين خاصة.
تحلّق المروحيات فوق المنطقة الصناعية، لتترك كل شخصٍ فيها مع اختبار الهول وأثره على الآخرين. يهزُّ بعض المهجّرين رؤوسهم، وأحياناً يقومون بالدعاء لها علّها تظفر وتريحهم من جهنم التهجير، وعلَّ عيون الأهالي هنا تطمئن عند مراقبة ردود فعلهم أثناء مرور المروحيات، فيزيدون بالدعاء أمام غطرسة عيون الموالين.
تتابع المروحيات سيرها شرقاً نحو ريف حمص، ويستطيع المرء تمييزها بوضوح في مقاطع الفيديو القادمة من تير معلة والرستن وتلبيسة وغيرها، لتعود بعد ساعات أخف وزناً بعد أن ألقت صواريخها فوق رؤوس الناس والحارات في تلك المناطق، وتملأ بهديرها الفضاء والأرض حتى يكاد المرء يشعر أنه لو قفز سيمسكها.
كذلك نُشرت مقاطع في الصيف الماضي لطيارين من القوات الروسية يمازحون الناس على شواطئ اللاذقية بالتحليق جيئة وذهاباً، انخفاضاً وعلواً، بمروحياتهم. ومع دعاء الأنصار لهم بالظفر، ونظرات الإعجاب، يمكن إدراكُ أن هذه التحليق المنخفض مدروسٌ بآثاره النفسية، وليس مجرد تسلية، كما أنه طبعاً ليس استراتيجية مفيدةً عسكرياً.
,
يصف أحد المهجرين من حلب وضع أطفاله أثناء مرور المروحيات، فيقول إن هديرها يرعبهم، إذ يتذكرون أصوات القصف ويظنون أن الطائرات عادت لتقتلهم، ويبدؤون بالبكاء والصراخ. حالةٌ مشابهةٌ مرَّ بها معظم المهجرين من كل المناطق في فصل الشتاء، وذلك نتيجة أصوات الرعد في الساحل غزيرِ الأمطار، وهي الأصوات التي تلتبس على الأطفال فيعتقدون أنها قصفٌ يدب الرعب في لياليهم. بعض الأشخاص هنا باتوا يكرهون الأمطار من شدة الفزع الذي تلقيه العواصف الرعدية في قلوب الصغار.
يقول أحد المهجّرين أيضاً: «بتنا من بؤس أوضاعنا نتمنى سيطرة أي طرف، نريد العودة إلى بيوتنا، فلا سبيل للهجرة من هنا بعد إغلاق الحدود اللبنانية والتركية في وجوهنا. نتمنى في كثير من الأحيان أن ينتصر الطيران وتصدق ادعاءات أنصار النظام من حولنا، أو فلينتصر أي أحد، لكن هذه المروحيات تذكرنا بمأساتنا بشكل يومي… ما عنا بكرا»، ينهي عبارته هكذا.
ترافقت هذه السيطرة على الفضاء والنفوس والأقدار والمعطيات، مع سيطرة على مواقع بريةٍ أيضاً، إذ سيطرت القوات الروسية على مطار حميميم العسكري في اللاذقية، ومنعت دخول أي سوري إليه دون تفتيش أو إذن مهما كانت رتبته. كذلك، شوهدت سيارات عسكرية لجيش النظام محملة بالأغطية القديمة وفرشات العسكريين، مرتحلةً إلى نقاط عسكرية أخرى، على نحوٍ يذكّر بمشاهد خروج القوات السورية من لبنان في عام 2005.
هذه المشاهد أثارت سخطاً عاماً لدى الموالين للنظام، لكن سرعان ما بثت الأجهزة الأمنية -كعادتها- أخباراً عن اشتراك الجيشين بنقاط حتى داخل المطار، وذلك لامتصاص هذا السخط وإغلاق باب التعليقات والاستنتاجات. ولم يكن هذا طبعاً على نحو تفاعلٍ مع الرأي العام وإجابةٍ على تساؤلاته، بل كان أشبه بإصدار الأوامر: «عليكم الكفّ عن إبداء السخط، وهذه روايتنا التي ستساعدكم على ذلك».
