قليلون هم السوريون الذين يصرّحون برأيٍ واضحٍ تجاه عنتاب التركية، فهي مدينة «إشكاليةٌ» بالنسبة لكثيرين منهم. يصفها بعضهم من ذوي النظرة الرومانسية بالمدينة الباردة، وآخرون كارهون لها قاطنون في مدن تركية أخرى، يقولون إنها «مقر الطغمة النخبوية»، أو يختصرونها بـ «ناشطي عنتاب»، وهو وصفٌ أشبه بشتيمة مؤدبة. أما الصنف الثالث، وهم الأكثر براغماتيةً وحياداً، فيصفونها بتجرد: «مدينة غالية»، للتعبير عن غلاء المعيشة فيها مقارنةً بمدن حدودية أخرى.
من جهتي، أعتقدُ أن عنتاب هي أكثر مدينة قرباً إلينا، وكذلك الأكثر بعداً عنّا في الوقت ذاته، وذلك على نحو غريبٍ لا نراه في مدن أخرى. فمن خلال قلعتها التي تشبه قلعة حلب بنسخة أصغر بكثير، وقربها من الحدود السورية، وطقسها الشبيه بطقس عدة مناطق سوريّة، فإن عنتاب قريبةٌ منّا. لكنها بعيدةٌ لأنها المنفى والمضاد للوطن، إنها المنفى القريب، أقرب منفى ممكن إلينا، وهو منفى بطعم الوطن، ووطن مؤقت في المنفى. إنها أكثر من مدينة عابرة، وأقل من مُستَقَر دائم.
على أي حال، فإنني لن أتعرض لأنماط السوريين وتصنيفاتهم وفق مواقفهم من عنتاب، وذلك لسببين: أولهما أنني أكره النمطية المطلقة في قياس الأمور عامةً، ولذلك سأحاول كسر النمطية التي تكلّل أي حكم على مدينة «الناشطين». أما السبب الثاني فهو أن هناك قصصاً وحيوات بشر آخرين، من بينها حياتي أنا، جديرة بأن أتكلم عنها، بدلاً من الحكم المجحف الذي يختصر عنتاب وحياة السوريين فيها بأسوأ مظاهرها وتجاربها.
أتذكرُ هنا مفاجأتي بلهجة ناشطٍ مدنيٍ أثناء كلامه في جلسة تعريفية عن عمل منظمة مجتمع مدني ضخمة في عنتاب، كانت لهجة متعالية ومترفعة: «من غير المعقول أن تقوموا بتنفيذ مشاريع في أنطاكيا ومرسين وأورفا، ولا تنفذوها هنا في عنتاب، هنا مركز نشاط السوريين، هنا عاصمة السوريين!».
ما هو المختلف في عنتاب، عاصمة السوريين حسب قوله، حتى تُعامَل وقاطنوها من اللاجئين معاملة خاصة؟ لماذا يصرُّ عددٌ لا بأس به من السوريين القاطنين في تركيا على القول بتفرد عنتاب كمدينة لجوء؟ عنتاب مجرد مدينة تركية حدودية مع سوريا، يقطنها مئات آلاف اللاجئين، شأنها شأن عددٍ من المدن التركية الأخرى. ربما يكون المختلف هو الوجود الحلبي الكثيف، من صناعيين وتجار، وطبعاً وسطاء مكاتب عقارية «دلالين»، وهم فئة يرميها السوريين هنا بوابل من التهم الجاهزة عن الاستغلال وانعدام الضمير، والأهم أنهم كانوا سبباً في وجود ما يسمى «الكومسيون»، وهي مبالغ يتقاضها هؤلاء لقاء خدماتهم العقارية ويقول أعداؤهم أنها كانت غير موجودة في عينتاب سابقاً، وأن هؤلاء هم من أسّسوا لها فيها.
وفي هذه المدينة أيضاً كان مقرُّ الحكومة المؤقتة الرئيسي، وتتركز فيها المقرات الرئيسية لمعظم المنظمات. ورغم كل ذلك، لا تبدو بالنسبة لي حماسة ذلك الشاب العشريني لهذه المدينة «العاصمة» ولاجئيها محقةً، ولا عادلةً بحق السوريين في تركيا.
لا لتعلم التركية، لا للغربة الدائمة
منذ يومين، لم أعد ألاحظُ بواب بنايتنا التركي، وهي بنايةٌ ذات إجراءات أمنية عالية. أخبرتني جارتي العجوز أنه أصيب بأزمة قلبية حادة، وهو في وضع خطر، لذلك قرروا فصله من عمله.