المشهد الذي لفت العيون والأنظار كثيراً، كان مشهد سيارات عسكرية روسية عادية لا يتجاوز عددها أربع شاحنات، لكن السائق والجالسين بجانبه جميعاً جنود روس، يقودون الشاحنات من اللاذقية على أوتوستراد حمص دون وجود أي عنصر من الجيش السوري، ودون أي مرافقةٍ بسيارات أو شاحنات سورية أخرى. يذهب الجنود الروس ويجيئون بشاحناتهم الجديدة، وبقمصانهم الداخلية أحياناً كأنهم داخل ثكناتهم، أو داخل بلادهم، يعرفون الطريق ولا يحتاجون لأي دليل من الجيش السوري.
يثير هذا قلق بعض الناس، وتبدأ أحاديث مثل القول بأن الجنرالات الروس يحبون جنود حزب الله أكثر من جنود الجيش السوري بسبب مصداقيتهم في المعركة. هو تبريرٌ أولي ذاتي للمشهد الذي فيه استهانة واضحةٌ بسلطات النظام السوري وجيشه، وفيه في الوقت نفسه ضربٌ في يقينية أهداف الوجود الروسي على الأراضي السورية.
يحكي عنصرٌ من عناصر الأمن العسكري كيف كان يرافقهم بدايةً في مدينة اللاذقية، ثم كيف تخلوا عن جميع عناصر الارتباط فجأة، ليختم بتباهٍ حذرٍ عن كيف أصبح صديقاً لعددٍ منهم. يقول أيضاً إن أكثرهم مجرمون محكومون بأحكام تتراوح بين المؤبد والإعدام في بلادهم، وأن أحدهم صرّح له كـ«صديق» بعد سؤالٍ عن استغرابه من عدم قدرتهم على حسم المعارك، أن هدف روسيا هو الموانئ السورية، وأن مهمتهم حمايتها فقط، والباقي هو مجرد مساندةٍ للجيش السوري.
يختم عنصر الأمن العسكري حديثه أخيراً: «إنهم والأمريكان أنذال، ونحن جميعاً أنظف منهم مهما فعلنا».
إعلان القوات الروسية الانسحاب من سوريا
في الرابع عشر من آذار الماضي، أعلنت موسكو أن القوات الروسية بدأت مغادرة سوريا، وأن أولى طائراتها انطلقت إلى قواعدها الدائمة. وفي اليوم التالي، نشرت وزارة الدفاع الروسية مقطعاً مصوراً، قالت إنه للمجموعة الأولى من الطائرات الروسية التي تغادر قاعدة حميميم الجوية في سوريا.
كان واضحاً من سير الوقائع على الأرض أن القرار كان مفاجئاً للجميع، حتى لنظام الأسد، فقد قُصِمَ ظهرُ حكاية النظام وأنصاره؛ حكاية الحسم الوشيك مع تدخل القوات الروسية، وبات واضحاً عدم سعي الروس للاستحواذ على «نصرٍ» حاسم.
لم يستطع أحد أن يأخذ موقفاً، الجميع متخبط، يربط أفعال القوات الروسية بالقرار، أعني الأفعال التي ذكرت سابقاً، والتي قادت إلى القول إن «روسيا ليست حليفة»، و«روسيا صاحبة مصالح كغيرها»؛ إذاً وصلت العبارة الأدق إلى اللسان وقيلت أحياناً، لكن الجميع كان ينتظر الأجهزة الأمنية، ينتظر الإيعاز الذي يتضمن ما يجب قوله عموماً.
تخبط شارع النظام؛ فقد تحولت الجدالات العامة بين المتفائلين والمشككين إلى ترقب مرعب من تحول المشهد، وإلى خلافات جذرية حول جدية التعامل مع الحرب والمعارك. فالروس يتخلّون عنهم قبل أن تحسم أي «جبهة»، وهناك استهتارٌ كبيرٌ واضح بالنظام. ظهر شكل العلاقة بين النظام الروسي والنظام السوري واضحاً؛ إنها علاقة نظام مع مرؤوسيه، لا علاقة نظام مع حلفاء.
ملأ التخبط كيان أنصار الأسد بشكل كامل، وكانت علائمه واضحة ومسموعة.
معارك تدمر الوهمية
هزّت الاستنتاجات قلوب أنصار النظام ومقاتليه، وكان عليه تحويل المشهد من جديد لصالحه، وبعد أقل من عشرة أيام أعلن النظام معركة استعادة تدمر، التي كان تنظيم الدولة الإسلامية قد سيطر عليها في 21/5/2015. أو كما أسماها بعض المشاركين فيها من مجموعات صقور الصحراء، ومجموعات النمر (مجموعة سهيل الحسن)، معركة تدمر الجاهزة، أو معركة تدمر الوهمية.
حوّلَ النظام أنظار الجميع نحو معركة استعادة مدينة تدمر الأثرية، بعد أن كان قد تركها بيد التنظيم، أو أعطاه إياه حسب التحليل الأرجح للوقائع المعروفة، وبعد أن تحولت إلى قضية عالمية، كونها مدينة أثرية مدرجة على لائحة التراث العالمي الإنساني لليونسكو. إذاً حان وقت استعادتها وإعطاء درس للعالم وبرهان على محاربة النظام للإرهاب كما روج ويروج منذ بداية الاحتجاجات، منذ انطلاق أول هتافٍ في الثورة ضده.
تؤكد تقاطعات الأحاديث من المشاركين أن المعركة كانت مسرحية، وأن النظام قد قصف المدينة بقسوة، رغم عدم الحاجة للقصف، فقد كان انسحاب التنظيم فورياً، وكان ضمن قيادة العملية على الأرض عدد من الجنرالات الروس الذين كانوا موجودين كجزء من المسرحية. ومن الملفت أن أجور المشاركين كانت 100 دولار، وليس بالعملة السورية، طبعاً مع فتح الأبواب أمام التعفيش وسرقة البيوت ضمن المدينة السكنية وضمن المدينة الأثرية. ظهرت بعد القصف العنيف غرفٌ أثرية تحت المدينة حسب ما روى أكثر من مشارك، وتمت سرقة تماثيل منها بشكل فوضوي، وليس بشكلٍ احتكاري لبعض «الجهات المختصة» بهذه السرقات كما كان يحصل عادةً في معارك أخرى.
قلبت هذه المسرحية المعادلات المتعلقة بصورة روسيا في أذهان أنصار النظام، وباتت روسيا لا تختلف عن النظام في شيء على صعيد صناعة الأوهام وبيعها، وبات المونولوج اليومي الذي يعيده أنصار النظام على أنفسهم حاسماً أكثر، لأنه سواء كان بوجود الروس أو بوجود النظام وحده، فإن النتائج واحدة، ولا مكان للاستفسارات الجدية. هكذا وصل التواطؤ الداخلي على تزييف الحقائق حداً كبيراً من الوضوح، لا شيء مبهم، بل هناك مشاركة تامة في المسرحية، وطالما أن ثمة فوائد فإنه ليس ثمة اعتراض.
استعاد النظام السيطرة على تدمر في 27/3/2016، بدعم أتى لاحقاً من الطيران الروسي، لتظهر الرواية التي تقول إن إعلان الانسحاب الروسي كان خديعةً موفقة. وتم استخدام هذه الرواية في مواجهة المشككين من أنصار النظام وجنوده؛ وأعطت جرعة تفاؤل إذ لا مجال لإغلاق باب الأمل بانتصار النظام، وإنهاء الموت اليومي المجاني لأنصاره مقابل الأكاذيب. لقد بات الجميع متمرسين في علاج أنفسهم عبر التواطؤ مع الروايات الجاهزة.