قبل أسبوعين فقط كنتُ عائداً إلى المنزل، عندما استوقفني البواب وسألني إذ كنتُ قادراً على قراءة الإنكليزية، سألني باللغة التركية طبعاً. أخبرته أنني قد أتمكن من الترجمة من الإنكليزية، ولكن إلى العربية وليس إلى التركية، فلن يستفيد على كل الأحوال. كان كلامي معه خليطاً من الإشارات والكلمات العربية، والقليل جداً من التركية. قرأتُ ما هو مكتوبٌ على ظهر علبة الدواء، كان هناك تحذيرٌ من استخدامه من قبل مرضى القلب. جهدتُ خلال الدقائق العشرة اللاحقة في محاولة إيصال هذه الفكرة له، وعندما توهمت أنني قد نجحت في ذلك تركتُه ومضيت.
منذ سماعي بخبر إصابته وأنا أفكر في قضية تعلم اللغة التركية، ونحن الذين نبذل طاقةً وجهداً لتعلم لغات أخرى. لماذا هذا الإصرار على عدم تعلمها؟ يتزعزعُ إيماني أكثر باحتمالية العودة إلى سوريا مع كل يوم يمضي هنا، في كل يوم تصبحُ العودة أبعد وأبعد. ربما كان بإمكاني إنقاذ حياة البواب التركي الطاعن في السن لو أنني تعلمت التركية، ماذا لو جرى هذا الموقف مرةً أخرى؟ ماذا لو كان الشخص القادم قريباً أو صديقاً، أو أنا نفسي إذ تتوقف حياتي على بضع كلمات باللغة التركية. الحلُّ الوحيد أن نتعامل مع باعةٍ سوريين، بنايات ببوابين سوريين. الحلُّ هو أن نحتمي ببعضنا وننظر إلى الآخر من بعيد، ونكتفي بـ «غونايدن» أو «نكدار» أو «بلم يورم» وما على هو شاكلتها من الكلمات التي تختصر لنا جملاً وأشياء لا نستطيع تعلمها باللغة التركية.
أخشى أحياناً أنني سوف أفعل الأمر نفسه إذا شاءت الظروف أن أسافر إلى بلد آخر. هل سوف أجد أعذاراً أيضاً لعدم تعلم لغته سواء كانت إنكليزية أم فرنسية… إلخ؟ أم أنني سوف أتعلمها؟ ربما يكون عدم التعلم والتعلم بدرجة السوء نفسها، فإن تعلمت نسيت، نسيت بلدي وأهلي وما كنت عليه، وإن لم أتعلم كنتُ مجرد منفيٍ يؤلمه الحنين.
للغريب نسيبُ
أما البواب السوري الذي تعرفتُ عليه عندما كنت أقيم في المبنى السابق، قبل أن انتقل إلى هذا المبنى، فما زال يراسلني عبر برامج التواصل الاجتماعي في الأعياد والمناسبات، يقوم بمعايدتي والاطمئنان عليَّ بشكلٍ دوري. ناصر شابٌ لطيفٌ من سراقب، كان يناديني عندما أراه أمام البناية «أستاذ». أخبرته عدة مرات أنه يجب عليه أن يرفع الكلفة بيننا، إلا أن دماثة خلقه العالية كانت تمنعه كل مرة من رفع الكلفة.
أطلَعَني ذات مرة على كتابات خاصة به على بضعة أرواق، كانت قصصاً له عن الثورة، وعن شابٍ استشهد في منطقته قبل يوم زفافه بيوم عندما كان في إحدى المظاهرات. يبدو من الكتابات أن حزن ناصر عليه كبيرٌ جداً، لم أستطع أن أساعده في نشر ما كتبه، ولكنني أكدتُ له ضرورة أن يحتفظ بما كتب في حال عدم نشره، فقد يكون قصة جميلة وأسطورية عن هذا الجيل لحفيده أو ابنه، الذي سوف ينظر بالتأكيد بمزيجٍ من الفخر والغبطة إلى ما كتبه أبوه أو جده عن سجايا صديقه الشهيد، وختمتُ حديثي له: كم هي مكلفة الأساطير.
هذا ما كان يشغل بال ناصر، أما ما يشغل بال جارتي الحلبية الستينية القديرة فيبدو أنه العودة إلى حلب. قالت لي منذ يومين عندما التقيتُ بها في الحديقة القريبة: «كل مين راجع لبلدو! جيراننا العراقيين بتعرفهم؟ طلعوا من بيوتهم البارحة، يقولون راجعين للعراق، ملوا هون، إلا نحنا ما ملينا من الغربة».