أعلن الروس عن عودتهم إلى الواجهة وعن عدم تخليهم عن حلفائهم، ولا عن حصتهم في استعادة تدمر؛ فقد نظمت أوركسترا روسية حفلاً سيمفونياً على مسرح تدمر الأثري السورية في 5/5/2016 بقيادة قائد الاوركسترا الروسي الشهير فاليري غيرغياف، ودام الحفل نحو ساعة أمام 400 متفرج بينهم رجال دين وصحافيون وجنود روس، وعددٌ قليلٌ من سكان المدينة وضمنهم أطفال. أشاد الرئيس الروسي بالحفل الذي بثه التلفزيون الروسي مباشرة باعتباره «عملاً إنسانياً استثنائياً».
,
https://www.youtube.com/watch?v=cEGoE6O10Zs
بقيت معارك منطقة تدمر ومحيطها في الواجهة، تخرج أجزاءٌ منها عن سيطرة النظام لتعود بمشاركة العديد من الفارين من الجيش، وخصوصاً معارك حقل الشاعر التي كانت تبدأ ولا تنتهي، إلى أن أصبح العقيد سهيل الحسن سخرية الجميع من أنصاره وغيرهم، بعد أن قصف الحقل النفطي وأحرقه، في حركة عبثية لا تهدف إلا إلى التعبير الدائم عن وجود معارك يكون النظام المسيطر فيها على المناطق حتى لو دمرها. عاد كثيرٌ من المشاركين بعد ذلك إلى بيوتهم، ولم يعودوا للمشاركة في معارك حقل الشاعر، باستثناء الجنود الأساسين في مجموعات «النمر».
كانت عودة القوات الروسية والطيران الروسي إلى أرض المعركة تدريجيةً، وخصوصاً في تدمر، لكنها وصلت ذروتها في معارك حلب الآن، بل إنها قطعت أي ذروة متوقعة إذ تقوم القوات الروسية بإحراق حلب؛ مستميتةً في دعم النظام للسيطرة على أحيائها الشرقية.
العودة القوية للتدخل الروسي، بعضُ آثارها ومعانيها
عاد كثيرٌ من مقاتلي النظام إلى منازلهم خلال مراحل مختلفة من الحرب، وقرروا عدم المشاركة بسبب قلة الأجور وبيع الضباط لهم على الحواجز، وعدم جدية النظام في معاركه حسب قولهم. وكان على النظام أن يعيد أنصاره إلى القتال، فقد كان من الصعب الصدام معهم، لأن الجميع مسلحون ويملكون ذرائعهم المتعلقة بإطعام عائلاتهم وحماية أولادهم. كانت هناك محاولات من الشرطة العسكرية لاعتقال أكثر من فارٍ من صفوف الجيش من منزله، وقد تم التصدي لدوريات الشرطة العسكرية بالسلاح في أكثر من حادثة، ما جعل النظام يعتمد على الدوريات الطيارة لاصطياد الفارين، عند مفارق ومداخل المدينة.
قرر النظام تسوية أوضاع الفارين عن طريق تطويعهم في مجموعات خارجة عن نطاق الجيش، مجموعات لها استقلاليتها، مثل صقور الصحراء، التي يقودها محمد الجابر وتتمتع بدعم عالٍ ورواتب مرتفعة، وحتى لباسٍ مميز مدجج بالعتاد الفردي. كانت مهمة هذه المجموعات منذ بدايتها حماية طريق العراق، طريق القوافل التجارية، وكان هذا مصدر تمويلهم الأول.
بعد خروج تدمر والطريق عن سيطرة النظام، فرَّ غالبيتهم ثم التجأوا إلى معركة تدمر ومجموعات سهيل الحسن، ومجموعات تابعة للمخابرات الجوية التي كانت تشكل خصيصاً لتسوية أوضاع الفارين. كانت هذه المجموعات ترمي المتطوعين معها على جبهة المعارك مباشرة، لكن قدرة المتطوع على أن يعود لبيته في أي لحظة كانت تجعله يرضى بهذه الشروط، فهم يذهبون لمدة أسبوع ويعودن لبيوتهم لمدة أسبوع وأسبوعين غالباً، إضافة إلى الأجور العالية مقارنة بالمجموعات الباقية، والطمع بالدخول إلى مناطق جديدة بغية تحاصص نهب المنازل.
استخدمت استراتيجية زجّ الفارين في معارك سهلة وبشروط مريحة كمعركة تدمر للتغطية على خبر انسحاب القوات الروسية أولاً كما قلنا، لكنها أصبحت منهج عمل دائمٍ لجذب الفارين وغيرهم إلى أرض المعركة. وزادت هذه المجموعات قوة وعديداً وجذباً بعد عودة الطيران الروسي بشكل أقوى إلى ساحة المعارك، وإلى المشاركة الفعلية الواضحة.
كانت المعارك المدعومة بالقوات الجوية الروسية ذات أهمية كبيرة في جذب الفارّين، إذ كان حضور المقاتلات الروسية يعطي انطباعاً بالأمان النسبي وضمان تحقيق الإنجاز، لكن الإنجازات المأمولة باتت مختلفةً في مرحلة العودة الفعالة للقوات الروسية بعد إعلان انسحابها، إذ لم يعد أحدٌ ينتظر انتصاراً ناجزاً وسريعاً كذاك الذي كان متوقعاً عند بدء التدخل العسكري الروسي.
يمكن الاستنتاج أن القصد من إعلان انسحاب القوات الروسية كان فصل أهداف الحلفاء عن بعضها بعضاً، دون انتظار نتائج مرجوة من تقدّم وغيره؛ وهكذا فصلت روسيا نفسها عن مقاصد تدخلها، وعن دعايات الترويج له، إذ كان عليها -في حال عدم الفصل- أن تنجز انتصاراً قوياً على الأرض يساير قوتها ومركزها وعتادها.
بات أنصار النظام ينظرون إلى المروحيات المحلّقة بعلو منخفض بدهشة وإعجاب فقط، ولكن دون دعاء أو غيره، وكأن المروحيات تمرُّ من دولة إلى دولة عبر سمائهم، أو كأنها تقوم بنزهة لتحيتهم وتفقدهم كل صباح. يعيشون ضمن سياق لا يتضمن عنصر الزمن أهميةً كبيرة فيه، إذ لا وعود بعد الآن لتصديقها، وليس هناك إلا معارك وهمية كما يسمونها هم أنفسهم، ولا مشكلة ما دامت طرقاتهم قد باتت أكثر أمناً من الساحل حتى حمص ودمشق، كما يقولون.
باختصار؛ تسمح مراجعة آثار التدخل الروسي ومراحله على أنصار النظام السوري بالقول إنهم ليسوا مجرد جمهور، بل إنهم مشاركون في كل ما يحدث بما في ذلك صناعة الأكاذيب والأوهام. هم ليسوا أنصاراً، بل هم يد النظام في سلوكياته وأخباره ومنهجه، يطالبونه بجرعات من الكذب لتبرير أفعالهم، يعرفون ما يجري ويستخدمون وقوف قوىً إقليمية ودولية معهم.
لعل العودة إلى مشهد حكايتنا الأول ضروريٌ هنا، فذلك المُخبرُ الذي قال الحقيقة بعد تعرضه للضرب والإذلال هو صورةٌ واضحةٌ عن معرفة الجميع بحقيقة ما يجري. وهي ليست المثال الوحيد، إذ في كل وقتٍ تقلُّ فيه المكاسب، يبدأ أنصار النظام بشتمه وشتم رؤوسه، ليتراجعوا عن ذلك لاحقاً.
بعد يومين من حادثة إذلال المخبر التي دفعته إلى الإفصاح، عاد إلى سابق عهده بالتمجيد والدعاء للمروحيات العابرة فوق رؤوسنا، كأنها تنبيهٌ يوميٌ بأن الفضاء هنا مسبيٌ «لكم وعليكم».