أحاولُ أن أخفف مصابها بالتأكيد أن العراق ليس أفضل حالاً وأنهم عائدون إلى إقليم كردستان وليس إلى مدنهم ومنازلهم: «الكل بنفس الحالة»، ولكن الحزن يأبى أن يبرح عينيها الغائرتين. كانت هي وزوجها العجوز ينظران إليَّ بنوعٍ الريبة، كأي رب عائلة أفنى حياته من أجل أسرته عندما يقابل شخصاً يعود بمفرده دون عائلة، دون زوجة ودون أبناء. ربما يشفقان عليَّ في سرهما، وعلى الحياة التي أحياها. في أول حديثٍ مع السيدة كانت قد قالت لي: «أنا مثل أمك يوم، أي شي تحتاجه خبرني».
أما زوجها الكهل فيحدثني عن منازله الثلاث التي دُمِّرَت جراء الحرب، كم يشقُّ عليه أن يستأجر سكناً اليوم بعد أن كان مالكاً أصيلاً لمنزله. يحاول أبو محمود أن يقتل وقته في الغربة بالعمل في الحديقة الصغيرة التي يشرف عليها مسكنه، يحرثُ الأرض تحت الزهور، يسقيها ويشذبها. تمنيتُ مرات عديدة أن أشاركه العمل، لأنني أنا الشاب ابن الأربعة والعشرين ربيعاً مثله في هذا، أحتاجُ إلى قتل زمان الغربة الطويل في هذه الحديقة ودفنه تحت تربتها، إلا أنني خشيتُ مزاحمته، فيفقدَ ذلك العجوز سعادته بخلواته مع نفسه في الحديقة.
رحل أبو محمود عن سكنه بجواري، استأجرَ منزلاً بالقرب من سكن أبنائه. في الجلسة الأخيرة قبل أن يرحل، أخبرني أنه كرديٌ ولكنه يتظاهر بأنه تركماني: «عسكرية دبر راسك يا يوب، شو بدنا نعمل». وحدّثني كذلك عن احتياله على حرس الحدود التركي ليعبر الحدود، عندما تظاهر أنه تركي الجنسية مستفيداً من إلمامه باللغة التركية، التي تعلمها من زوجة جده التركية التي قامت بتربيته.
حدَّثني عن قريته القريبة من عفرين، وعن ذكرياته فيها. قال إنه عندما كان صغيراً إبّان الحرب العالمية الثانية، جاء جنودٌ هنودٌ إلى قريته مع قوات دولة بريطانيا وحكومة فرنسا الحرة، وإنه يتذكرُ بوضوحٍ أنه شاهدهم يحرقون أحد موتاهم في نهر عفرين حسب الطقوس الهندوسية. كما باح لي بسرِّ تركِه لمهنة الطب الشرعي، بعد أن قام بتشريح جثماني شابين من قريته قُتِلا في شجارٍ على شبرين أو ثلاثة من الأرض. لقد تركَ هذه المهنة بعد أن أدرك أنها تسيء لإنسانيته وإنسانية من يحرك المبضع في أجسادهم تشريحاً وتقطيعاً، رغم أن المردود المادي لها مجزٍ وأنه كان بحاجة إليه. نظرَ إليَّ وهو يقول: «تغير الزمن يا ابني وصارت البشر تنقتل بالآلاف، والبشر ترحل من أرضها لآلاف الكيلومترات». تحدّثَ كثيراً في تلك الجلسة، وقال ما يكفي لتلخيص سنوات عمره، واحدٌ وثمانون عاماً.
أحاديث السوريون كثيرةٌ في عنتاب، عن مناطقهم وأهاليهم وذويهم، عن الهجرة إلى أوروبا، وعن استخدام الأتراك للزيت النباتي بدلاً من السمن الحيواني، الذي يعتقدون أنه سبب رائحة أجساد الأتراك التي يدّعون أنها مختلفة عن رائحة أجسادهم. يختمون حديثهم بهذا الشأن بحبورِ المنتصر، بعد أن الوصول إلى نتائج: «السوري أفهم» و«تركيا ما فيها شي حلو». أما المواضيع التقليدية التي باتوا يتجنبون الحديث عنها، فهي القصف اليومي والقتل المستمر في مكانٍ بعيدٍ عنهم، لكنهم ما زالوا منذ خرجوا منه لا يشعرون بالراحة إلا لِماماً.